من السودان إلى تونس: هواجس خوف وبوارق أمل/ صبحي غندور

في أسبوعٍ واحد امتزجت على الأرض العربية هواجس خوف على أوطان مع بوارق أمل من شعوب. فالأسبوع الثاني من مطلع العام الجديد شهد بداية تشريعٍ دولي و"عربي" وسوداني لانفصال جنوب السودان عن وطنه وعن أمّته، كما شهد منتصف الأسبوع تدخّلاً أميركياً سافراً في الشأن اللبناني أدّى إلى تعطيل المبادرة السعودية/السورية العاملة لحل الأزمة السياسية اللبنانية، وبالتالي إلى تصاعد درجة المخاوف على أوضاع لبنان ومستقبله.

لكن الأسبوع نفسه شهد في ختامه ما كان تتويجاً لانتفاضة الشعب التونسي ضدّ حكمٍ ظالم وفاسد، حيث تحوّلت الانتفاضة إلى ثورة غيّرت معالم تونس السياسية ودفعت بحاكمها إلى الهروب سرّاً من وطنٍ كان يتصرّف به وكأنّه شركة خاصة مملوكة له ولعائلته.

فما حدث في أسبوعٍ واحد داخل أوطان من مشرق الأمّة ومغربها، وفي عمقها الأفريقي، هو دلالة هامّة على نوع وحجم القضايا التي تعصف لعقودٍ طويلة بالأرض العربية، وهي كلّها تؤكّد الترابط الحاصل بين الأوضاع الداخلية وبين التدخّّلات الخارجية، بين الهموم الاجتماعية والاقتصادية وبين فساد الحكومات السياسية، بين الضعف الداخلي الوطني وبين المصالح الأجنبية في هدم وحدة الأوطان.

ولعلَّ أهم دروس هذه القضايا العربية المتداخلة الآن هو تأكيد المعنى الشامل لمفهوم "الحرّية" حيث أنّ الحرّية هي حرّية الوطن وحرّية المواطن معاً ولا يجوز القبول بإحداها بديلاً عن الأخرى. كذلك هو التلازم بين الحرّيات السياسية والحرّيات الاجتماعية، فلا فصل بين تأمين "لقمة العيش" وبين حرّية "تذكرة الانتخابات". وكم يكون حجم المأساة كبيراً حينما تعاني بعض الأوطان من انعدام كل مضامين مفهوم الحرية، أو حين تجتمع عندها حكومات تفرض "الخوف والجوع" معاً في ظلِّ هيمنةٍ أجنبية وفسادٍ سياسي في المجتمع.

ربّما هي سمةٌ مشتركة بين عدّة بلدان عربية أن تنجح شعوبها في مقاومة المستعمر والمحتل ثمّ تفشل قياداتها في بناء أوضاع داخلية دستورية سليمة. فمعارك التحرّر الوطني لم تكن مدخلاً لبناء مجتمعات حرّة يتحقّّق فيها العدل السياسي والاجتماعي والمشاركة الشعبية في الحكم وفي صنع القرار. وبسبب ذلك، عادت هذه البلدان إلى مظلّة الهيمنة الأجنبية، وفقدت من جديد حقَّ تقرير مصيرها الوطني بعد فشلها في بناء الدولة الديمقراطية العادلة.

نجد أيضاً في ملاحظة ما يحدث على الأرض العربية الآن أنّ ما هو مشترك، بين الحكومات التي تعصف الأزمات في مجتمعاتها، هو أولويّة الحفاظ على استمراريّة الحاكم بالحكم لا أولويّة المصلحة الوطنية العليا وبقاء الوطن موحّداً. كذلك نجد على مستوى الشعوب عموماً حالات سلبية من الانقسام على أسس طائفية أو قبلية أو أثنية بدلاً من الصراعات السياسية والفكرية والاجتماعية والطبقية، والتي هي ظواهر صراعات طبيعية في أيِّ مجتمع حيوي موحّد.

أمّا على صعيد الدور الخارجي في الأزمات العربية، فهو أيضاً عنصرٌ فاعل في إحداثها أو في توظيفها واستثمارها. وهذا الدور الخارجي يجمع، على امتداد أكثر من نصف قرن، بين إسرائيل ودول كبرى حتّى في القضايا العربية الصغرى.

فمنذ العدوان الثلاثي (البريطاني-الفرنسي-الإسرائيلي) على مصر في العام 1956 إلى تحقيق هدف انفصال جنوب السودان، حصل ويحصل التدخّل والتآمر الإسرائيلي/الأجنبي على أوطان الأمَّة العربية. حدث ذلك في انفصال الوحدة السورية/المصرية عام 1961، ثمّ في حرب العام 1967 وفي إشعال حروب أهلية عربية من مشرق الأمّة إلى مغربها بعد معاهدات "الصلح" مع إسرائيل، ثمّ في غزو لبنان عام 1982. حدث ذلك في الحرب على العراق وفي الحرب على لبنان وغزّة في العقد الأول من القرن الجديد. وهاهو يتكرّر الآن في السودان وأزمات لبنان وفلسطين والعراق واليمن.

لكن هذا التدخل الإسرائيلي/الأجنبي ما كان ليحدث بهذا الشكل والمضمون لولا حالات الوهن والضعف في الجسم العربي عموماً وداخل الكثير من أوطان العرب.

ويتفهّم المواطن العربي (وإنْ لم يوافق على) ما قامت به قيادة منظمة التحرير الفلسطينية حينما "أجبرتها الظروف" على توقيع "اتفاق أوسلو" في العام 1993 عندما اختارت مصالح المنظمة على حساب مصالح الشعب الفلسطيني!. والحال نفسه مع ما قام به الحكم السوداني في توقيع اتفاق عام 2005 بشأن الجنوب والذي انتهى الآن بتشريع انفصاله عن الوطن الأم، حيث "الخيار" كان مصلحة الحاكم واستمراره في الحكم على حساب مصلحة الوطن ووحدته.

لكن ما لا يفهمه المواطن العربي وما لا يغفره هو ما قام به حكم أنور السادات، وما يتمّ الحرص بعده على استمراره، من اقتلاع مصر من دورها الريادي العربي والأفريقي وعزلها عن محيطها، وهي القلب فيه، حينما جرى توقيع المعاهدة المصرية/الإسرائيلية رغم النتائج العظيمة لحرب أكتوبر في العام 1973. فما حدث في مصر آنذاك كان وما زال مصدر الخلل الكبير الذي عاشته المنطقة العربية منذ ثلاثة عقود وما تزال. وتصحيح هذا الخلل هو الأساس لأي تغيير عربي إيجابي منشود في عموم المنطقة. ما عدا ذلك، يكون أشبه بمنشّطات تزيد إلى حدٍّ ما من قدرة الجسم العربي العليل على مقاومة ما فيه من أمراض، لكنها لا تشفيه من أخطرها وهو ما حدث ويحدث في قلبه المصري.

إنّ ما يجري في السودان مع مطلع هذا العام (في ظل غياب الدور المصري الفاعل) لا ينفصل عمّا يجري في شمال العراق، ولا عن محاولة فصل جنوب اليمن عن شماله، ولا عن تصاعد العنف ضدّ الكنائس العربية، ولا عن إثارة الغرائز الانقسامية بين المذاهب الإسلامية. بل إنّ كلّ ذلك يؤكّد جدّية المشروع الإسرائيلي/الأجنبي الساعي لتفتيت ما هو أصلاً مقسّمٌ عربياً، ولإقامة دويلات "فيدرالية" ترث "الرجل العربي المريض" كما ورثت اتفاقيةُ (سايكس/البريطاني وبيكو/الفرنسي) مطلع القرن الماضي "الرجلَ التركي المريض".

أيضاً، ما يحدث الآن في عموم أرض العرب، هو تعبيرٌ ليس عن خطايا حكومات وأنظمة فقط بل هو مرآةٌ تعكس الفهم الشعبي العربي الخاطئ للدين وللهويتين العربية والوطنية ولمدى خلط بعض المعارضات بين مواجهة الحكومات وبين هدم الكيانات الوطنية، ولسقوط بعض المعارضين والمفكّرين في وحل وهُوّة التفكير الطائفي والمذهبي.

إنّ المشترك بين البلاد العربية لم يعد وحدة اللغة والثقافة والتاريخ والجغرافيا فحسب، بل أيضاً وحدة الحال من حيث وجود حكومات فاسدة وقمع سياسي وبطالة واسعة وفقر اجتماعي وانعدام فرص العمل أمام الجيل الجديد، وكلّها عناوين لانتفاضات شعبية وراءها عشرات الملايين من المظلومين والفقراء على الأرض العربية.

لكن ماذا بعد الانتفاضات، وعلى أساس أيّ برنامجٍ للتغيير؟

تونس هي الآن نموذجٌ جميل وممتاز لكيفيّة أسلوب التغيير الداخلي المنشود في بلدان عربية أخرى، من حيث الإصرار على الهدف واستمرار الحركة الشعبية السلمية الرافضة لاستخدام العنف المسلح، والحريصة أيضاً على مؤسسات الدولة وعلى مؤسسة الجيش الوطني، والمستعدّة لمزيدٍ من التضحيات، والرافضة للمساومات الهادفة إلى جعل التغيير في الأشخاص فقط. فهذه الثورة التونسية الشعبية العظيمة استطاعت التمييز بين صوابيّة إسقاط النظام وخطيئة إسقاط الدولة، ثمّ رفضها للتغيير في الأشخاص والحاكم فقط وليس التغيير في النظام ودستوره وسياسته.

لكن هذا النموذج التونسي، الذي ما زال يانعاً ولم ينضج بعد، حصل في مجتمع متجانس في كل تركيبته الدينية والأثنية، فلا تعدّدية طائفية أو مذهبية أو عرقية على أرض تونس الخضراء، وحالها غير ما هي عليه أحوال أوطان عربية أخرى ما زال هاجس التغيير "الجغرافي" فيها أهم من أمل التغيير "السياسي".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق