(موعد أيلول / سبتمبر المقبل يحاصر مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية الآن بين خيارين: إما أن يفي بوعده وكل الدلائل تشير إلى أنه لن يفي به، وإما أن تبتلعه الموجات العاتية لطوفان انتفاضة الجماهير الشعبية العربية ضد الوضع الراهن التي سوف تصل فلسطين إن عاجلا أو آجلا)
سبق أن وعد الراعي الأميركي على مستوى الرئاسة مفاوض منظمة التحرير بمفاوضات على قضايا "الوضع النهائي" تفضي إلى "حل الدولتين" عام 1999 وعام 2005 وعام 2008 ، دون أن يفي بوعده، ومع ذلك فإن مفاوض المنظمة قد أخذ على محمل الجد الوعد الأميركي الذي جدده الرئيس الحالي باراك أوباما في مستهل عهده بدولة فلسطينية خلال عامين، ليقدم المفاوض هذه المرة "وعدا فلسطينيا" بولادة دولة فلسطينية في شهر أيلول / سبتمبر المقبل، في رهان أخير على إقامة الدولة في ذلك الموعد أو، "كملاذ اخير"، كما قال "الرئيس" محمود عباس لتلفزيون فلسطين في نيسان / أبريل العام الماضي، سوف يحل سلطة الحكم الذاتي الإداري المحدود ويسلم "المسؤولية الكاملة" عن الضفة الغربية إلى دولة الاحتلال ثم يذهب إلى مجلس أمن لأمم المتحدة ليطلب منها الاعتراف بدولة فلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967، وإذا حال حق النقض "الفيتو" الأميركي دون ذلك فإنه سيذهب إلى الجمعية العامة للمنظمة الأممية للهدف نفسه.
لكن كل الدلائل تشير إلى أن الولادة الموعودة في الشهر التاسع من العام الجاري لن تتم لأن الحمل كاذب ووهمي، أما إذا كان هناك حمل فعلا فإنه سيكون حملا غير شرعي يتمخض عن جنين مشوه لن تتسنى له الحياة خارج الحاضنة الاصطناعية لدولة الاحتلال.
إن حق النقض "الفيتو" الأميركي الذي استخدمه أوباما يوم الجمعة الماضي سوف يدخل التاريخ باعتباره الأول من نوعه في عهد إدارته وسوف يدخل التاريخ الفلسطيني باعتبار هذا الاستخدام الأول له كان موجها ضد الشعب الفلسطيني وبخاصة الجزء الذي يعيش منه تحت الاحتلال منذ عام 1967 بفضل "الفيتو" الأميركي الذي استخدمه أسلافه. وكانت المجموعة العربية قد أفشلت مناورة أميركية بعد لقائها بالسفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس يوم الأربعاء الماضي لاستبدال مشروع القرار الذي تقدمت به إلى مجلس الأمن الدولي بواسطة لبنان، العضو العربي الوحيد في المجلس، بشأن الاستيطان ببيان رئاسي.
ولا جديد طبعا في استخدام "الفيتو" الأميركي ضد الشعب الفلسطيني، وتكمن أهمية هذه الممارسة الأميركية المألوفة إن تجددت في كونها مؤشرا لا يقبل الجدل على أن مفاوض منظمة التحرير قد تورط في وعد شعبه بدولة بناء على وعد أميركي تقدم به أوباما في الثاني من أيلول / سبتمبر الماضي باختتام المفاوضات "المباشرة" بين مفاوض المنظمة وبين حكومة دولة الاحتلال خلال عام ينتهي في الشهر نفسه من العام الحالي ثم جدد وعده في خطابه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في الشهر نفسه عندما قال: "عندما نعود إلى هنا العام المقبل يمكن ان يكون لدينا اتفاق سوف يقود إلى عضو جديد في الأمم المتحدة – دولة فلسطين مستقلة وذات سيادة تعيش في سلام مع إسرائيل".
لقد كان هذا هو الأساس الذي بنى عليه مفاوض المنظمة وعده بدولة في أيلول/سبتمبر المقبل، وهو أساس كالرمال السياسية المتحركة الأميركية المعروفة التي تبتلع من يتعسه حظه فيجد نفسه غارقا فيها فكم بالحري من يذهب إليها بقدميه كمفاوض المنظمة الذي يدخلها بعينين مفتوحتين لكنهما لا تبصران.
لقد كان المتوقع أن ينفض المفاوض يده تماما من أي رهان على وعود أوباما بعد أن توقفت المفاوضات "المباشرة" بعد ثلاثة أسابيع من إطلاقها في واشنطن نتيجة عجز أوباما وفشله وتراجعه عن الوفاء بوعوده أمام تحدي دولة الاحتلال له ولهيبة بلاده علنا، لأن تحديد ايلول المقبل موعدا لولادة دولة فلسطينية مشروطة مسبقا باختتام مفاوضات تستغرق عاما لم يقدر لها حتى الآن أن تستانف بعد توقفها يصبح محاولة يائسة للتشبث بأمل كاذب في أن تحدث معجزة ما تلزم أوباما بوعده حتى يستطيع مفاوض المنظمة أن يفي بوعده بدوره.
وقد وقعت معجزة فعلا في تونس أولا ثم في مصر، أطاحت بظهيرين عربيين رئيسيين لمفاوض المنظمة، ووجد "شركاء" هذه المفاوض في "عملية السلام" في ضعفه الناجم عن هذه المعجزة "لحظة فرصة" لدفعه إلى استئناف المفاوضات "المباشرة" دون شروط، كما قال ممثل الرباعية توني بلير يوم الاثنين الماضي، ليصبح "الوقت عاملا وإحراز تقدم عاجل في التسوية الفلسطينية الإسرائيلية أمر ضروري" كما أضاف وزير خارجية روسيا سيرجي لافروف في اليوم التالي، لتنضم مسؤولة الأمن والسياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون في اليوم نفسه إلى جوقة من يعتبرون "التغيرات الهامة في تونس وطبعا في مصر فرصة لنا كي نحاول ونشارك بصورة أفضل وأسرع في حل قضية عملية السلام"، بينما رأى وزير الخارجية البريطاني وليام هيغ يوم السبت المنصرم أنه "من الحيوي الآن: إحراز تقدم في "عملية السلام" باعتبار ذلك "أحد الأشياء الجيدة التي قد تتمخض عن الأحداث في مصر وتونس"، ومثل هؤلاء اعتبر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي "التغيرات" المصرية والتونسية فرصة تجعل " من الملح إحياء المفاوضات المباشرة بين الاسرائيليين وبين الفلسطينيين" كما قال في التاسع من الشهر.
وهؤلاء هم ممثلو الأعضاء الثلاث في اللجنة الرباعية الدولية الراعية ل"عملية السلام في الشرق الأوسط". أما العضو الأميركي الرابع في "الرباعية" الذي يقود هذه العملية فقد كشفت ردود فعله الرسمية على سقوط نظام الرئيس السابق حسني مبارك أن الولايات المتحدة معنية بضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي واستمرار الالتزام المصري بمعاهدة الصلح المنفرد معها باعتباره الضمانة الأهم لأمنها أكثر مما هي معنية بالسلام وأي عملية له.
ولم يفوت هذه "الفرصة" حتى رئيس دولة الاحتلال شمعون بيريس الذي حث في مؤتمر هرتزليا الحادي عشر في السادس من الشهر على أنه "يجب على إسرائيل أن تعمل في أقرب وقت ممكن على حذف الصراع الاسرائيلي – الفلسطيني من الأجندة الاقليمية" بسبب "الأحداث الدرامية الأخيرة" في المنطقة ليتفق معه الأمين العام لحلف "الناتو" أنديرز فوغ راسموسين في المؤتمر نفسه على أن "عدم حل هذا الصراع سوف يظل ينسف الاستقرار في المنطقة".
وكانت "الرباعية" أثناء اجتماعها في ميونيخ أوائل الشهر الجاري قد حثت في بيانها على الالتزام بموعد ايلول / سبتمبر المقبل بدعوتها إلى "اختتام المفاوضات قبل ايلول / سبتمبر 2011". وتستعد الرباعية الآن لاستقبال وفدين فلسطيني وآخر إسرائيلي كلا على حدة في بروكسل أوائل آذار / مارس، تمهيدا لاجتماعها على مستوى وزراء الخارجية في منتصف الشهر المقبل. وتستعد باريس لاستضافة مؤتمر جديد للمانحين الدوليين لسطة الحكم الذاتي في رام الله. وتستعد المنظمة لاستئناف المفاوضات بإعادة تأهيل دائرة المفاوضات ولاستقبال المولود المأمول في الشهر التاسع من العام بترتيب بيتها الداخلي عن طريق تأليف حكومة جديدة تكون أكثر تمثيلا للفصائل الأعضاء فيها، ويكون مهامها الرئيسية استكمال بناء مؤسسات الدولة المنشودة قبل موعد أيلول، لكن الأهم أنها تستعد لإضفاء شرعية على تمثيلها للشعب الفلسطيني بالدعوة إلى انتخابات رئاسية وتشريعية ومحلية قبل الموعد المحدد المعلن.
وكل هذه الاستعدادات ل"شركاء عملية السلام" تشير فقط إلى وجود جدول زمني حتى أيلول، "وهذا إطار زمني وافق الجميع عليه" كما قالت أشتون، وهو إطار يصر على استغلال "فرصة" وجود مفاوض المنظمة في أضعف حالاته - - بسبب الانقسام الوطني والرفض الشعبي لاستمرار العبث التفاوضي بعد فقد ظهيره المصري وخذلان راعيه الأميركي وانعكسات الثورة الشعبية التي تجتاح المنطقة - - لانتزاع المزيد من تنازلاته، مما يذكر بفرصة ضعف مماثلة في أعقاب فرض الحصار الدولي على العراق بعد حرب الكويت دفعته إلى مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 ثم إلى اتفاقيات أوسلو التي يحاول الآن الخروج من ورطتها بوعد كالوهم بدولة فلسطينية في الشهر التاسع من هذا العام.
وموعد أيلول / سبتمبر المقبل يحاصر مفاوض المنظمة الآن بين خيارين: إما أن يفي بوعده وكل الدلائل تشير إلى أنه لن يفي به، وإما أن تبتلعه الموجات العاتية لطوفان انتفاضة الجماهير الشعبية العربية ضد الوضع الراهن التي سوف تصل فلسطين إن عاجلا أو آجلا لتجرف في طريقها "عملية السلام" العقيمة ومفاوضيها واستراتيجيتها لترسي أسس استراتيجية وطنية مغايرة تبشر بدولة فلسطينية لا تولد في رحم الاحتلال وبشروطه وموافقته ومباركته وحضانته.
وفي خضم الانبهار بعظمة الانتفاضة الشعبية في تونس ومصر لا يتذكر اليوم إلا القلة أن مفردة "الانتفاضة" العربية قد انتشرت عربيا وعالميا في إطار فلسطيني لأول مرة لتصف مقاومة شعبية عارمة للاحتلال كان لها الفضل في دخول المنظمة إلى الوطن المحتل ويمكنها أن تتجدد في أية لحظة لتلفظ خارج صفوف شعبها أية مشاريع تولد في رحم الاحتلال وعلى حساب مقاومته.
لقد اخرجت فكرة إقامة دولة فلسطينية على خمس الوطن التاريخي المحتل عام 1967 إلى العلن باعتبارها مشروعا وطنيا فلسطينيا بإعلان الاستقلال الذي أقره المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية بالجزائر عام 1988، وهو المرجع الفلسطيني لفكرة "حل الدولتين"، لكنها كانت في الأصل فكرة أقنع بها الاتحاد السوفياتي السابق قيادة المنظمة آنذاك باعتبارها المدخل "الواقعي" إلى الأميركيين والأوروبيين الذين سوف يظلوا يعارضون حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فوق ترابه الوطني طالما لم يعترف أصحاب هذا الحق بدولة المشروع الصهيوني التي أقيمت بالقوة المسلحة الغاصبة على الأخماس الأربعة الأخرى من وطنهم التاريخي.
وكانت موسكو الشيوعية التي تسابقت مع واشطن على الاعتراف بقيام هذه الدولة من جانب واحد في الساعات الأولى بعد إعلان قيامها منسجمة مع نفسها تماما، لكن إذا كان ميزان القوى الدولي في زمن القطبين الأميركي والسوفياتي قد يسمح بإخراج "حل الدولتين" إلى حيز الوجود، حيث كان السوفيات المعارضون للصهيونية يأملون في أن يقود هذا الحل إلى تجريد الدولة العبرية من صهيونيتها في الأمد الطويل، فإن انهيار الاتحاد السوفياتي قد جعل هذا الحل رهينة لشروط التحالف الأميركي الصهيوني المعني فقط بهذا الحل باعتباره الضمانة الوحيدة لضمان أمن دولة الاحتلال الإسرائيلي وصهيونيتها، ومؤخرا "يهوديتها"، والمدخل الوحيد للاعتراف العربي والاسلامي بها، وبالتالي فإن أي دولة فلسطينية تتمخض عن ميزان القوى الراهن وبالشروط الحالية لن تكون إلا مشروعا أميركيا – أوروبيا بمواصفات صهيونية – إسرائيلية، وليس مشروعا وطنيا فلسطينيا.
* كاتب عربي من فلسطين
nicolanasser@yahoo.com*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق