لا تعرف الجماهير العربية، ما يحيط بشؤونها السياسية والاقتصادية من غموض وأسرار، بسبب تحصن الزعماء العرب خلف مقاييس من الحراسات المشددة، التي تمنع إظهار ما يدور في قصورهم من محادثات وما يتخذونه من قرارات وسياسات. مع أن هذه الأسرار تعد واحدة من أهم وأكثر العناصر فاعلية في توحد الجماهير والتفافها حول قياداتها الوطنية.
لقد أظهرت الأحداث الأخيرة، التي انتشرت بطريقة العدوى في مساحات الوطن العربي، الأهمية المتنامية لدور الجماهير في التغيير، واستطاعت أن تفعل ما تريد، رغم كل ما يرتبط بالأنظمة الحاكمة من أجهزة أمنية وقتالية.
الآن نستطيع القول بأن الأنظمة الحاكمة، هي التي أوجدت العدائيات بينها وبين الجماهير، بدليل تمسكها بالسلطة وجلوسها على جماجم الأموات، في ساحات الاعتصام والتظاهر والرفض.
إن ما جرى في الأشهر الثلاث الأولى، من هذا العام، يعتبر سبباً كافياً لإجراء كل الإصلاحات المطلوبة، وأول هذه الإصلاحات، بالنسبة إلى الأنظمة الملكية، التحول إلى الملكية الدستورية، وإعطاء الشعوب قدراً أوسع للمشاركة في الرقابة وصناعة القرار، وليس فقط عن طريق مجلس الشعب والتدخل في نتائج الاقتراع، وإنما بتفعيل دور الأحزاب السياسية وأجهزة الإعلام، لتكون عاملاً مساعداً في ضمان المصلحة الوطنية. وأما بالنسبة للأنظمة الجمهورية تقييد مدة سنوات الحكم بالدستور، بحيث لا تتجاوز أربع أو خمس سنوات، غير قابلة للتمديد بأي حال من الأحوال، ويحق للرئيس الترشح لدورة ثانية فقط، مع ضرورة تشديد الرقابة من مجلس الأمة، وإخضاع أجهزة الرئيس الإدارية والمالية للمساءلة. ولتعزيز هذه الرقابة، يجب على السلطة التنفيذية رفع رقابتها الرسمية عن الإعلام، وإعطاء الجماهير حرية مضمونة، للتعبير عن الرأي، والقيام بنشاطات مختلفة، تمنع جنوح السلطات، وتعمل على المشاركة في صنع القرار دون تدخل الحكومات.
لقد تأكد لنا أن الإعلام بكل ظواهره وأساليبه, وكيفما فسره المرء، يعد ظاهرة سياسية اجتماعية، تحكم الجماهير وتساعدهم في تطوير أنفسهم بطريقة حضارية، حين تعرض عليهم، إبداعات وأعمال الشعوب المتنورة، في ميادين السياسة والحكم.
ولقد أرادت الأنظمة السياسية العربية لشعوبها، الجهل والتخلف حين فرضت رقابتها على أجهزة الإعلام، إذ لا يوجد توعية دون بُعد إعلامي. وهذا الأمر يظهر بوضوح في مجريات الأحداث الأخيرة في الوطن العربي. أو في النقاشات التي تثيرها التطورات السياسية. وأقرب مثال قناة الجزيرة في قطر، فبرأيي أنها أسقطت أنظمة، وأحيت شعوبا كان مقدراً لها أن تغيب أو تذوب.
إن المعارف السياسية، وقضايا الحكم والإدارة، تتجاوز الآن البيئة الوطنية أو الإقليمية، التي تنشأ فيها. فالحقيقة الرياضية حقيقة رياضية، بغض النظر عن أصلها الثقافي، والقوانين الفيزيائية تصلح للعالم الغربي وللعالم العربي، ومثل ذلك أنظمة الحكم الديمقراطي، ويمكن القول أن هذه الأنظمة، أو المعارف السياسية، تؤثر في حياتنا بشكل كبير، بالرغم من أن القليل منا يتابعها ويهضمها.
ولا ننسى أن الحكم الديمقراطي المستقر، يساعد الأنظمة على الاستقرار والتفرغ لبناء الدولة الحديثة، فهذه أمريكا وفرت لنفسها نظام حكم مستقر ثابت، فأصبح إنتاجها يقوم على الاكتشافات التي تم التوصل إليها من خلال الاستقرار، كالحواسيب وأجهزة الليزر وغيرها من الأجهزة الطبية، وحتى من لا يؤمن بنظام أمريكا فإنه يستعمل هذه الأجهزة، ويستفيد من الطب الحديث. وبصرف النظر عن طريقة تعاملنا مع الغرب، والتغييرات التي تحصل من حولنا، فأن حرية الإعلام، وحرية الفكر والثقافة، والرأي والرأي الآخر، تعتبر فعلاً توعوياً حضاريا،ً حتى لو لم نكن دائماً واعين لذلك.
ومن المفيد أن نعيد النظر، وبطريقة واعية في علاقتنا مع النظم السياسية الحاكمة، وأن نتناقش حولها، وذلك في إطار فهمنا الخاص للدولة الحضارية أولاً، وأن نقود ثانياً حوارات مع الآخر، ونثير الأفكار والمناقشات لتطوير الجماهير في الاتجاهين السياسي والاجتماعي.
وإذا أردنا أن نبدأ بمشكلة الوضع القائم، فإننا نتساءل عن سر تماسك الزعماء العرب بمناصبهم، بالرغم من أنهم لم ينجحوا في قضايا حكمهم، وبالرغم من أنهم يعلنون عن إيمانهم العميق بحق الشعوب، في الاختيار بالانتخاب والديمقراطية والاستفتاء، فالشعب الذي يخرج إلى الشارع، ويقول للحاكم "إرحل" هو أكبر استفتاء غير مزور وحقيقي.
إن هذه الظاهرة "التمسك بالحكم" تقود المجتمعات العربية، إلى الاضمحلال، والسقوط في أعماق التخلف والتراجع، بينما العالم يسير إلى الأمام.
ولكي نضع النقاط على الحروف، فإنه لا بد من الاعتراف بأهمية النظم السياسية العاملة في أوروبا وأمريكا، ورفض كل أشكال الحكم البدائي، المستمدة من الخرافات والأساطير الساذجة، التي وضعها الناس في فترة اللاوعي. فبدون التطور في أجهزة النظام السياسي وأشكال الحكم، لا يمكن أن يتحقق الاستقرار والبناء، وخير مثال ما جرى في الآونة الأخيرة، والمستقبل حافل بالمفاجئات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق