الإنسان من عري إلى عري/ صالح الطائي


أين ستقف حدود الحرية المعاصرة المنفلتة التي تتصرف بلا قيود أو محددات يا ترى؟ وهل ستعود بالإنسان المتحضر إلى عصوره البوهيمية الأولى، أم ستقوده إلى عصر أكثر تطورا وانفتاحا من العصر الذي نعيشه، أم ستقف هنا لتخلق منه الإنسان الأخير المتكامل حد الشبع واللاجديد؟ وهل للتخلص من قيود الملبس علاقة بهذا الحراك؟
نحن نعرف أن الإنسان البدائي كان عاريا لأنه لم يكن قد أخترع الملابس، وكان عريه يثير غرائزه البوهيمية ليمارس الجنس بمشاعية منفلتة مع البشر الآخرين الذين يستهوونه بأجسادهم العارية وأجهزتهم الظاهرة للعيان، ثم مع تطوره الفكري والحياتي وبعد أن وجد الحيوانات أكثر منه تحملا للظروف والتقلبات المناخية بسبب جلودها وأصوافها ووبرها أكتشف أن تغطية الجسد بما متوفر في بيئته يحميه هو أيضا من حر الشمس وبرد الشتاء ولسعات الهوام فلجأ الحشائش أولا، ثم إلى الحيوانات ليقتلها ويأكل لحومها ويستعير منها جلودها وفروها ليحمي به نفسه، وحين وجد الغطاء بشكله البدائي يعيق حراكه وركضه خلف الطرائد قام بربط أطرافه حول خصره، ومع مرور الأيام عرف المادة الأكثر دفأ والأخف حملا، وعرف الحياكة والخياطة وفي هذه المرحلة، مرحلة ستر العورات قلت شهوانية الإنسان لأنه لم يعد يرى تلك المناظر الفاحشة معروضة أمامه، وهي المرحلة التي نقلته إلى الطور الأسري، والحياة العائلية التي كانت بداية النمو الحضاري
مع مرور الوقت تحولت الملابس من حاجة أساسية إلى مادة كمالية أيضا، ومن وسيلة للحماية والتدفئة إلى وسيلة للبهرجة والكبر والأبهة وإبراز المفاتن والتأكيد على المركز الاجتماعي ونوع العمل، وتنوعت مصادر صناعتها وموديلات خياطتها وطرائق زخرفتها وتجميلها، فأصبحت حاجة لا يمكن الاستغناء عنها، ولم تعد هناك من فرصة للتخلي عنها، ليس بسبب التقليد والمحاكاة وإنما لأنها نتاج التطور الحضاري البشري الطويل، والجهد الذي بذله الإنسان عبر التاريخ، وهذا يدل على أهميتها والحاجة الماسة إليها وضرورة التواصل معها، فالملبس أصبح نقطة التمايز بين الشعوب البدائية والمتحضرة، حيث توصف القبائل البدائية عادة بأنها قبائل لم تكتشف الملابس بعد ولا زالت عارية.
أما الشعوب المتحضرة فقد وظفت الملابس لأكثر من هدف وحولتها إلى تجارة ضخمة من خلال التنويع والاختصاص والتسميات أيضا، ورافق ذلك تنوع القصص التي أنتجت هذا التنوع، حيث نجد لبنطلون الجينز قصة تقول: أنه في عام 1850هاجر آلاف الرجال إلى كاليفورنيا بعد اكتشاف كميات كبيرة من الذهب هناك، وكان من بين المهاجرين خياط ألماني يدعى "أوسكار شتراوس" فشل في العثور على الذهب وانحدرت به الحال فتضور جوعا . وفي لحظة يأس قرر تمزيق خيمته ذات اللون الأزرق وخاط منها سراويل أطلق عليها اسم "شتراوس جينز" . وبسبب متانتها العالية ومناسبتها لأعمال المناجم أقبل على شرائها العمال فازدهرت تجارته وأصبح أغنى من باقي المنقبين. وللباس البحر قصة تقول: أن البكيني نال هذا الاسم في حزيران 1946 عندما أجرت أمريكا تجارب نووية في أرخبيل جزر بكيني في المحيط الهادي.. وبسبب شيوع استخدام اسم الجزر في الأخبار أطلق الاسم على اللباس الجديد. وقد أثار لبسه عاصفة من الاحتجاجات ما برحت أن هدأت ليصبح من أكثر ملابس البحر شهرة وانتشارا، ولكن صغر حجمه وخفته لم يشفعا له بالاستمرار إذ غزت العالم ملابس أكثر منه عريا وكشفا للمفاتن، وحتى مع عريها الفاضح لم تطقها نساء العصر المتهتكات إلا يسيرا، فتخلين عنها، وعدن عاريات كما كن يوم خلقهن الله، وتبعهن الرجال في ذلك فتخلوا عن ملابسهم، وبات الجميع يسبحون في البحر عراة سوية كما كانوا في فجر تاريخهم، حيث كانت نساؤهم يسبحن عراة مع الرجال في البحر سوية كما يقول ابن فضلان في سرد رحلته إلى بلاد البلغار، ويقول التاريخ أنه حتى أواخر عام 1850 لم يكن مصطلح "الملابس الداخلية" معروفا في البلدان الأوربية، ثم بدأت مرحلة الستر تسير تدريجيا فبدأت من خلال لبس ثياب السباحة المحتشمة، ثم تم التخلي عن هذا الملبس لأنه يعيق الحركة واستعاضوا عنه باللباس الطويل والقميص، وبعدها باللباس الذي يصل حد الركبة والقميص، وحتى هذه المرحلة كانت المشاريع التجارية التي تعمل في صناعة هذا النوع من الملابس مشاريع غير مجزية بسبب قلة الإقبال على شراء الإنتاج، وفي عام 1914 أنشأت الأمريكية "ماري فيلبس" تصميما للملابس الداخلية وفشلت في تسويقه فباعت المشروع، أما في عام 1939 فقد نجح الأمريكي "وارنر" الذي بدأ من حيث فشلت فيلبس بعد أن أسهم في صنع لباس أقصر من المعتاد يكشف عن مفاتن النساء اللواتي صرن أكثر تحررا من قبل، وبعدها تطورت وانتشرت ملابس السباحة الحديثة حيث تم التخلي عن القميص والاستعاضة عنه بحمالات الصدر المتصلة التي تغطي البطن وهو ما يعرف بـ (المايوه)، ثم فصلت القطعتان عن بعضهما، وفي هذه المرحلة بدأ اللباس يقصر وحمالة الصدر تصغر إلى أن وصلوا إلى البكيني الذي لم يصمد بدوره حيث جاءت مرحلة اللباس الخيط، وأخيرا جاءت مرحلة الرسم على النهدين والعورة بالأصباغ الثابتة، وفي آخر المراحل تخلصوا من ذلك كله، وعادوا إلى مراحل الحياة الحيوانية الأولى. أي أن هناك تطورا وصل إلى نقطة لم يعد التجديد والتطوير فيها متاحا وهو تعريف الإنسان الأخير الذي تدعو إليه العولمة، فلجأوا إلى التطور العكسي دون أن يلتفتوا إلى أن الحاجة للتطوير انعدمت بسبب تمكن المتاح من أداء المطلوب وسد الاحتياج وإرضاء الأذواق، فالحاجة أم الاختراع ولولا الحاجة لوقف الإنسان في حدود لا يتجاوزها بحثا عن جديد، ما دام ما بين يديه يسد حاجته، هكذا يتحدث عرابو العولمة.
إن تخلي الإنسان عن ملابسه باسم التطور والتمدن يعني أنه بدأ مرحلة السير العكسي، مرحلة النكوص والرجوع والتخلي عن العطاء الحضاري، ولكن بسرعة فائقة تبلغ أضعاف السرعة التي كان يسير فيها للوصول إلى مرحلة كمال الملبس. ويعني هذا أنه خلال سنين معدودات سوف يعود طواعية إلى فجر تاريخه وهمجية العيش الأول، إلى مرحلة البدائية والجهل والحيوانية والافتراس والمشاعية.
فهل يعني هذا التطور المخبول الذي يقود الإنسان إلى التخلي عن قيمه ومثله وإنسانيته وتمدنه من خلال التخلي عن ملابسه، أن الإنسان الأخير مجرد أكذوبة سمجة، وأن عصر التحضر قد أفل، وبدأت رحلة العودة إلى حياة المشاعية والافتراس واختلاط الأنساب؟ وهل سينجح في تراتبيته العكسية، أم أنه يهيئ بذلك الأرض وشعوبها لمقدم المصلح المنتظر الذي لا يمكن للبشرية أن تحافظ على وجودها، وتشعر بآدميتها الحقيقية من دونه؟ ولذا أعتقد بل أجزم أن من حافظ على حدود الحشمة ولم ينجر لتقليد الغرب سوف ينجح من خلال فشلهم ليكون واحدا من الذين سيستقبلون المصلح الأكبر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق