مسيرات التأييد في الوطن العربي/ صالح خريسات

مهما بلغت درجة الوطنية في الإنسان العربي، فإنه لا شك إذا عانى في بلده شعور المذلة والهوان، ووجد اهتمام الدولة يتجه فقط إلى الأثرياء، وبعيدة عن مشاعر الطبقات الشعبية الفقيرة، يميل نتيجة لتفتحه الذهني، إلى الآراء المتحررة، المجددة في الحياة والسياسة، وتذهب من نفسه كل مشاعر التأييد، ولو أنه أقسم على ذلك، وأكد عليه.
فيجب أن لا تغرنا الكثرة في مسيرات التأييد، ورؤية الشباب من حملة الإعلام، يهتفون للنظام، فننسى ما يجب علينا فعله والتصدي له في مثل هذه الظروف الدقيقة، ونكتفي بالادعاء بأن البلاد تتعرض لمؤامرة خطيرة، فهل كان الإصلاح يوماً مؤامرة؟ ولمصلحة من تكون مثل هذه المؤامرة العقلانية؟ ومن قال أن الأكثرية في مسيرات التأييد تكون دائماً على حق، أو أنها وحدها تملك الحقيقة؟ فكل الأنظمة المتسلطة، ليس من بينها نظاماً ديمقراطياً واحداً، تستطيع أن تجد لها أنصاراً ومؤيدين، يفوقون عدد المعارضين، ولا أكثر من أنصار الشيطان ومؤيديه، وقد احتاج الإله العظيم، مئات الأنبياء والرسل لهزيمته، وما زال أنصاره يتزايدون. فهل هم على حق بحكم الأكثرية المؤيدة؟
وفي القران الكريم، يتكرر وصف الأكثرية من الناس، بالغباء، والحماقة، والجهل، وفساد العقل. فأنت تقرأ: "وأكثرهم لا يعلمون"، "وأكثرهم لا يعقلون"، "وأكثرهم يجهلون"، "وأكثرهم للحق كارهون".. إلخ. وفي المقابل، يتكرر وصف الأقلية من الناس، بالتعقل، والهداية وقوة الإيمان. فأنت تقرأ: "وما آمن معه إلا قليل"، "وقليل من عبادي الشكور"، "ثم توليتم إلا قليلا "..إلخ.
وإذا كنا لا نعلم، مغزى الوصف القرآني السابق، وما إذا كان يتعارض مع النظرية الديمقراطية، التي تمنح حق الفوز بالسلطة، وممارسة الحكم، لمن يحظى بأصوات الأكثرية، فإن ذلك لا يمنع من القبول، باجتهادات بعض المفسرين، بأن المقصود بالخطاب القرآني، هو الكثرة المذمومة، من أهل الجهل والتخلف، وليس مجموع الأمة وخيارها.
إن كل الأنبياء والمصلحين، كانوا أحرار الذهن، معتقي الفكر، وكل الأنبياء كانوا من أعداء القديم البالي، وكل الأنبياء والمصلحين، تمردوا على النظم السارية، والآراء الشائعة، وكل الأنبياء كانوا أعداء لأنفسهم، وقد كان أسهل عليهم، أن لا ينددوا، ولا يبشروا، لو أنهم خافوا التحقير والاضطهاد، وارتضوا مسايرة الناس. فكان يجب على الناس أن ينظروا للأشياء كما هي، لا كما رآها أسلافهم، ولا كما رآها من حولهم، ولا كما يرونها بمنظار ميولهم، وعواطفهم، ومصالحهم، وكان عليهم إن يصطنعوا الجرأة في ذلك. فالرفض معذب، ولكنة منج مطهر.
وهذا يعني، أن مسألة حق السلطة وممارسة الحكم، وارتباطها بالأكثرية، أو الأغلبية، لا يجب أن تقوم على الأكثرية فحسب، بل لا بد أن تسبقها حالة من الوعي ، ومرحلة فكرية تطورية، نستطيع أن نطلق عليها الآن، بالإصلاح السياسي والاجتماعي، لأن هذه الأكثرية، بمقاييس الفكرة، وحسب ما يقرره البيان الإلهي "لا يملكون شيئا ولا يعلمون"، "لهم قلوب لا يفقهون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها". فليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الخالق سبباً لمعرفة الحقيقة: "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".
ويقع الذنب في القصور عن معرفة الحقيقة على الإنسان نفسه، عندما لا يكون السبب فيه هو الافتقار إلى العقل. بل إلى العزم والشجاعة اللذين يحفزانه على استخدام العقل ورفع الغطاء عن عينيه ليرى الأشياء على حقيقتها.
وإذا لم يتجرأ الإنسان على رفع الغطاء عن عينيه، فإن الأمور تختلط عليه، فلا يستطيع تمييز الحق من الباطل. غير أن قابلية الإنسان للفساد أعظم درجة من قابليته للكمال. وهذا ما يتطلب جهداً واسعاً من المفكرين في سبيل الإقناع، وصبراً عزيزاً من البيئات، ولا يجوز للإنسان أن يدعي امتلاك الحقيقة وحده، أو يدعي الكمال ويطلب من الناس أتباعه على غير بصيرة وهدى. فالكمال لله وحده، وهي صفة من صفات الإلوهية، ظل الإنسان على مدى تاريخه الطويل فوق الأرض، يسعى للتشبه بها في اكتمال تدريجي ومتقدم لا نهاية له أبدا.
وإذا كانت عقول الأفراد والجماعات متفاوتة وطرائق تفكيرهم مختلفة، فان الحاجة تكون ملحة للمفكرين وهم الفئة القليلة المتنورة، وليست الكثرة المؤيدة، من اجل مساعدة الناس على تطوير أنفسهم، ومنحهم دوراً متفوقاً في التاريخ البشري.
والعلماء لا يعتبرون سيطرة أمة من الأمم على العالم مرسومة من الله، بل أن هذه السيطرة وهذه السلطة على العالم تحصل عليها الأمم بتربيتها العلمية، وطريقة تفكيرها، وقدرتها على التخلص من رواسب الجهل والجمود الفكري المتوارث.
ولسوف يتبين لنا أن النجاح في التاريخ كان ولا يزال يرتكز على احترام العقل، وتمرين الإرادة على قبول قيادتها لها، مع رقابة صارمة على الغرائز والأهواء والجنوح، فهل أنتم فاعلون؟
أما بواسل هذه الأنظمة وجنودها، فهم أولئك الذين صرفوا عمر الشباب في النوادي الليلية وفي السجون، ويرغبون الآن في العمل كسجانين أو رجال أمن، يمارسون الدور نفسه الذي كانت السلطة تمارسه ضدهم، بعنف وقوة، بعد أن لفظتهم متع الحياة، فلا يجدون إلا التضحية والفداء، فتحتضنهم هذه الأنظمة بمسميات عديدة، كان آخرها "البلطجية"، وتنميهم، وتجعل منهم أسوداً مقاتلين، ضد الكتاب والمفكرين وحملة المصابيح، وترغبهم بأنه سيكون بينهم الضباط، والقادة، استناداً إلى قاعدة المساواة، واللافرق بين المواطنين.
فهذه الجماهير الشعبية المتوسطة الحال، التي تستغلها الأنظمة في مسيرات التأييد، لا حول لها ولا طول، ولا يؤخذ لها رأي، وتعيش ثقافياً تحت وطأة أرضية موروثة، لا تتيح لها أية فرص حقيقية لإعادة تقويمها خارج ما هو سائد من أحكام ومسلمات، لا يسمح بمناقشتها على الإطلاق. وينعكس ذلك بالإساءة البالغة، إلى الجماهير التي لا تتاح لها فرص التعبير عن رأيها، في حين تتاح هذه الفرصة، لمؤسسات النظام ورجاله، أن يخططوا ويراجعوا برامجهم السياسة، وفقاً لهذه القاعدة الشعبية الواسعة، التي تستخدم كورقة رابحة لتدعيم استمرار النظام، والوقوف في وجه الإصلاحات التي تطالب بها جماهير الشباب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق