يوما بعد يوم تتسع مساحات الغضب الشعبي العربي .. والمشهد الثوري العربي يحتشد بكثير من الحقائق المؤلمة .. إذ أن ثمة ظلم فاحش تعانيه شعوبنا من استبداد لا يرعوي .. ومن مستبدين يجمعهم الغباء حيناً والاستغباء حيناً آخر .. وطغاة يقفزون على حقائق التاريخ والتطور الإنساني المذهل ..وعلى حقائق الدين والحضارة .. ظانين أنهم بذلك يستطيعون الاستمرار في استغفال الشعوب ، والمضي بها حتى أدنى مستويات التخلف والضعف .. !!
طغاة حولوا الأوطان إلى بضاعة يمكن جلبها ساعة عسرة إلى أي مستنقع يريدون .. طغاة ألغوا معادلة الشعب والحكم العادل .. لصالح معادلة العبيد وحكم العائلة .. هم ذاتهم تم استنساخهم واستزراعهم على امتداد هذه الجغرافيا المستباحة !!.
المشهد السوري الذي نحن بصدده ما هو إلا مقطع طولي وعرضي من المشهد العربي الإسلامي الأوسع ..
فسوريا - بما تعنيه من موقع ودور وتاريخ ومستقبل وتأثير - تقف اليوم على مفترق طرق خطير ومصيري .. فقد انتفض الشعب السوري من درعا وحتى معرة النعمان ومن دير الزور إلى اللاذقية على نصف قرن من الفساد والرشوة .. انتفض ضد الفقر والبطالة والتمييز والانتهاك المستدام لحقوقه الطبيعية .. انتفض من أجلا حقه في التنمية واستعادة أمواله وثروات وطنه المنهوبة التي بددها وحش الفساد ..!!
انتفص على أقانيم الاستئثار والإقصاء والتهميش .. على الخوف والقهر وقمع النظام الأمني المريع.. انتفض من أجل الحرية والخروج من السجن الكبير ؛ ومن كل السجون السرية والعلنية (المنتشرة على مساحة الوطن) التي يقبع فيها مئات الآلاف من معتقلي الرأي والمفقودين والمختفين قسرياً .. انتفض من أجل عودة مئات آلاف السوريين المهجرين، من المثقفين والأكاديميين ورجال الأعمال الممنوعين من العودة لأوطانهم ..!!
انتفض ضد البيروقراطية العقيمة التي رسخت منظومة الفساد والاستئثار والهيمنة.. ومن أجل الانفتاح والتغيير والإصلاح الذي يستعصي على التحقق رغم الوعود المتكررة .. انتفض ضد الحلف غير المقدس بين أجهزة الأمن ورجال الأعمال والسياسيين.. وعلى غيرها من الانتهاكات التي مورست عبر أطول حالة طوارئ في التاريخ الإنساني .. !!
انتفض الشعب السوري برقي وحضارية .. أما ردة فعل النظام فقد جاءت – منسجمة مع تاريخه الأسود - لقد أوغل النظام في البدائية والوحشية .. مفرطا بالقتل والترويع والبطش.. فمنذ اللحظة الأولى لتلك الانتفاضة واجه النظام المتظاهرون بالرشاشات .. والقنص العشوائي .. قتل المئات من الشباب وحتى الأطباء والمسعفين والأطفال.. دنس المساجد ، واقتحمها بزعم إيواء مندسين وإرهابيين .. وفي درعا تم إعدام "الجندي" – ابن تل كلخ – لا حترامه قدسية المسجد العمري ورفضه إطلاق النار على المصلين فيه.. !!
لقد سال في هذا الثورة دم كثير وفي كل مكان وارتكب النظام المجازر - حتى فاقت حصيلتها في يوم واحد المئة والعشرين شهيداً سالت دماؤهم على مساحة القطر السوري كله.. !!
مارست أجهزة النظام كل أفانين التعذيب - المدانة والمحرمة- وضرب المتظاهرون بالهراوات والخناجر والعصي لإخافتهم وتفريقهم .. ومن ثم بالرصاص والدبابات .. كما انتهكت كل حقوق الإنسان حتى تعطيل الاتصالات وحجب المواقع الإلكترونية !!
وبعد ذلك كله .. نحد أنفسنا اليوم أمام أزمة فكرية أخلاقية.. إذ يخرج علينا ثلة من مثقفينا يطعنون الثوار في الظهر .. ليجلد هؤلاء بسياط بني جلدتهم مرتين الأولى من أجهزة الأنظمة.. والثانية من بعض المثقفين والمنظرين الذين راحوا يشككون بوطنيتهم ومصداقيتهم.. !
أليس من المعيب أن يروج المثقفون لمزاعم الأنظمة القمعية .. في توجيه اتهامات العمالة والتآمر .. وتنفيذ الأجندات الخارجية لشباب الثورات الرائعين؟؟ ..
فلماذا كل هذه الإساءات المتكاثرة لدماء الشهداء التي بذلت من أجل حريتنا نحن .. ومن أجل مستقبل مشرق لأبنائنا.. ومن أجل أن نحيا كراماً في وطن عزيز حر.. ؟؟
أليس في هذا الموقف ضد ثوار أمتنا تفويض لأنظمة القمع باجتراح المزيد من القتل في الساحات والشوراع .. وبعد ذلك نعود إلى مقاهينا نمارس فيها هواية التنظير للوحدة والقومية والوطنية ومقارعة الامبريالية ؟؟
إن ما يوجه من انتقادات واتهامات لقوى الثورة العربية وفي مقدمتها الثورتين الليبية والسورية إنما يشكل إساءة عميقة للأمة بكاملها .. فهذه الأمة هي من أنجب هؤلاء الثوار الذين يطلقون عليهم مسميات "الخونة والعملاء والمندسين والإرهابيين" – حاشا لله -!!!
إن الشباب العربي الثائر –يجترح اليوم المعجزات .. فهو عبر هذا الطوفان الثوري يحدث حالة من الصدمة والترويع تنتقل وفق "قاعدة الأواني المستطرقة" من بلد إلى آخر .. ومن سيدي بوزيد إلى درعا .. !!
ففي ظل ذهول الأنظمة تنطلق ملايين الحناجر الشابة تهتف للحرية والعدل والحق .. تهتف للوطن، والوحدة .. وتحتفي بالشهادة والشهداء .. وتندد بالفساد والسرقة والرشوة .. وتنادي بسقوط دولة الاستبداد والقتل والقمع .. !!
ثورة الشباب نجحت – حيث فشل المنظرون - في توحيد الأمة .. إذ أحبطت – وهي تحكم الأصنام التي عادت لتنتصب من جديد في الساحات والميادين العربية الإسلامية- كل الفتن واسقطت كل الفزاعات التي استلتها الأنظمة من أغمادها .... !!
لقد أدهشت ثورة الشباب العربي كل العالم .. ونجحت في استقطاب استجابات شعبية واسعة.. وحافظت على صعودها بالمثابرة والتضحية والصمود وأبدعت في وسائلها وطروحاتها على نحو لم يكن ليخطر ببال حتى مفجريها ..!!
أما بالنسبة للثورة السورية فإن العالم بأسره يشهد بأن هذه الثورة انطلقت من داخل سوريا وحدها لتكون صناعة سورية وطنية بامتياز ..لا صناعة أيد عابثة خارجية ..!!
الثورة السورية هي صناعة حضارية راقية لا فتنوية .. ولا صناعة عصابات مندسة أو إرهابية .. إنها صناعة سلمية .. لا صناعة عنفية أو مسلحة .. !!
إنها ثورة من أجل مستقبل مختلف لا مجال فيه لمعادلات الفساد والظلم والقمع والاستبداد.. وما تفرضه من آفات الجبن والصمت ، والركوع والانحناء .. مستقبل سداه الحق والعدل والكرامة .. ولحمته الحرية والاحترام .. مستقبل تقوم فيه دولة القانون والمؤسسات .. وحكومة الشعب كل الشعب .. وبرلمان الشعب كل الشعب ..
وعليه فإننا في محراب الثورة ... أمام طهر الشهادة وعلى وهج الدماء الطاهرة .. "لنقل خيراً أو نصمت" !!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق