أوجاع الفلبين من إضطرابات الشرق الأوسط/ د. عبدالله المدني

شكلت التحويلات المالية الأجنبية من قبل العمالة المهاجرة على الدوام عامل إنقاذ للإقتصاد الفلبيني الهش، مما جعل الأخير يعتمد عليها إعتمادا كليا في مواجهة الأزمات الإقتصادية العالمية، وبالتالي الهروب مؤقتا من مشاكل البطالة وإنحدار مستويات المعيشة على المستوى الوطني، وذلك على نحو ما حدث أثناء الأزمة الإقتصادية الأخيرة ما بين عامي 2008 و2009 ، خصوصا وأن الفلبين ليست فقط صاحبة إقتصاد هش، وإنما أيضا تفتقد القدرة على جذب الإستثمارات الأجنبية المعتبرة بسبب أحوالها الأمنية المضطربة من جهة وتفشي الفساد في مفاصل أجهزتها الرسمية من جهة أخرى.
ومما لا شك فيه أن إضطراب الأحوال في عدد من بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مؤخرا، جعل الفلبين يواجه تحديا إقتصاديا كبيرا. وليس أدل على ذلك من أن مانيلا قدرت خسائرها من تحويلات عمالتها الموجودة في البلدان المذكورة بفقدان أكثر من ثلاثة ملايين عامل فلبيني لوظائفهم، علما بأن هناك من يشكك في هذا الرقم ويصفه بالقليل إنطلاقا من أن مئات الآلاف من العمال الفلبينيين المهاجرين غير مسجلين لدى سلطات بلادهم.
ولعل ما ضاعف مصيبة الفلبين أن إضطرابات منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبالتالي إنقطاع التحويلات المالية أو إنخفاضها، تزامنت مع حدوث الزلزال المدمر في اليابان، وهي الكارثة التي لم تنحصر آثارها في فقدان فليبينيين مهاجرين كثر لوظائفهم، بل تعدتها إلى إرتفاع تكلفة بعض السلع التي تستوردها الفليبين من اليابان، وبالتالي تضرر المستهلك الفلبيني العادي. هذا ناهيك عما حدث من تجميد مؤقت لبعض الصادرات الفلبينية التي تعتمد عليها مصانع الإلكترونيات اليابانية بنسبة 20 بالمئة تقريبا، وما رافق ذلك من تسريح للعمال أو تخفيض لأجورهم.
وتقول "سارة كاترينا مارامق" المسئولة الإعلامية في منظمة الهجرة العالمية أن وجود أعداد هائلة من العمالة الفلبينية في الخارج لهو دليل واضح على إنعدام الفرص الإقتصادية الكفيلة بالحصول على معيشة لائقة داخل الوطن. وتضيف قائلة: "أن الفلبين تشهد يوميا نزوح ما معدله 4500 مواطن إلى الخارج من أجل البحث عن وظائف أفضل أو دخول أكبر، ومعظم هؤلاء ينحدرون من الطبقة الأكثر فقرا في المجتمع".
أما المسح الميداني الذي قامت به إحدى مؤسسات الأعمال الإستشارية فقد أشار إلى أن إنقطاع تحويلات العمالة المهاجرة أو إنخفاضها سوف يقصم ظهر الإقتصاد الفلبيني، بل سوف تكون له نتائج كارثية على صعيد القدرات الشرائية لأفراد وأسر المجتمع والتي تعتمد كليا في إنفاقاتها اليومية ومعيشتها على ما تتلقاه من أبنائها وأقاربها المغتربين، بمعدل مائة دولار في الشهر. ولمزيد من التوضيح في هذا السياق، يستحسن بنا الإشارة إلى أنه في العام الماضي فقط وصل إجمالي ما حولته العمالة الفلبينية الموجودة في الخارج والمقدرة بنحو 11 مليون نسمة، إلى 19 بليون دولار (مما جعل الفلبين تحتل المركز الرابع - بعد الهند والصين والمكسيك - ضمن دول العالم النامي لجهة تحويلات النقد الأجنبي من عمالتها المهاجرة). ورقم الـ 19 بليون دولار هذا يعادل 10 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي (جي دي بي)، فيما لم يزد حجم التحويلات في عام 1975 عن 105 ملايين دولار. وفي السياق نفسه، تجب الإشارة إلى أن أكثر من ثلث المبلغ الضخم المذكور جاء من عمال يعملون في منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتحديدا من السعودية (تستضيف نحو 1.8 مليون عامل فلبيني) فالإمارات العربية المتحدة، بينما جاء الثلثان الآخران من فلبينيين يعملون في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وألمانيا، تليها أقطار مثل اليابان وسنغافورة وتايوان.
ومن باب الإنصاف، لا بد من القول أن الإقتصاد الفلبيني قد حقق مؤخرا بعض النجاحات الخجولة بفضل البرامج والسياسات الصارمة لرئيسها الشاب "نوي نوي أكينو" والهادفة إلى القضاء على مظاهر الفساد، والتشدد في فرض القانون والنظام والشفافية. غير أن الرئيس الذي لم يمض عليه سوى أقل من عام في قصر "مالاقانيان" الرئاسي صار هدفا لحملة إنتقادات واسعة مؤخرا من قبل منظمات وشخصيات محلية بسبب ما قيل عن عدم إمتلاك حكومته لإستراتيجية واضحة حول كيفية إجلاء الفلبينيين من مناطق الحروب والأزمات، وكيفية إستيعابهم مجددا في مجتمعاتهم، وكيفية الإنفاق عليهم ريثما يتدبرون أمورهم، ناهيك عن تخبطها بشأن إستصدار قوانين عاجلة يحظر بموجبها على المواطنين السفر إلى مناطق الحروب والقلاقل. ويقال أن هذه الإنتقادات أثرت سلبا على شعبية الرئيس الذي جاء إلى السلطة في العام الماضي بأغلبية ساحقة. ولعل مما زاد في حملة الإنتقادات ان نسبة البطالة في صفوف الفلبينيين كانت مرتفعة أصلا (في حدود 7.4 بالمئة حسب إحصائيات يناير 2011 )، مما يعني أنه كان هناك قبل إندلاع إضطرابات الشرق الأوسط ما يقارب 3 ملايين فلبيني في حالة بطالة، بل هناك من يقول أن العدد أكبر بكثير، إذا ما أخذنا في الإعتبار نحو 7.1 مليون نسمة ممن يمكن إدراجهم بحسب التوصيفات العالمية في خانة العاطلين.
وجملة القول أن الرياح جاءت بما لا تشتهي سفن الفلبين التي كانت تتوقع هذا العام والأعوام القادمة سفر المزيد من عمالتها الماهرة وشبه الماهرة إلى الدول النفطية في الشرق الأوسط من تلك التي لا تزال تنفق بسخاء على مشاريع تنموية في قطاعات الإنشاءات والإتصالات والبتروكيماويات والكهرباء.
وهكذا، يبدو أن الفلبين ليس أمامها حل لمعضلتها سوى تصدير جزء من عمالتها الماهرة إلى الولايات المتحدة حيث توجد شواغر وظيفية في قطاع التمريض تحديدا، يقال أن عددها قد يصل إلى 800 ألف فرصة عمل من الآن وحتى عام 2020 . كما يمكن لمانيلا أن تحاول الإستئثار بفرص عمل لعمالتها في قطاع الإنشاءات والخدمات المتصلة ضمن عملية نقل قاعدة "أوكيناوا" الإمريكية من اليابان إلى جزيرة "غوام"، خصوصا وأن للعمالة الفلبينية خبرة متأتية من عملها السابق في قاعدتي "سابك" و"كلارك" في الفلبين، واللتين جلت عنهما القوات الإمريكية في منتصف التسعينات.
ويمكن للفلبين أيضا أن تستأثر بنحو 700 ألف فرصة عمل متوفرة أو سوف تتوفر في دول آسيوية كماليزيا والصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة، وتايوان.

د. عبدالله المدني
باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة : أبريل 2011
الإيميل:elmadani@batelco.bh

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق