العرس الفلسطيني الكبير/ د. مصطفى يوسف اللداوي

في القاهرة ينسج اليوم ثوب العرس الفلسطيني الكبير، بعد أكثر من أربع سنواتٍ من الفرقة والإنقسام والتشتت والضياع، تخللتها عشرات المحاولات الوطنية لإعادة اللحمة الفلسطينية ولكنها باءت جميعها بالفشل، وعجزت عن استعادة هيبة واحترام الفلسطينيين التي تضررت وتشوهت بسبب الانقسام، بل أدت إلى تكريس الإنقسام، وتعميق الخلاف، وزيادة الممارسات المشينة المتبادلة بين أطراف الصراع التي أججت الخلاف، وباعدت فرص التفاهم واللقاء، وعمقت الحزن الشعبي الفلسطيني، وألقت بظلالٍ كبيرة من اليأس والقنوط على الفلسطينيين، وأثلجت صدور الشامتين، وأسعدت الأعداء المتربصين، وعرضت سلامة الوطن للخطر، ووضعت القضية الفلسطينية في مهب الرياح الدولية، والرغبات الإسرائيلية.

اليوم وبعد التوقيع على اتفاقية المصالحة الفلسطينية، يفرح السجناء الفلسطينيون في السجون الفلسطينية، الذين اعتقلوا واحتجزوا على خلفياتٍ سياسية، وانتماءاتٍ حزبية، وغيرهم من الذين رفعوا لواء المقاومة، وصمموا على مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، ورفضوا إلقاء البندقية، إضافةً إلى عشرات المعتقلين كرهائن وأدوات ضغط، إذ ستفرج عنهم المصالحةُ العتيدة، وستعيدهم إلى بيوتهم وأسرهم، بعد سنواتٍ من السجن والمهانة والتعذيب والإساءة، وستخلوا الزنازين الفلسطينية من المشبوحين والمعلقين والمسلوخين والمعزولين والمنفوخين والمقيدين، وسيتم إغلاق ملفات الاعتقالات السياسية، وستتوقف عمليات الملاحقة والمداهمة والقتل أحياناً، وستمتنع السلطة الفلسطينية عن عمليات التنسيق الأمني مع العدو الإسرائيلي، التي أفضت في كثيرٍ منها إلى نجاح الجيش الإسرائيلي في قتل النشطاء الفلسطينيين أو اعتقالهم، وبغير إتمام هذا الملف الذي كان هو العقبة الأساس في طريق المصالحة، سيكون من الصعب وصف الاتفاق بأنه ناجح، أو الاعتقاد بأن المصالحة قد انطلقت وآتت أكلها المرجوة، وثمارها المنتظرة، فلا إشارة أبلغ ولا أصدق من إطلاق سراح المعتقلين جميعاً، ووقف عمليات التنسيق الأمني والملاحقة السياسية والحزبية المقيتة، فذوو المعتقلين يمنون أنفسهم بأن المصالحة تحمل معها تباشير الحرية، ولهذا فقد خرجوا وكل الفلسطينيين إلى الشوارع والميادين احتفالاً بالحرية والوحدة والإتفاق، فإن رجعوا بأبناءهم أحراراً فإن المصالحة تكون قد تجاوزت عتبة النجاح، وإلا فإنها ليست أكثر من ضحكٍ على اللحى.

واليوم يفرح أهل غزة، ويتنفسون الصعداء، ويشعرون بأن ساعة الصفر لإنطلاق قطار إعمار ما دمره العدوان الإسرائيلي على غزة قد بدأت، وأنه قد آن الآوان للمشردين من سكان القطاع، الذين دمرت بيوتهم ومساكنهم، واضطروا للعيش سنواتٍ في بيوتٍ من الصفيح والطوب، أو في الخيام وبين الأنقاض، في ظل أجواءٍ قاسية من المعاناة والحرمان في الصيف والشتاء، فقد حققت لهم المصالحة الفرصة لأن يعيدوا بناء بيوتهم، وإعمار مساكنهم ومدارسهم ومساجدهم ومعاملهم ومصانعهم، واستعادة مظاهر عيشهم العادية التي يحنون إليها، والتي فقدوها لسنواتٍ بسبب عدوان الاحتلال والإنقسام الوطني معاً.

واليوم يتهيأ آلاف الفلسطينيين للعودة إلى بيوتهم وأسرهم، بعد أن سبق المصالحة قرارٌ مصريٌ بفتح معبر رفح بصورة دائمة، وإزالة كافة القوائم الأمنية التي كان الأمن المركزي المصري المنحل يستخدمها ضد الفلسطينيين العائدين أو المغادرين إلى قطاع غزة، فيزيد في معاناتهم، ويعرض حياة بعضهم للخطر، فاليوم يدشن معبر رفح بمئات الفلسطينيين الذين يعبرون كلا الجانبين بحريةٍ وأمنٍ، دون خوفٍ من أن تعيدهم السلطات الأمنية إلى غزة، وتحول دون سفرهم، وبفتح المعبر بين مصر وغزة يزول الحصار المفروض على القطاع، وتتدفق المساعدات إلى سكانه، وتدور عجلة اقتصاده، وتتحسن ظروف أهله، ويجد الغزيون وظائف جديدة، ويباشرون آلاف ورش البناء والتعمير، ويعودون إلى حرفهم التي جمدها الحصار، ولا يعود هناك حاجة إلى أنفاقٍ مرهقة، تعرض حياة العاملين فيها إلى الخطر، وترفع أسعار السلع الغذائية وغيرها بما يرهق المواطنين والمستهلكين، وبفتح معبر رفح تتصل غزة عبر مصر بمحيطها العربي والإسلامي وبالعالم الخارجي كله، بما يحقق لأهلها العزة الكرامة، وبما يغيظ العدو الذي أراد لها ولسكانها الذل والهوان.

اليوم ينسج الفلسطينيون أثواب أعراسهم التي تأخرت، ويغزلون ثياب أفراحهم التي طال انتظارها، ويخرجون في كل مكانٍ ابتهاجاً وفرحاً، فلا شئ يسعد قلوبهم أكثر من وحدة شعبهم، وإعادة الألفة بينهم، واستعادة ما انقطع من علاقاتٍ بينهم، فاليوم تعود صورتهم البهية نقية كما كانت، صورة الشعب العربي الأبي المقاوم الجبار العنيد، فحق لهم في هذا اليوم الأغر أن يتيهوا فرحاً، وأن يتألقوا سعادة، وأن تعلو أصواتهم إشادةً بالاتفاق، وترحيباً به، وأملاً بأن يدوم ويصمد، وأن يؤتي ثماره ويحقق النتائج المرجوة منه، وألا يكون كسابقيه فينهار أمام أول عقبة، ويسقط في وجه أول امتحان، فيقتل الأمال، ويعيد اليأس إلى القلوب، والإحباط إلى النفوس، ويعيد خيار الاحتكام إلى السلاح، واللجوء إلى القوة، لفرض الرأي وبسط النفوذ.

المصالحة الفلسطينية بوابةٌ لكل خير، وبابٌ لكل إصلاح، وهي عنوان المرحلة القادمة، التي ستبدأ بعقولٍ فلسطينية مفتوحة، وقلوبٍ متحابة، وجهودٍ متراصة، وأماني مشتركة، وطموحاتٍ كبيرة وعالية، إنها مفتاحٌ لكل الأبواب المغلقة، وقلاع الخوف الحصينة، والجدر القائمة، والأسوار المانعة، وأمامها ستنهار الخلافات، وستسقط العداوات والخصومات، وستتلاشى الأوهام والشكوك، وستبدأ مرحلة جديدة من العمل الوطني المشترك، الذي يقوم على المصلحة الوطنية والشعبية الفلسطينية، ما خلصت النوايا، وصفت النفوس.

فاليوم لدى الفلسطينيين في كل مكانٍ، في الوطن وفي الشتات، يوم عيد كبير، الكل يحلم فيه بفرحةٍ تطل مشرقة من الشفاه والعيون، فالأطفال الصغار في هذا اليوم سيلبسون الجديد، وسيخرجون إلى الشوارع وأزقة الحواري وهم يحتفلون بيوم العيد، اليوم الذي أذهب عنهم الخوف والقلق، وجلب لهم الأمن، وأعاد لهم من السجن الأب والأخ والجار والصديق، إنه يوم عيدٍ حقيقي، ويوم عرسٍ وطني كبير، تزف فيه كل الأفراح الفلسطينية، وتتزين فيه كل الآمال الفلسطينية، بأثوابٍ قشيبةٍ وجميلة، تحبها العيون، وتتمناها القلوب، وتهواها النفوس، فهنيئاً لشعبنا الفلسطيني وأمتنا العربية والإسلامية بهذا العرس الوطني الكبير، ما بقي قائماً محروساً بالصدق والإخلاص وحب الوطن والشعب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق