الحالة الفلسطينية أمام مرحلة مختلفة جوهريا وهو ما على المجلس الفلسطيني المركزي أن يرسم معالمها بوضوح من خلال إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني
كان من الطبيعي أن يسارع مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى نفي الأنباء التي قالت أن فريقا إسرائيليا برئاسة مستشار «الأمن القومي» يعقوب عميدرور، يفحص إمكانية إلغاء اتفاقات أوسلو، رداً على المسعى الفلسطيني بالتوجه نحو الأمم المتحدة لنيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية. وقد سبق لوزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان أن وجه تهديداً مماثلاً في حال أصر الفلسطينيون على مسعاهم. وذلك خلال لقائه وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاترين آشتون في 17/6 الماضي.
وقد أخذ بعض «المحللين» السياسيين كلا التهديدين من زاوية قيام إسرائيل بتصعيد غير مسبوق من أجل الضغط على الفلسطينيين وحملهم على التراجع عن خطة التوجه نحو الأمم المتحدة، وكأن اتفاقات أوسلو «إنجاز» فتح الآفاق لتحقيق الاستقلال الوطني وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة!
لكن أول من اثبت خطأ هذا التقدير باتجاه عكسه هم أفراد الفريق الإسرائيلي الذي ساهم في التوصل إلى اتفاقات أوسلو من موقع إدراكهم أن هذه الاتفاقات انجاز إسرائيلي من الدرجة الأولى.
فاتفاقات أوسلو جاءت وفق أسس تم بموجبها فصل القضايا الأساسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن بعضها البعض لتتركز المباحثات عمليا على بحث مستقبل الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1967 دون أن يرتبط هذا البحث بمقدمات سياسية وقانونية تلزم إسرائيل بعدم إجراء أية تغييرات على الأرض يمكن أن تمس مستقبل هذه الأراضي خلال فترة هذا البحث. وقد وجدت تل أبيب بذلك مجالا واسعا لتوسعة الاستيطان الذي تضاعف بنية ومستوطنين خلال الفترة الانتقالية بحسب التسمية الواردة في الاتفاق. ولهذا السبب أبدت الحكومات الإسرائيلية المتلاحقة استنكارها لأي مطلب فلسطيني بربط عودة المفاوضات بإجراءات من نمط وقف الاستيطان وتحديد مرجعية المفاوضات.
كما أوقعت آليات تنفيذ اتفاقيات أوسلو المفاوض الفلسطيني في فخ المرحلية في تنفيذ الاتفاق عبر ما سمي بنبضات الانسحاب من الأراضي الفلسطينية. وقد استفاد الاحتلال الإسرائيلي من ربط هذه الانسحابات بالشروط الأمنية التي كانت تطرح على الجانب الفلسطيني مما أدى إلى حصر ولاية السلطة الفلسطينية على 40% من الضفة الفلسطينية تطبيقا للهدف الحقيقي من هذه الاتفاقات وهو إقامة حكم ذاتي فلسطيني جزئي بحدود هذه المساحة ليس أكثر. وعندما أتى استحقاق أيار في العام 1999 ليكون نهاية المرحلة الانتقالية واستكمال نبضات الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الفلسطينية أوقفت إسرائيل تنفيذ بنود الاتفاق عند حدود ما تم تسليمه للسلطة في المراحل السابقة.
وفق هذه المعادلة انطلقت المشاريع الإسرائيلية المتتالية تجاه تحديد مستقبل الأراضي الفلسطينية وتركزت هذه المشاريع على قيام دولة فلسطينية بحدود مؤقتة تنطلق من النسبة ذاتها من الأراضي التي تنبسط عليها شكليا ولاية السلطة، وقدمت مغريات من أجل توسيع هذه الولاية بشكل محدود شرط قبول الجانب الفلسطيني بنسب تبادل كبيرة للأراضي والموافقة على بقاء عسكري وأمني إسرائيلي على طول الحدود الشرقية للدولة الفلسطينية وفي أماكن أخرى من الضفة إلى جانب عدم المس بالبنية الأساسية للاستيطان وضمها إلى إسرائيل، وقبل كل ذلك إخراج القدس من جدول أعمال المفاوضات واعتمادها مدينة موحدة وعاصمة أبدية لإسرائيل.
وفي سياق المفاوضات التي نتجت عن توقيع اتفاق أوسلو تم توقيع بروتوكول باريس الاقتصادي بين المفاوض الفلسطيني والجانب الإسرائيلي والذي رهن الاقتصاد التبادلي الفلسطيني بالإجراءات الإسرائيلية وفق مبدأ استنسابي تستطيع من خلاله تل أبيب حجز الإيرادات المالية المتوجبة للسلطة من حركة البضائع المرهونة بالموانئ والمعابر الإسرائيلية، كما تحكمت إسرائيل من خلال البروتوكول بمناحي الاقتصاد الصناعي الفلسطيني عبر احتجاز المواد الأولية في موانئها لأسباب مختلفة وتحت عناوين أمنية واهية. وفي الجانب الأمني رهنت تل أبيب ومعها واشنطن التقدم في مراحل تنفيذ اتفاقات أوسلو بالتنسيق الأمني مع أجهزة السلطة الفلسطينية بدعوى محاربة التطرف ومن ثم الإرهاب الفلسطيني وأدى ذلك في محطات مختلفة إلى المس بالنشاط الفلسطيني المقاوم للاحتلال.
كما أدى عزل القضايا الرئيسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني عن بعضها البعض وبخاصة قضية اللاجئين الفلسطينيين وحق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم إلى وضع هذه القضايا وبالتالي الحقوق الوطنية في مواجهة بعضها البعض وفق المعادلة الإسرائيلية من أجل تقديم البحث بمستقبل الأراضي الفلسطينية ومسألة الدولة عن غيرها من القضايا, وقد تأسس هذا العازل منذ البداية إثر تغييب قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة عن أسس المفاوضات التي جاءت باتفاقات أوسلو وما تلاها.
وبسبب «مزايا» اتفاقات أوسلو لم يصمد حتى بنيامين نتنياهو على موقفه المعارض لاتفاقات أوسلو، وهو الذي قال منذ العام 1993 عندما كان رئيسا للمعارضة أنه سيلغي اتفاق أوسلو في حال أصبح رئيساً للحكومة. إلا أنه وقبل أسبوعين من انتخابات العام 1996 التي فاز فيها برئاسة الحكومة غير موقفه المعلن وقال أنه سيفي بالتزام إسرائيل تجاه الاتفاق وإن كان بطريقته واعتمد شعاره المشهور «إذا أعطوا فسوف يأخذون». لكن على الرغم مما أعطاه المفاوض الفلسطيني إلا أن نتنياهو تهرب من استحقاق انتهاء الفترة الانتقالية في أيار 1999.
حتى أن ارئييل شارون الذي أعلن في العام 2001 وفاة اتفاق أوسلو أصر على الاحتفاظ بمزايا الاتفاق والمقصود هنا الحفاظ على وضع السلطة الفلسطينية بتكبيلها بالشروط الأمنية والاقتصادية التي نجمت عن الاتفاق وكان يقصد طبعا بوفاة الاتفاق التهرب من انتهاء استحقاق المرحلة الانتقالية.
لهذه الأسباب جميعاً فإن الحديث عن قرار أو توجه إسرائيلي رسمي بإلغاء اتفاق أوسلو يهدف إلى خلط أوراق سياسية في الوقت الذي تعمل إسرائيل على الأرض بالتعاون مع واشنطن وحلفائها من أجل إفشال المسعى الفلسطيني بالتوجه إلى الأمم المتحدة عبر وسائل متعددة.
ولهذا الأسباب أيضا فإن الحالة الفلسطينية أمام مرحلة مختلفة جوهريا وهو ما على المجلس الفلسطيني المركزي أن يرسم معالمها بوضوح من خلال إعادة الاعتبار للبرنامج الوطني التحرري بعناوينه الأساسية وعدم النظر إلى الماضي البعيد بمعايير أوسلو أو الماضي الذي استند إلى مؤتمر أنا بوليس وكذلك بما يخص الأمس الذي تمثله المفاوضات التي جرت العام الماضي ووصلت إلى طريق مسدود كان متوقعا لأنها وسابقاتها لم تخرج عن الأسس المجحفة التي وضعت قبيل توقيع اتفاق أوسلو وبعده.
ومن المفيد هنا تسليط الضوء على الخطوة الناقصة التي بدأت في أيار الماضي من خلال توقيع اتفاق المصالحة والتي راوحت في خندق المحاصصة الثنائية بين حركتي فتح وحماس، مما يجعلنا نؤكد مجددا على ضرورة الخروج من هذا المأزق من خلال وضع تنفيذ اتفاق المصالحة برسم الحوار الوطني الشامل، الذي هو برأينا المدخل الوحيد الصالح لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الغائبة.. ومن غير ذلك وما سبقه فإن الحديث عن إعادة الاعتبار للمشروع الوطني سيبقى للتداول اللفظي.. ليس إلا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق