على مرمى دولةٍ أم على مهبطِ وطن؟/ آمال عوّاد رضوان


وما زلنا بقايا البقايا هنا.. شظايا مِن تكويناتِ الأمس والأزل، تشدّنا اللحظة إلى حنين الأمّهات للجبهات المحروقة، وتحرقنا جمراتُ الانتظار، أكأنّما نغطّ في صمتٍ زاحفٍ إلى أوج النهايات أم إلى دركِ البدايات؟

مِن قمّةِ الكرمل إلى ساحل حيفا البحر، مُرورًا بسور عكا ومينائها تمخرُ الآمالُ وتُحلّقُ في سماءِ القدس وتتضرّع، عساهُ يتزلزلُ حجابُ الشّمس مِن خلفِ زخّاتِ العِبَر ليفتحَ بابَ الفرَج!

لكن في كلّ هفوةٍ لنا سقطة!

ونسقطُ من أعالي السّموات الحالمةِ، تتلقفنا فوضى الحقيقةِ مترامية الأطراف على عتباتِ الانزلاق.. نحبو بوجع.. ونصبو إلى آتٍ مُغاير.. ينثرُ بذارَ الآمال المضيئةِ في حقولِ وطن، بعيدًا عن حدودِ الهاوية والعتمة!

فهل لنا أن لا ننجرفَ في مزالق مَن أرادونا حكايةً خاصّة بكامل التفاصيل المرسومة، كي يسردَها العابثون في أروقةِ التماهي وصوامع التباهي، وتحتسيها كؤوسُ اللّغات بمذاقاتِها الغريبة!

تتوالى الأحداثُ وتتعاقبُ الأدوار، وباختصارٍ دونَ لفٍّ ودون اجترار، يَبُقُّ التاريخُ حصوةَ ذاكرتِهِ الملغومةِ عبْرَ عشراتِ العقود.. ويعلو صوته مزمجرا..

اعترفت القمّة العربيّة بمنظمة التحرير الفلسطينيّة ممثّلاً شرعيًّا ووحيدًا للشعب الفلسطينيّ، لتؤكّد حقّ الشعب الفلسطينيّ في إقامة دولةٍ مستقلة، كما حصلت منظمة التحرير الفلسطينيّة على صفةِ مراقب في الأمم المتحدة كدولة غير "كيان" منذ 22 نوفمبر 1974، وخوّلتها بذلك أن تتحدّث في الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة، ولكن ليس بالتصويت.

ثمّ..

في عام 1988 أعلنت القيادة الفلسطينيّة ممثلة بالرئيس الرّاحل ياسر عرفات في الجزائر استقلال دولة فلسطين، وحصلت على اعتراف على إعلانها الرّمزيّ الذي جاء في أوج الانتفاضة الفلسطينيّة!

ثمّ..

عام 1993 عادت منظمة التحرير الفلسطينيّة إلى غزة وأريحا ضمن اتفاقيّة أوسلو، إذ منحت المنظمة تشكيلَ "كيان" على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة، بعد الاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل..

واليوم..

يتجه الفلسطينيون في الضفة لانتزاع اعترافٍ دوليٍّ بدولةٍ فلسطينيّة على حدود الرابع من حزيران عام 1967، ويبدو أنّ الجدل بات صاخبًا بين مؤيدين ومعارضين!

التفتوا شمالا..

إنّ الأقليّة الفلسطينية ال 48 في الضفة الأخرى داخل الخط الأخضر حائرة في مستقبلها، ضائعةٌ بين التكوينات السّياسيّة والتركيبات الاجتماعيّة في كيان يعجُّ بالأقليّات الدّرزيّة والمسيحيّة والإسلاميّة إلى جانب الأكثريّة اليهوديّة!

إنّها أقليّة تصارع للمحافظةِ على زفير لغتِها بين أجيالها المتعاقبة، وعلى شهيق انتمائها بتأكيد جذورها في كلّ شبرٍ من وطنها الرّاكن في مفاتيح ذاكرة القرى المهجرة، وتصرّ على البقاء في شظايا وطن سلخته السّاسات والاتفاقيّات!

إنّها أقلية تائهة بين إصرار "إسرائيل" على انتزاع اعترافٍ عالميٍّ بيهوديّة دولتها، وإصرار الفلسطينيّين بأحقيّتهم بدولة.. فإلى أين سيقود الضياع بين إصرار كيانييْن، أحدهما يُشدّد بقبضةٍ حديدية على الأرض والإنسان، والآخر هشّ لحدٍّ يهدَّد بخطر الوجود؟

وما زال أيلول أسود بكلّ المعايير في الذاكرة الفلسطينيّة والعربيّة..

فهل يُخفي أيلول انتفاضة جديدة، أم أنّ المسيرات المؤيّدة للدّولة ستضع الدّولة العبريّة أمام يهوديّتها على مائدة الأمم؟

هل سيكون المقابل بالمقابل، وتمنح الدولة الفلسطينيّة شرعيّةً ليهوديّة إسرائيل؟

هل سيشطب أيلول حقّ العودة من أجندة المبادئ الفلسطينيّة، ويقضي على ما تبقى مِن وطن؟

وتتعدد أحجار الشطرنج على موائد المفاوضات، وتتراوحُ بين سقوط جنود وخيول وقلاع وطن..

وما زالت ثقافة القابضين على جمر الصّمود تعلو فوقَ كلّ الأصوات الناشزة، والتي ارتأت أن تدمج بين مؤسّسات الترهيب ودوائرِ الترغيب!

وما زالت ثقافة الرفض للذوبان والتذويب في محلول التجنس والتجنيس، تصرّ على مدّ جسور التواصل مع كافة ينابيع وأنهر وحتى نواعير الوطن!

وما زالت ثقافة التحدّي تستنشقها الأجيال تلوَ الاجيال، عبْرَ المواويل والميجانا والعتابا والأوف، عبْرَ قصيدةٍ تغني للوطن، وتعتبُ على إخوة الجوارِ الذين تخلّوْا عن أهل الدّار وأطفال الدّيار..

وما زالت ثقافة الانتظارِ تبتهلُ لإخوة على الحدودِ بين النّار والنار، تشتاقهم مفاتيحُ البيوت الموصودة المهجورة، لتتعطّرَ بهم مواسمُ قطافِ الزيتون والبرتقال وكروم العنب والصبر والتين.

يتمدّدُ الوقتُ وتتثاءبُ الفصولُ على مسرح الانتظار.. تحتضرُ عقاربُ الزمن المعقوفة على حواشي الوطن، وتتبدّلُ اتجاهات الرّياح وتهبّ من خلفِ الحدود، تحاول أن تستحضرَ أجنّة سلامٍ نجَتْ من أنين المراحل المُجهَضة!

أتراها تنقشع الغيوم عن سماء الأنقياء، لتستردّ الرّوح من أقبية الضّياع؟

الكينونة أمستْ تعرضُها جدرانُ الفصلِ وجداريّات البتر، والصّورة الكيانية باتت مشروخةً بمشرط الأمم!

وما زالت الأحلامُ تنفردُ على مساحاتِ التعبير والولاء والتبعيّة، ونحن وهم وكلّ الأشقاء أشقياء في وطن ممزّق بين شطريْن، فنحن وهم نتوق إلى وطن وننتظر على حافة التمني لزمن آخر نحشوه برونق وطن...

وهم.. يتمنون دولة؟

فمن هم ومن نحن؟

ومَن تراهم يكونون أبرارًا ذوي كفوفٍ بيضاء في وطن تكسوه العتمة؟

مَن تراهم يكونون أخيارًا في وطن النزوات وأرض الحكايات الحية؟

ومَن تراهم في لظى الحَرّ يرسمون على الوجوه الشمعيّة وطنًا مصبوغًا بالأحمر؟

وفي ظل الالتفافاتِ على كلّ المشاريع السّابقة واللاحقة، تتراوحُ التساؤلات بيَن شرعيّتِها وعدم شرعيّتها..

فهل تنجح السّلطة في إعلان دولةٍ على وطن مزّقته السّاسات الأمنيّة والمطامع الخارجيّة؟

أم سيصحو الفلسطينيّون على كذبة أيلول أسود آخر، يتآلف وأيلول الآخر السّالف، الذي ما زال أسودَ في تاريخ العلاقات الأخويّة الأردنيّة الفلسطينيّة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق