منذ الحرب على غزة والعلاقات التركية الإسرائيلية تشهد توتراً غير مسبوق تجلى في كثير من المواقف التركية وردود الأفعال الاستفزازية الإسرائيلية عليها .. والتي كان من بينها الإهانة المتعمدة التي أقدمت عليها إسرائيل بحق السفير التركي، في أوائل هذا العام .. ولكن حكومة نتنياهو لم تستجب لطلب أنقرة بالاعتذار عن هذه الإهانة..
ازدادت حدة التوتر بين الطرفين حتى وصلت طريقاً شبه مسدود في مايو 2010 بعد الهجوم الإسرائيلي على سفن أسطول الحرية (1) الذي كان يحمل مساعدات لقطاع غزة.. والذي أسفر عن مقتل تسعة من المتضامنين الأتراك.. إذ مضت "إسرائيل" في غيها واستبكارها فرفضت الاعتذار وتسوية الأمور مع الدولة التركية .. فأحالت الأمم المتحدة المسألة إلى لجنة تحقيق دولية برئاسة جيفري بالمر رئيس وزراء نيوزيلندا السابق والرئيس الكولومبي السابق ألفارو أوريبي نائباً للرئيس مع عضوية الإسرائيلي جوزف إتسهار، والسفير التركي المتقاعد سليمان أوزدم سنبرك.. وبدأت تحقيقاتها في 10 آب 2010 .
في الثالث من أيلول 2011 تسلم الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون "تقرير بالمر" .. ويشير ما تسرب من هذا التقرير إلى أن التقرير اكتفى بوصف "الهجوم الاسرائيلي" على سفن الأسطول بأنه "مفرط في القوة وغير مقبول".. ولكن "الجنود الإسرائيليين واجهوا مقاومة عنيفة ومنظمة".. في حين وصف تصرف " من كان على متن السفينة مرمرة" بعدم الاكتراث في محاولتهم "خرق الحظر البحري الشرعي.. على قطاع غزة"
استثار التقرير العجيب عاصفة من ردود الأفعال .. إذ جاء "إسرائيلياً وسياسياً" بامتياز..كما جاء مجحفا ومجافياً للحقيقة .. فضلاً عن خروجه على "القانون الدولي" ، والاجماع الدولي بـ"تجريم الحصار".. بل الأخطر من ذلك أنه برر الجريمة الاسرائيلية بالادعاء بحق دولة الاغتصاب والاحتلال بمهاجمة السفن في المياه الدولية.. هابطاً بذلك إلى حضيض الاستهتار بدماء الأبرياء .. .. فضلا عن أن التقرير انطوى على جملة من المفارقات منها :
1. أوضح التقرير بأن أعضاء اللجنة لم يمتلكوا الحق بالحصول على شهادات، ولا الحق بطلب امتلاك وثائق، واكتفوا بالمعلومات التي حصلت عليها اللجنة من إسرائيل ومن تركيا" لذلك فإنّ "خلاصات التقرير لا يمكن أن تُعَدّ نهائية من وجهة نظر القانون ولا الوقائع".
2. تبنى الرواية الإسرائيلية.. بالإشارة إلى أن "معظم المشاركين في قافلة السفن لم تكن لديهم نوايا عدوانية باسثناء افراد منظمة ( (أي إتش إتش - (IHH الذين خططوا لخوض مواجهة... وهو ما تردده الدعاية الإسرائيلية من أن العملية كانت "عملية دفاع عن النفس اضطر الجنود لقتل تسعة من مشاغبي هذه المنظمة الذين شكلوا خطراً على حياة جنود جيش الدفاع الاسرائيلي.. !!
3. اشتمل التقرير على العديد من الأحكام السياسية .. من أمثلتها بأن على " تركيا وإسرائيل استئناف علاقاتهما الدبلوماسية كاملة عبر إصلاح علاقاتهما لمصلحة الاستقرار في الشرق الأوسط".. و أن "أمن إسرائيل يواجه تهديداً حقيقياً من جانب المجموعات المقاتلة في غزة.. وعليه فإن الحصار البحري فرض باعتباره تدبيراً أمنياً مشروعاً بهدف منع إدخال الأسلحة إلى غزة عبر البحر، وتطبيقه يتماشى مع متطلبات القانون الدولي" .!!
4. وضع إسرائيل فوق القانون الدولي.. ولكنه عتب عليها لـ" استخدامها القوة المفرطة" .. وكأنه يشرعن لها استخدام القوة ضد الأبرياء على ألا تكون قوة مفرطة!!
أما ردود الأفعال على التقرير الأممي فقد جاءت أيضاً حافلة بالتناقضات منها :
1. أن "دولة الاحتلال" لم تقبل يوماً بأي من القرارات التي أصدرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة ، ولكنها أعلنت على الفور قبولها بـ"تقرير لجنة بالمر" .. !!
2. أن النظام العربي التزم الصمت المريب إزاء فتوى التقرير بشرعية "الحصار على قطاع غزَّة " في حين سارعت تركيا للتقدم بدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي للإعتراض على ما زعمه تقرير بالمر من قانونية الحصار الوحشي الذي يفرضه الكيان المغتصب على قطاع غزة .. !!
3. إضافة إلى أن تركيا ارتأت بأن الوقت قد حان لتدفع "إسرائيل الثمن".. فأعلنت عن سلسلة من العقوبات على إسرائيل بدأتها بطرد "السفير الصهيوني" وتعليق قائمة من الاتفاقات العسكرية التي تبلغ قيمتها مليارات الدولارات.. وأكدت رفضها للتقرير، وعدم اعترافها بشرعية الحصار الإسرائيلي على غزة ، وقررت التقدم بدعوى قضائية أمام "محكمة العدل الدولية".. كما أعلنت عن تقديم الدعم للضحايا الأتراك والأجانب ليلتمسوا العدالة من المحاكم!!
ولعل من الإجراءات الاستراتيجية المهمة يتجلى في الإعلان عن عزم تركيا على اتباع استراتيجيه أكثر تشددا في منطقه شرق البحر المتوسط .. بحيث لن تستطيع "إسرائيل " مواصلة" البلطجة فى البحر المتوسط لا من الجو ولا من البحر فسلاح البحرية التركى سيتولى تأمين الملاحة البحرية.. ولن يسمح لـ"إسرائيل" بعد اليوم بمد مياهها الاقليمية لعشرات الأميال خارج مياهها الاقليمية".. أو اعتبار البحر الأبيض المتوسط بحيرة " إسرائيلية"!!
هذا الموقف التركي الحازم برفض سياسة التعالي والإهانة الإسرائيلية.. جاء منحازاً للكرامة الوطنية ولمصالح الدولة والأمة العليا.. موقف جدير بأن يقرأ جيداً وأن يتم استلهامه في التصدي لدولة الجريمة المنظمة بامتياز في هذه المنطقة من العالم .. والتصدي لكافة أشكال العربدة الصهيونية في البر والبحر والجو .. والذي كان "أسطول الحرية" مثالاً حياً عليها ..
فهل سيترك ثوار العرب - وهم يصنعون ربيعهم الزاهر- "تركيا" تخوض منفردة معركة الأمة في "تأديب إسرائيل"؟؟ ..
eidehqanah@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق