أنا مسيحي من الشرق. "اؤمن بآله واحد آمن ضابط الكل، خالق السماء والارض"، لكنني عندما اقوم بعملي لا انتمي الى أي دين، بل انتمي الى الانسانية جمعاء. أنا لبناني، أقدس الارض، وأنام على رجاء قيامة لبنان، لكنني كمواطن لا انتمي الى فئة دينية أو فئة سياسية؛ بل انتمي الى لبنان، كل لبنان. وأكثر ما احلم به هو الانصهار لا "التعايش" المسيحي – الإسلامي في لبنان والمشرق العربي. وحتى لا يبقى هذا الانصهار حلماً، أؤمن بفصل الدين عن الدولة كما أؤمن بالدولة المدنية التي لا دين لها الا المواطنية. من هنا جئنا نتكلم عن أهمية الوجود المسيحي في الشرق ودور المسيحيين في صنع عالم عربي جديد.
يرتبط الوجود المسيحي في الشرق ارتباطاً جذرياً بقيامة لبنان. فاذا انهار لبنان ينهار هذا الوجود. ان لبنان يشكّل العمود الفقري لهذا الوجود، كما يشكل بنيته الرمزية. ويقوم لبنان عندما تقوم فيه الدولة القوية. فليس هناك وطن دون دولة قوية. إن معادلة "الشعب والجيش والمقاومة" التي يتغنى بها بعض اللبنانيين والتي تتبناها الدولة هي معادلة ضد الدولة وعقبة في طريق قيامها. نحن نحترم المقاومة وننحني أمام تضحياتها، الا اننا نرفض ان تكون المقاومة فوق سقف الدولة. ان المعادلة التي نؤمن بها هي معادلة "الشعب والجيش والدولة". هذه هي المعادلة التي يجب ان يتبناها الحكم في لبنان دون رياء أو مواربة. فكيف تقوم الدولة والدولة ذاتها تعمل على اجهاضها؟
ويرتبط الوجود المسيحي بقضية الحرية. وكم يتساءل المرء لماذا ولدت المسيحية في الشرق، ثم ما لبثت ان هاجرت الى بلاد الاغريق ومنها الى روما ومن بعدها الى الغرب كله؟ لربما كان ذلك لان المسيحية لا تنمو ولا تزدهر الا في الحرية. لقد هاجرت الى الحرية. وليس سراً ان الصراع القائم في الشرق لا ينحصر في الصراع على الارض والنفط والمياه والثروة، بل يتعداه الى ما هو أهم وهو ماهية الانسان في هذه الارض. فالحرية هي البوابة لصنع انسان عربي جديد. ومن الاكيد ان المسيحيين والمسلمين في لبنان ما كانوا ليتمكنوا من صنع هذه الحضارة المميزة لو لم تكن هناك حرية في لبنان. فالمسيحية الحية والخلاقة لا تعيش دون الحرية. من هنا اهمية دعم الحركات الثورية التي تطالب بالحرية. ونحن نعرف اين كانت الحرية في هذا الشرق في السنوات الستين الماضية. كانت تحت "جزمة" الحاكم الواحد المتأله.
وكذلك يرتبط الوجود المسيحي في الشرق بالتفاعل الحضاري الحي بين المسيحيين والمسلمين. ويؤسفني ان اقول إن البعض يعتقد أن المسيحيين في الشرق يواجهون ازمة وجودية اذ انهم أقلية في عالم يشكل فيه المسلمون الاكثرية العظمى. ومنهم من يهمس بأن الاسلام هو خطر حقيقي عليهم. نحن نعتقد العكس. نحن نؤمن بأن المسيحيين في الشرق قد منحوا فرصة تاريخية ليست متاحة لغيرهم. انها فرصة للتعرف على الاسلام وحضارته عن كثب وبعمق. انها فرصة للاغتناء بالاسلام. ان التفاعل الحي بين المسيحية والاسلام يرتقي بنا الى حضارة عظيمة هي مزيج من كليهما. من هنا ندعو الى الانصهار المسيحي الاسلامي في هذا الشرق، كما ندعو الى معانقة المسيحية للاسلام بالمحبة والتسامح. وعندما تعانق المسيحية الاسلام، يرتفع الانسان في كل مكان، ليس في الشرق وحده بل في العالم كله. وقد كان البابا يوحنا بولس الثاني على رؤية عظيمة عندما طلب من المسيحيين في الشرق أن يحبوا اخوانهم المسلمين وان يعملوا معهم جنباً الى جنب على صنع مجتمع جديد. وفي هذا التفاعل الحي الذي نطمح اليه ليست هناك ضرورة لأحد أن يحمي أحداً.
في الآونة الاخيرة سمعنا من يقول "بأن حماية المسيحيين هي مسؤولية اسلامية". نحن نعرف ان المقصود من هذا الكلام هو توطيد أفضل العلاقات بين المسلمين والمسيحيين، لكننا نود أن نسأل: لماذا يحتاج المسيحيون الى حماية؟ هل هم غرباء عن هذه الارض؟ أم ان ولاءهم ليس لهذه الارض؟ وهنا لا بد أن نتذكر أن المسيحيين كانوا في هذه الارض قبل مجيء الاسلام؛ وانهم كانوا رواد النهضة العربية الحديثة. كما كانوا رواد الدفاع عن القضايا العربية وبالاخص القضية الفلسطينية. فالكلام عن الحماية يعني في العمق ان المسيحيين هم في خطر وفي حاجة الى حماية. هذا منطق الأكثرية والاقلية العددية. من أجل هذا نحن نتطلع الى قيام الدولة المدنية التي تفصل بين الدين والدولة والتي تؤمن الحرية والحقوق لجميع المواطنين. عند ذلك لا تكون هناك أكثرية وأقلية بل يكون هناك مواطنون. عند ذلك لا يحتاج أحد الى حماية من أحد فالدولة وحدها تؤمن الحماية للجميع.
هناك من يخاف أن تفرز الثورة حركات أصولية متشددة قد تقود الى حروب أهلية تنتهي بتفتيت هذه المنطقة الى دويلات اتنية أو طائفية. وهناك من يعتقد أن ثمة مؤامرة كبرى يقوم بها الغرب واسرائيل على الشعوب العربية. ان نظرية المؤامرة هي قسم من مشكلة العقل العربي. والذين يخافون تفتيت المنطقة الى دويلات هم الذين لا يريدون تغيير الوضع الحاضر. أما الخوف من نشوء حركات اسلامية متشددة فهو خوف في محله إذ ان الطريق بين الثورة والحرية طريق طويل فيه الكثير من المشقات والمطبات. فإذا أخذنا مثلاً الثورة الفرنسية، نعرف كم دفع الفرنسيون ثمناً باهظاً للوصول الى الحرية. فالثورة الفرنسية مرّت بالفوضى ومرّت بأحداث دامية، قبل أن تصل الى الحرية والى الدولة المدنية. لم يكن الوصول الى الحرية سهلاً. لكننا نسأل أين كانت فرنسا اليوم لو لم تقم فيها الثورة؟
ان الثورة العربية لا تزال في مهدها وهي في بداية الطريق الطويل. ويجب أن نتذكر ان الثورة التي نشهدها اليوم لا يقوم بها سياسيون ولا عسكريون ولا أناس يريدون تغيير النظام للاستيلاء على السلطة. انها ثورة الناس العاديين. هؤلاء الناس لا يتكلمون عن الدين ولا يرفعون شعارات سياسية سئمناها. انهم يتكلمون عن الحرية، والكرامة، والعدالة. انهم يتكلمون عن حقوق الانسان. وقد تقوم حركات اصولية متشددة ولكن من الصعب عليها الوصول الى الحكم، وان وصلت فلن تتمكن من الحفاظ عليه. ان الحركة الثورية يقودها شباب يؤمن بالتكنولوجيا وقوة المعرفة وأهمية التواصل مع العالم والحضارات الاخرى. أنهم بكل تأكيد لا يريدون بناء أوطان على أساس القمع والخوف والاستبداد والطائفية. والذين يخافون الثورة يأخذون العراق نموذجاً. هذا خطأ كبير. إذ ان العراق ليس نموذجاً لهذه الثورة. ان نموذج العراق هو عكس نموذج الثورة. فالعراق لم يشهد ثورة قام بها ابناؤه، بل شهد احتلالاً قامت به دول أجنبية.
من يخف التغيير يبق مكانه. ومن يخف الخطر يبق قابعاً في بيته. ومن يخف الفشل لا يمكنه تحقيق النجاح. هذه ثورة. وهل هناك ثورة لم يكن فيها الكثير من الخطر والفشل؟ وهل هناك طريق أخرى للخروج من هذا السجن العربي الكبير؟ ها قد انتظرنا هذه الثورة طويلاً. قد يختلف رجال الدين في المسيحية والاسلام على معنى الثورة ودورها. والاختلاف في الرأي حق يجب أن نحترمه. فمنهم من يدعمها ومنهم من يخافها. الا ان المسيحية لا تتردد اطلاقاً في دعم المظلوم ضد الظالم والمقهور ضد القاهر والضعيف ضد القوي. "أن المحبة لا تفرح بالظلم بل بالحق". جاء المسيح بالسلام والتواضع ليبني عالماً على أساس المحبة والتسامح. الا ان المسيح نفسه كان ثائراً، ثائراً على الظلم والاستبداد والفساد. من أجل ذلك صُلب ومات ثم قام. ان الحرية هي كالمحبة "لا تسقط أبداً". قد يقتلونها ويدفنونها في الأرض. لكنها دائما تنبعث ثانية من جوف الارض حية. والمسيحية دون الحرية هي مسيح مصلوب. نحن نريد انزاله عن الصليب. فهل هناك من يريد قتله مرة ثانية؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق