كنتُ في بغداد (7)/ د. عدنان الظاهر

( تشرين الثاني ـ كانون الأول 2011 )
أسماء لا أنساها
في زحمة وصعوبة المراجعات في دوائر الحكومة وإزعاجات بعض الموظفين تحت دوافع شتّى بعضها واضح شديد اللمعان والآخر غامض يحتاج إلى استيضاح أو إنارة ... في هذه الظروف الصعبة الملتبسة والمتشابكة تعاملتُ مع بعض الموظفات والموظفين من ذوي النفوس الكريمة والأخلاق العالية والوجوه الضاحكة قدموا لي كل مساعدة ممكنة دون سابق معرفة بيننا ومن غير وساطة أو رشى . كانوا برفيع نفوسهم أكبر من الرشى والوساطات . كنت حائراً كيف أفسر هذه الظاهرة وكيف شذَّ هذا الرهط الممتاز فعَلا وترفع ولم يتكبّر أو يتجبّر ولم يخنْ شرف ما يحمل من مسؤوليات وظيفية . أنحني لهم جميعاً ولا أذكرهم أو أتذكرهم إلاّ بالإكبار والفخر والهيبة . لا أحسب أنهم وحدهم يمثلون هذه الإستثناءات النادرة لكنها الصدف المحضة التي وضعتني أمامهم ووضعتهم أمامي فكان بهم ومعهم حظي كبيراً وأنْ ما زال في دنيانا الكثير من الخيّرات والأخيار والطاهرات والأطهار .
السيدة إنتصار /
أذكر بالإكبار السيدة إنتصار في قسم الشؤون الإدارية التابع إلى كلية علوم جامعة بغداد . أحاطتني لا أقول بما يليق بي من رعاية واهتمام ولكن بما يليق بها سيدةً كريمة الطبع والمنشأ وبما ينسجم مع تربيتها ونشأتها الأولى . قدّمت كل ما تستطيع لتيسير وتمشية معاملاتي بل وقادتني بنفسها إلى بعض المكاتب ثم هي التي أعدت كتاب كلية العلوم الموجه إلى رئاسة جامعة بغداد . بمثيلاتك إنتصار تفخر نساء العراق سيّداتٍ ووالداتٍ وموظفات في الدولة العراقية .
الدكتور حارث إبراهيم جعفر / معاون عميد كلية العلوم للشؤون العلمية / جامعة بغداد
دخلت عليه بدون موعد مُسبق فاستقبلني بالأحضان والقُبل وأحال طلبي على الفور إلى الست إنتصار . لا أعرف الرجل ولا أظنه سمع حتى بإسمي مُدرِّساً في هذه الكلية في سبعينيات القرن الماضي . سألته هل يعرفني فلم يُجب . في حضرته عاد لي شعوري القديم وافتخاري أني أحد أعضاء هيئة التدريس في قسم الكيمياء في كلية العلوم . حرمني البعثيون حتى من ذاك الشعور وذاك الإحساس بالفخر فضلاً عن حرماني من حقوقي العلمية والأكاديمية والتفرغ العلمي والتمتع ببعض الزمالات المكرّسة للبحث العلمي . عطّل مجلس قيادة الثورة نفسه ( مكتب أمانة السر ) إحدى هذه الزمالات التي رشحتني الكلية لها عام 1977 ووافقت وزارة التعليم العالي والبحث يومذاك على هذا الترشيح . لديَّ نسخة من كتاب الترشيح . كنت أستنشق هواء عذباً نقياً في مكاتب هذه النخبة من الناس علميين وإداريين .
السيد رائد / مكتب الشؤون الإدارية في رئاسة جامعة بغداد
ما أكبر همّة هذا الشاب المؤدب الخلوق الأمين على أداء مستلزمات وظيفته والقادر على تفهم حاجات الناس ومقدار معاناتهم . أشرف بنفسه على تمشية معاملتي خطوة فخطوة حتى بلغت مرحلتها الأخيرة وهي توقيع السيد رئيس جامعة بغداد الدكتور موسى جواد الموسوي. وقّع الرئيسُ فحملها رائد معي بنفسه للصادرة وأتم آخر خطوة وسلّمني كتاب رئاسة الجامعة الموجّه إلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي / رئاسة لجنة المفصولين السياسيين المركزية [ نقلتُ نصَّ هذا الكتاب في حلقة سابقة ]. عجزتُ عن شكره .
السيدة ناهدة / مكتب الأراضي المُصادرة والمتنازع عليها / وزارة المالية / إدارة عقارات الدولة .
سيّدة أخرى من بنات العراق اللواتي يزهو بهنَّ العراقُ ويفتخر . ما كانت محجّبةً بل إكتفت بغطاء للرأس ملوّن . لم تُخفِ عني أمراً أو كتاباً وقدمت لي النصائح والمشورات التي ضنَّ بها عليَّ العديد من موظفي الدولة . جمعت بين الوظيفة والدراسة وأضاءَ نورُ وجهها فضاء مكتبها الذي قاسمتها فيه موظفة أخرى لا تُعجبها رؤية الناس إلاّ من خلال مايكروسكوب !
كانت السيدة ناهدة هي حلقة الوصل الروتيني بين مديرية التسجيل العقاري / الرصافة الثانية، والأمانة العامة لمجلس الوزراء العراقي .
الأستاذ جلال الربيعي / في الحاسبة المركزية
أوصاه بي أحد أبنائي المخلصين فزرته فبهرتني أخلاقه وسماحته وقدرته على تفهّم حاجاتي وهي كثيرة وإنها مُعقّدة . كانت معاملاتي متوقفة على إضافة إسمي للبطاقة التموينية التي نحن لسنا بحاجة لها أصلاً كوننا مقيمين في بلد آخر خارج العراق فلماذا نكلف العراق أموالاً لقاء أغذية نحن في غِنى عنها لا تفيدنا ولا نفيدُ منها أولاً وآخراً ؟ أُخذتُ بشهامته وعراقيته العشائرية الأصيلة وطيبة تكوينه الطبيعي الأساس . إلتحق به شابان آخران ما الطفهما كتب لي أحدهما رقم تلفونه المحمول عارضاً عليَّ مساعدته في كل أمر قد يواجهني لكني لم أفعل لأنَّ المشاكل التي واجهتُ لاحقاُ لا يحلها إلاّ نائبٌ في البرلمان أو وزيرٌ أو وكيلُ وزيرٍ أو رئيس حزب أو كتلة سياسية ! أشفقتُ عليه ثمَّ على نفسي وعلى ما كنتُ فيه من يأس وبؤس نفسي محطّم وخيبة بلا حدود . يحطّمنا التعاملُ مع بعض موظفي الدولة إذْ يجعلوننا نُحس أمامهم بالكثير من الذُل والصغار والهوان علماً أنهم ليسوا الأفضل ولا الأكبر ولا الأكثر علماً وأدباً لكنها الوظيفة تُعلي مّنْ تُعلي وتُذلُّ مَن تذلُّ وتُغني وتُفقر .
السيد أبو أحمد / من لجنة المفصولين السياسيين المركزية في وزارة الصناعة والمعادن .
أبو أحمد مَثَلٌ ومثال آخر أذكره بكل إعتزاز وإجلال . جمع عناصر التربية العالية والإعتزاز بشرف المسؤوليات الوظيفية ثم الأدب الراقي في التعامل مع مراجعي مكتبه .
في حجرته العديد من السيدات الموظفات والأخوة الموظفين تعاونوا معي إذْ غاب ذات يوم ولا سيّما سيّدة مُحجّبة بالسواد . أولى أبو أحمد [ السيد باسم ] موضوعي الأهمية القصوى ووعد بمتابعته شخصياً بعد مغادرتي العراق بل وكتب لي أرقام تلفونيه المحمولين للسؤال عن مسارات قضيتي وسأتصل قريباً به سائلاً مستفسراً . تؤسرني وتستعبدني الأخلاق في الناس وتواضعهم ونقاء سرائرهم وإخلاصهم لواجباتهم الوظيفية لذا وجدت السيد أبا أحمد المَثَل والمثال والآسر الكبير فله شكري وامتناني مع كبير توقعاتي .
في ديوان وزارة الهجرة والمُهجّرين /
هنا، نعم هنا، في ديوان وزارة الهجرة والمُهجّرين إستنشقتُ الهواء النقي وشممتُ أريج النزاهة والنظافة والحرص الكامل على الإلتزام بشرف الأداء الوظيفي فما أشد حاجة العراق اليوم لرجالٍ من أمثال السيد وكيل الوزارة الدكتور سلام داوود الخفاجي الرجل المثالي المتعاون والمتفهّم لمشاكل زائريه هو وطاقم مكتبه وسكرتيرته السيّدة أم مصطفى حيث كان مكتبه شبه مفتوحٍ للمراجعين فسلامٌ عليك دكتور سلام الخفاجي يوم وُلِدتَ ويومَ تُبعثُ حيّا . ثم وكيل مدير عام الدائرة القانونية في هذه الوزارة السيد سلوان عامر عبد الستّار ومعاونه الشاب الرائع الأستاذ علي حسن علي والموظف الجدير في هذا المكتب السيد وليد الكُبيسي . لا أنسى شهامة وغَيرة عدد آخر من موظفات وموظفي الدائرة القانونية ومسؤولي الصادرة والواردة حيث أحاطوني وأم أولادي بما يليقُ بنا من حفاوة وتقدير وعميق تفهّم لمشاكلنا وما عانينا في الحياة داخل وخارج العراق . لساني عاجزُ عن شكر هذه النُخبة من العراقيين والعراقيات وإمتناني لهم بلا حدود فليتَ سواهم في الوزارات الأخرى يتعظ بهم ويتخذُ منهم قُدوةً ومثالاً .
في مديرية تموين الرصافة /
هنا قابلت رجالاً من بين أخيار موظفي الدولة العراقية. مشت معاملة إضافة إسمي للبطاقة التموينية بسلاسة ويسر ومن غير عرقلات وطلبات تعجيزية أخص بالذكر السيد المدير ثم الرجل الممتاز مسؤول الذاتية والصادرة والواردة .
كانت سيارات التاكسي التي تقلني لهذه الدائرة تقف مقابل هذه الدائرة على الشارع المقابل حيث حركة مرور السيارات لا تتوقف والشارع مزدحم بالسيارات لذا كنتُ أعطي سائقي التاكسيات ألف دينار عراقي إضافي لكي يأخذ بيدي ويساعدني في عبور الشارع. وكانت شرطة الحراسة تلاحظ ما يجري وتضحك وتجاملني لحظة وصولي إلى الباب الرئيس وكانت أحيانا لا تقوم بتفتيشي لأنها عرفتني ذاك الشيخ الذي يخشى عبور الشارع لوحده.
كان الأمر كذلك في فرع تموين الرصافة حي 14 تموز / شارع فلسطين. مجموعة من السيدات المتشحات بالسواد قمن بالواجب خير قيام وقدمن لي كل مساعدة ممكنة ويسرّن لي أمري ومشيّنَ معاملاتي بسرعة فمتى أجازيهنَّ ومتى أقدّم واجب الشكر لهنَّ ؟
مثال سيء وإسم لا أنساه !
إلى أنظار السيد وزير التعليم العالي والبحث العلمي المحترم / بغداد
من بين غير القليل من الخيّرين تعاملتُ مع عددٍ من الموظفين السيئين الذين وضعتهم الأقدارُ المُبصرةُ والعمياءُ في مناصبَ ومسؤولياتٍ لا يستحقونها وليسوا جديرين بها وليسوا مؤهّلين أصلاً لأنْ يمارسوها وهذا من سوء حظنا نحن المظلومين والمتظلمين والشاكين والمغدورين . أسوق إسماً حين أذكره أذكره بخشية وهيبة وخشوع فهو(( طه )) إسم السورة القرآنية طه ونقرأ في مطلعها [[ طه . ما أنزلنا عليكَ القرآنَ لتشقى . إلاّ تذكرةً لِمَنْ يخشى ... سورة طه ]] . أجلْ ، أذكر إسم هذا السيد موظفكم فأحسُّ بالكثير من الهيبة والخشوع ولكن إذْ أقابله أشعر بالرهبة والخوف ذاك أنه ينقلب في ثانية واحدة من مخلوق متنمَر إلى طفل بريء خانع متذلل يخاطبني بالقول : سيّدي ... أنا خادمك ... أبوس أيدك ... أنا مثلك مفصولٌ سياسي . قابلته يومَ أحدٍ في مكتبه بحضور السيد [ أبو زيد ] فأنكر أني قابلته في يوم الخميس المنصرم إثرَ مكالمة له مع السيد معاون المفتش العام . كان فظاً معي في المرة الثانية غليظ القلب خشن الملمس أنكر حتى طلبه مني أنْ أجدد جدول خدماتي في كلية علوم جامعة بغداد . ولكي لا أظلم الرجل ونفسي والتأريخ وأمانة القول والإدّعاء أمامكم أنسخ ما كتب السيد طه بقلمه وخط بنانه علماً أني قادرٌ أنْ أنشر على الملأ صورة للقصاصة الورقية الصفراء التي كتب فيها ما كتب . كتب الأستاذ طه ما يلي :
[[ 1 ـ تقديم طلب يُسجّل واردة، السيد رئيس اللجنة المركزية لإعادة المفصولين السياسيين
2 ـ هويات أحوال مدنية / شهادة جنسية
3 ـ شهادة دكتوراه .. تُقدّم خلاصة خدمة من كلية علوم بغداد مُثبّت فيها ... ]]
مع كل ذلك أنكر الرجلُ أني قابلته وأنه طلب مني ما طلب لترحيل الملف الخاص بي إلى وزارة الصناعة والمعادن حسب العائدية . أهكذا يتصرف بعض موظفي وزارتكم وهكذا يعاملون مراجعيها ؟ أهذا جزاء من عارض جبروت النظام السابق وتحمّل ما تحمّل وصبر وجالد وتجلّد واستعفف وبقي رافع الرأس لم يهنْ ولم يساوم ولم يخُنْ ؟
سنرى أخيراً ما سيقرر مجلس الوزراء العراقي فالملفُّ أمام أمانته ولا أعرف كيف سيتصلون بي لو استفسروا عن شيء أو طلبوا وثيقة أخرى إذْ لم يطلب مني أحدٌ في كافة الدوائر التي راجعتُ أنْ أتركَ عنواني أو رقم تلفوني خارج العراق .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق