قدر العراق العظيم أن يعيش أسيرا بيد المحتل على مر التاريخ، فباستثناء مدد قصيرة قيض له فيها أن يكون مرة سيد نفسه ومرة سيد العالم خلال حقبة حكم الإمام علي عليه السلام وعصر الخلافة العباسية الأول، نجده يعيش بين هذه وتلك مكبلا بالقيود ونجد أرضه مسرحا للغزاة ومرتعا للطامعين الذين أنهكوه وأتعبوه وصادروا خيراته، فلم يعد قادرا على العناية بنفسه حتى ولو ترك حرا.
وتكاد الحقبة المحصورة بين أواخر حقبة الاستعمار العثماني في أواخر القرن التاسع عشر وإشراقة فجر القرن العشرين، وبداية حقبة عصر الاستعمار البريطاني في بداية القرن العشرين وصولا إلى نهاية عصر الاستعمار الأمريكي بانسحاب القوات الغازية في بداية القرن الحادي والعشرين، تكاد أن تكون من أهم الحقب التاريخية التي عانى خلالها العراقيون الأمرّين والتي تركت الأمة العراقية المجيدة تتخبط في الجهل والأمية والفقر والفاقة والجوع والتخلف العلمي والحضاري، ولأنها حقبة لما تزل وقائعها طرية في نفوسنا وأحداثها قريبة إلى أذهاننا ولاسيما وأن هناك بيننا من عايش بعض أحداثها أو كان طرفا في حراكها فمن المفروض أن ينبري لتوثيق تاريخها المؤتمنون على تاريخ الأمة وفكرها من الباحثين المتحررين من إكراهات الولاء الفئوي والعصبية القبلية والدينية والمذهبية، بدل أن يتعرض للتشويه والدس والتغيير والتلوين على يد الفئويين والمصلحيين والمغرضين والمدسوسين الذين تلاعبوا على مر العصور بتاريخنا وشوهوه وأربكوه.
ولكون الأستاذ الباحث رائد عبد الحسين السوداني صاحب الخبرة الطويلة في العمل السياسي والبحث التاريخي المعاصر أحد الذين يتحلون بهذه المواصفات فضلا عن مهنيته واشتغاله بالسياسة قبل وبعد الاحتلال الأخير، فإنه أبى أن يترك هذه المهمة العسيرة لغيره، وأصر على أن يدلي فيها بدلوه باحثا ومحللا ومنقبا ومستكشفا ومدققا ومحققا ومستنتجا، فأثمر جهده الرائع عن كتاب بعدة أجزاء تحت عنوان (حكم الأزمة، العراق بين الاحتلالين البريطاني والأمريكي) صدر جزءه الأول منه في بغداد، على أمل صدور الجزء الثاني خلال الأسابيع القريبة القادمة.
بدا الأستاذ السوداني بعد أن قسم كتابه إلى ثمانية فصول مندفعا من قناعة أن التاريخ حلقات متسلسلة ومتصلة ومترابطة بعضها مع البعض ولو قليلا بالحديث عن المشهد العراقي قبل الاحتلال البريطاني ولاسيما حقبة أواخر العهد العثماني وما تركته من أثر على مجمل الوضع العراقي العام بعد أن أسست لكل أنواع الفوضى والتخلف بما فيها التأسيس لثقافة الإقصاء والتطرف والطائفية المقيتة بعد أن كالت مع الشعب العراقي خاصة والعربي عامة بمكيالين قسمتهما ضيزى،وكأن الباحث أراد من وراء هذا الجهد شرح الآثار التخريبية التي يخلفها الاستعمار سواء كان هذا الاستعمار إسلاميا أم غربيا، فالاستعمار في نظر الأستاذ السوداني واحد وإنْ تلونت صوره وشعاراته.
وقد توصل الباحث إلى نتيجة مفادها أن الاستعمار العثماني بعنجهيته وقصر نظره وجهله السياسي وانتقائيته وتحيزه وجشعه وعدم نجاحه في وزن الأمور بميزان العقل والمنطق هو الذي قاد البلدان العربية ومن ضمنها العراق إلى أحضان الاستعمار الغربي (البريطاني/ الفرنسي) بعد ان تحول سفراء الدول العظمى المعتمدين لدى الحكومة العثمانية إلى موجهين ومسيطرين.
ثم انتقل الباحث للحديث عن الغزو البريطاني للعراق منذ اللحظات الأولى لدخوله من منفذ ميناء البصرة عام 1914 ولحين سيطرته الكلية على كامل الأرض العراقية، مشيرا إلى بعض الوقائع التاريخية المهمة التي دارت رحاها بين جيوش الاستعمارين المنتصر والمهزوم، ومذكرا بأن الاستعمار الجديد ـ في مفارقة مضحكة ـ اعتمد في كثير من نشاطاته على المنهج العثماني الانتقائي ولاسيما في تعامله مع الشعب العراقي، معتبرا هذه الانتقائية امتداد لمرحلة التثقيف الطائفي ضمن سياقات منهج جديد تحت شعار (فرق تسد) حيث يتضح الأثر السيئ لاعتماد البريطانيين على شخصيات محلية هي إما مأزومة سياسيا أو مضطربة عاطفيا أو تشكوا من عقدة الانتساب القبلي بتخطيط ودراسة عميقة تصب مصلحتها في جانب الاحتلال.
واستذكر الباحث ثورة العشرين التاريخية التي تصدى فيها رجال العراق الشجعان للمحتل الجديد وأذاقوه طعم الهزيمة وأذلوه. ثم انتقل لاستقصاء آراء مجموعة من الباحثين العراقيين والعرب والأجانب التي تناولت هذه الثورة بالدرس والبحث وأختار منهم بانتقائية علمية كل من عالم الاجتماع العراقي الدكتور علي الوردي، والكاتب العربي أمين الريحاني، والكاتب الأجنبي ل.ن. كوتولوف.
ولأن الباحث نجح في تشخيص أسباب تنامي النزاع الطائفي في هذه الحقب فإنه عرج للتذكير ببعض الرموز السياسية العراقية التاريخية التي نصبها الاستعمار وأسهمت في رعاية مصالحه والعناية بشجرة الثقافة الطائفية التي زرعها المستعمرون تلك الثقافة التي أعطت ثمارها بعد التغيير في 2003 دما مستباحا نازفا.
كما اهتم الباحث كثيرا بحقبة الملك فيصل الأول ابتداء من خلط الأوراق الذي أحدثه الإنكليز ليمرروا مشاريعهم الخبيثة وصولا إلى موضوع تنصيب فيصل الأول ملكا على العراق عام 1921 ومستذكرا الأحداث التاريخية المهمة التي وقعت في حقبة حكمه والمعاهدات التي كبل الاستعمار البريطاني بها العراق بقيوده الشيطانية، ولم يفته الحديث عن الملك فيصل والقومية العربية ممهدا الأرضية للحديث عن الأحداث المهمة الأخرى في الجزء الثاني من الكتاب.
صدر الجزء الأول من كتاب حكم الأزمة عن مطبعة دار البنين البغدادية ومكتبة الأندلس الواسطية،بمائتين وثلاث وعشرين صفحة من الحجم الوزيري بحلة جميلة.
والكتاب برصانته وزخم موضوعاته وكثرة تحليلاته واستنتاجاته يعتبر إضافة مهمة للمكتبة السياسية العربية، وهو حقا كتاب جدير بالقراءة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق