كتب الزميل انور حرب في مطلع الشهر الجاري مقالاً عنوانه »ميشال عفلق: عوض بسلامتك« اعتبر فيه ان الدستور السوري الجديد جاء نعياً لحزب البعث ووضع بلاطة على قبر هذا الحزب.
قال الزميل حرب في مطلع مقاله »... البعث الذي اسسه مفكر عبقري اسمه ميشال عفلق آمن بالعدالة وكرامة الانسان وبالعلمانية نمطاً في الحياة بامكانها انقاذ الشعب من هواجسه وطائفيته ومن الاقطاع والديكتاتوريات التي تتحكم به«.
لقد اعطى هذا الكلام بعض الحق لمؤسس البعث في زمن غاب عنه الوفاء والصدق... وجاء كلام الزميل حرب أكثر انصافاً وواقعية من كلام الاستاذ طلال سلمان الكاتب القومي والمفكر البارز الذي دأب منذ الاجتياح الاميركي للعراق على تحميل البعث مسؤولية الاجتياح والتدمير. وقد يكون الاستاذ سلمان يعاني من عقدة انتمائه القديمة لحركة القوميين العرب وشعار الدم والثأر والنار... وهو ليس الوحيد في هذا المجال، بل كُتبت الاساطير والمعلقات واصبح استعمال عبارة العروبة او القومية العربية جريمة يستحق صاحبها الملاحقة او »الاجتثاث«.
ولم نسمع من الاستاذ طلال سلمان او من العشرات والمئات غيره من الكتاب والنخب العربية كلمة استنكار واحدة لقانون »اجتثاث البعث« الذي أزهق أرواح الألوف من قادة الفكر في العراق بينهم حوالي ٠٠٨ عالم وباحث واستاذ جامعي، وتهجير او اعتقال حوالي ثلاثة آلاف بعد فصلهم من وظائفهم وحرمانهم من لقمة العيش.
ونستثني هنا عدداً قليلاً من اهل الفكر والمبادىء الوطنية مثل المفكر الجليل خير الدين حسيب الذي تحدى الاغراءات السخية وكشف حقائق المقاومة العراقية وعارض اجتياح وتدمير العراق وسط صمت عربي شامل، وهو المعروف بمعارضته للحكم العراقي وليس له علاقة بالبعث.
ان إعدام واعتقال وتهجير وإفقار ألوف العلماء والمفكرين لم يحصل بسبب انتماء هؤلاء لحزب البعث بل بسبب ريادتهم ونبوغهم العلمي والمعرفي. وكان الغزاة الاميركيون والصهاينة مع وكلائهم العراقيين يمتلكون اللوائح باسماء جميع العلماء البارزين في العراق، وحددوا اعدادهم باربعة آلاف قبل الاجتياح بسبع سنوات، كما اكد مرة الملك المغربي الراحل الحسن الثاني عندما حاول القيام بوساطة بين اميركا والعراق.
نعود الى الدستور السوري الجديد الذي لم نطلع على بنوده وتفاصيله. ويمكنني ان اؤكد ان الدستور الجديد هو اقرب الى روح وفكر البعث الذي جاء في صميم مبادئه تقديس الحرية واحترام الآخر واعتماد العمل الجبهوي لتسيير أمور الدولة والشعب. ان اي نصّ دستوري لا يقدم او يؤخر في حركة تاريخية مثل البعث لان الممارسة هي المختبر الحقيقي، والذي يؤسف له هو ان الذين مارسوا وحكموا او تحكموا باسم البعث ومبادئه غرقوا في معمعة الحكم والتحكم وضلوا الطريق ويتحملون المسؤولية وحدهم رغم التحديات والمصاعب الداخلية والخارجية ورغم تراكم المؤامرات التي عجزوا عن التصدي لها.
ان اي دستور يدعو الى احتكار السلطة وحصرها بحزب او حركة او عائلة لا يمثل فكر وتعاليم البعث. ونتوقف هنا عن سرد تفاصيل تحتاج الى مجلدات عديدة لمناقشتها لاننا لا نبغي التشهير وإثارة الفضائح في هذه الظروف التي وصل فيها العرب الى ادنى مراحل السقوط.
يدعو الزميل حرب »الاحزاب المتوالدة حديثاً ان تتعظ من دروس الاحكام والحكام باسم احزاب تحولت مع الوقت من فكرة عقائدية مثالية وانقاذية الى انظمة ديكتاتورية احادية..« هذا الكلام الواقعي يحملنا على القول ان لا احزاب متوالدة حديثاً ولن تكون هناك حركات قومية انسانية علمانية ناضجة إلا اذا انطلقت من رحم حركة البعث ومبادئها ومنطلقاتها الاصلية... فبعد مرور ثلاثة ارباع القرن على انطلاق حركة البعث ومضي ٥٦ عاما على تأسيس حزب البعث، لم يعرف العرب في جميع اقطارهم حركة قومية تمكنت من اثبات وجودها وجدارتها الى جانب البعث الذي لا ننكر اخطاء اهله ومخازيهم. وقد يستغرب الكثيرون ان يجرؤ أحد على كتابة هذه الامور ومناقشتها في هذه الظروف وبعد ما شهده العراق وتشهده سوريا حالياً.
بعيداً عن العراق وسوريا تمكن البعث من دخول جميع الاقطار العربية بمبادئه وانفتاحه لتنضوي تحت جناحه النخب الفكرية والعلمية والنقابية وسائر حركات الوعي. وتمكن البعث من دخول المجالس النيابية باعضاء منتخبين في الاردن وفلسطين ولبنان واليمن والسودان وتونس، اضافة الى فروع ناشطة في الخليج العربي وبلدان المشرق مروراً بالمغرب وحتى موريتانيا. لذلك تبقى حركة البعث بمبادئها القومية الانسانية وتعاليمها الركزة الوحيدة لبناء أي قوة تنظيمية قادرة على تحدي الواقع ومنازلة الحركات الظلامية التي تنهش الوجود العربي مدعومة ببداوة الثراء العربي الفاجر والمخططات الاميركية الصهيونية.
دعونا نلقي نظرة على ما سمي بالربيع العربي الذي كان حلم الجميع واملهم... ان الذين شاهدوا افتتاح مجلس الشعب المصري شعروا وكأنهم في احد كهوف »تورا بورا« الافغانية لتلقّي توجيهات أيمن الظواهري.. والذين سمعوا خطب القرضاوي والغنوشي والاسير والشهال عن رؤيتهم للربيع العربي واهله، تمنوا لو انهم في زمن »ابو جهل«.
ان كلامنا مستهجن، ولكن السكوت عما يجري معيب ومذلّ... لم يقف حاكم عربي واحد ليستنكر تدمير دولة عربية رئيسية تدعى العراق، بل نراهم يتوافدون حالياً لمبايعة وكلاء الاحتلال بعد التضحية بعشرة ملايين بين قتيل وجريح ومشرد ومهجر وارامل وايتام، نعم عشرة ملايين إن لم يكن اكثر.. ونراهم يلحّون على اشعال واطالة حرب اهلية داخل سوريا لازالتها عن الخارطة لتخلو الساحة لازالة العرب جميعاً.
ان هذه القضايا والاحداث لا علاقة لها بحركة البعث بل تتعلق بالوجود العربي الذي بلغ هوّة الخطر واقترب من النهاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق