(بانتظار الانتخابات البرلمانية الليبية عام 2013، تظل المصالحة الوطنية شرطا مسبقا لأي انتخابات تقود فعلا إلى ديموقراطية واستقرار في ليبيا)
"هل سوف تدخل ليبيا التاريخ كفشل آخر للتدخل الغربي في القرن الحادي والعشرين بعد أفغانستان والعراق؟" هكذا تساءل مراسل صحيفة الغارديان البريطانية، لوك هاردينغ، يوم الجمعة الماضي في سياق تغطيته لانتخابات المؤتمر الوطني العام في السابع من الشهر الجاري، ضمن جولة خطط فيها للاطلاع على موقف من وصفهم ب"الخاسرين" في حرب حلف الناتو على ليبيا.
وتهلل حكومات الدول الغربية التي قادت الحرب على ليبيا، وكذلك "النظام" المنبثق عن هذه الحرب، لانتخابات المؤتمر الوطني الليبي، وكاد سيل الإشادات الأميركية بها يوحي بأنها انتخابات تجري في ولاية من الولايات المتحدة وليست انتخابات ليبية، فالرئيس باراك أوباما اعتبرها"إنجازا تاريخيا" وأحد "معالم" انتقال ليبيا إلى الديموقراطية، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون اعتبرتها "معلما تاريخيا"، أما السيناتور من الحزب الجمهوري المنافس جون ماكين، العائد لتوه من لبنان لترتيب مصير مماثل لسورية، فاعتبرها "حرة ونزيهة وناجحة" و"مثالا للبلدان العربية الأخرى كي تحذو حذوه" واعتبر يوم إجرائها "يوما تاريخيا" باعتباره هو نفسه "مراقبا" من مراقبيها، واعتبرتها مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي كاثرين اشتون "تاريخية حقا"، واعتبرها عضو البرلمان الكندي "المراقب" لها أيضا "ليست انتخابات بل حفل تحرير"، وهذا الطابع الاحتفالي عبرت عنه فايننشال تايمز البريطانية بقولها إن "المزاج كان يشبه حفلة شوارع أكثر منه حدثا سياسيا كبيرا"، وهو ما أكده كذلك رئيس الوزراء عبد الرحيم الكيب بقوله "نحن نحتفل اليوم ونريد أن يحتفل العالم كله معنا"، واعتبرتها السيدة الليبية منى منير "حفل زواج للبلد بكامله" بينما قالت مواطنتها المسنة السيدة فاطمة محمد سعيد: "نحن الآن في الجنة".
لكن النموذج الذي يختاره عرب ليبيا بعد الحرب لإنهاء الصراع الأهلي الناجم عنها هو وحده الذي سوف يسوغ كل هذا الحبور والتفاؤل ليبشر بأن استقرار ليبيا بعد سنة عاصفة ليس سابقا لأوانه. فكما كتب مارك لينش في "فورين بوليسي" في اليوم التالي، فإن "7 تموز / يوليو كان مجرد يوم واحد فقط في ليبيا، وقد كان يوما طيبا .. غير أن قلة من المراقبين تساورهم أية أوهام بان الانتخابات في حد ذاتها سوف تحل أيا من مشاكل ليبيا الكثيرة، من الهموم الاقتصادية إلى غياب المؤسسات الفعالة للدولة إلى الدور المستمر للمليشيات المسلحة"، أو كما قال عضو البرلمان الأوروبي "المراقب" للانتخابات الكساندر جراف لامبسدورف فإن "انتخابات واحدة لا تصنع ديموقراطية .. فالانتقال إلى الديموقراطية عملية أطول كثيرا .. حتى لو كانت الانتخابات ناجحة"، أو كما كتب دان ميرفي في "الكريستيان ساينس مونيتور" الأميركية: "بصفتي واحدا ممن غطوا الحرب في العراق حتى سنة 2008، فإن رد فعلي الأول .. هو الاحساس بانقباض داخلي. ولا يعني ذلك القول إنني أعارض الانتخابات والديموقراطية. لكن الانتخابات في حد ذاتها تعني القليل جدا وهي بالتأكيد ليست ضمانا ضد الإرهاب والفوضى في المستقبل القريب" في ليبيا.
وهؤلاء وغيرهم على حق طبعا في تحفظهم، فالجو الاحتفالي الذي أحاطت به الحكومات ووسائل الإعلام الغربية انتخابات السابع من هذا الشهر في ليبيا يكاد ينسي الجميع ان ليبيا إنما تنتقل فقط من مرحلة "انتقالية" إلى مرحلة انتقالية جديدة مدتها سنة.
وكما يبدو الآن، فإن "المنتصرين" يقادون نحو اختيار نموذج الاحتلال الأميركي في العراق في "اجتثاث" الطرف الآخر "الخاسر" في الحرب، وليس نموذج "لجنة الحقيقة والمصالحة" التي أنشأها شعب جنوب إفريقيا بعد انتصاره على نظام الفصل العنصري، حيث يجد "الخاسرون البيض" في الصراع أنفسهم اليوم "منتصرين" أيضا في الوضع الجديد.
في يوم انتخابات "المؤتمر الوطني" الليبي، نشر عبد الأمير المجر مقالا جاء فيه أن "القوى الدولية التي اتفقت على إسقاط النظام" في ليبيا "لم تضع خطة لما بعد النظام، وكأن هدفها كان إنهاء الدولة وليس إسقاط النظام .. مثلما تجلى لنا من قبل، كعراقيين، عندما وجدنا أنفسنا أمام فوضى عارمة بعد الاحتلال".
فبعد حوالي عشر سنوات من تجربة نموذج "الاجتثاث" العراقي يثبت الآن أن الانتخابات التي قامت على إقصاء الطرف الآخر و"اجتثاثه" لم تكن ديموقراطية ولا قادت إلى الديموقراطية ولم تحقق السلم الأهلي والاستقرار والتنمية ولا أعادت بناء الدولة ولا نجحت حتى في إقامة سلطة مركزية تحافظ على وحدة الأراضي الاقليمية الوطنية، ولا أنهت المليشيات الطائفية والعرقية المسلحة ولا نزعت سلاحها، لتتحول الانتخابات إلى طريقة متحضرة في ظاهرها للمحاصصة الطائفية والحزبية التي يحسمها في الواقع وزن سلاح مليشيات أصحابها على الأرض. ولم يكن مفاجئا أو مستغربا لكل ذلك خلق بيئة موضوعية لاستفحال الفساد ونهب الثروات الوطنية وفتح الأبواب على مصاريعها أمام نفوذ كل القوى الأجنبية الطامعة. ويبدو هذا هو النموذج الذي تتجه ليبيا نحوه اليوم.
فدور الانتخابات الليبية لا يبدو مختلفا عن دور الانتخابات العراقية، فهي تبدو انتخابات مليشيات قائمة على اساس الاقصاء والاجتثاث هدفها المحاصصة في اقتسام مناصب حكم لا يزال دون قوانين ودون مؤسسات، وسط غياب كامل للدولة، وسيطرة كاملة للمليشيات المسلحة التي "باشرت المسؤولية الرئيسية عن القانون والنظام .. خارج أي إطار عمل قانوني" (تقرير لخدمة أبحاث الكونجرس الأميركي في 1/12/2011)، والتي "تعمل بحصانة" ويبلغ عديدها (200000) حسب تقرير للنيويورك تايمز في 12 آذار / مارس الماضي. وقال تقرير لمنظمة العفو الدولية الخميس الماضي إن "مئات من المليشيات المختلفة .. تعمل فوق القانون".
وفي مواجهة قوة المليشيات، لجأ المجلس الانتقالي وحكومته إلى الاستعانة بجماعات منها أطلق عليها اسم "درع ليبيا" أو "الدرع الوطنية" لتقوم بدور في ضبط الاقتتال القبلي (الكفرة في الجنوب مثالا) أو بدور حرس حدود كما حدث على أجزاء من الحدود المشتركة مع تونس كمثال آخر.
لقد فشلت كل محاولات حل المليشيات ونزع سلاحها حتى الآن. وإذا كان غياب الدولة وضعف السلطة المركزية المنبثقة عن "تغيير النظام" سببا غنيا عن البيان لهذا الفشل فإن النيويورك تايمز في تقريرها المشار إليه أعلاه تورد سببا ثانيا بتساؤلها: "لماذا ستحل المليشيات نفسها كي يتمكن أعضاؤها من الالتحاق بالقوات المسلحة المستبعدة من المشاركة في الانتخابات (بموجب قانون الانتخابات) بينما يستطيعون الانتخاب؟" لذلك تحولت المليشيات إلى أحزاب بلا برامج سياسية وتحول قادتها إلى مرشحين سياسيين، على الطريقة العراقية تماما.
ويتضح سبب ثالث للفشل في حل المليشيات في دلالات معركة السيطرة على مطار طرابلس الدولي عندما حاول خليفة حفتر بصفته قائد "الجيش الليبي الجديد" السيطرة على المطار في كانون أول / ديسمبر الماضي ومنعه من ذلك عبد الحكيم بلحاج وميليشياته لاتهام الثاني للأول بأنه رجل المخابرات المركزية الأميركية مما قاد إلى إبعاد حفتر واستقالة رئيس الوزراء الانتقالي الذي كان يدعمه محمود جبريل الذي اتهم بلحاج علنا بكونه أحد رموز "الإسلام السياسي" الممولة من قطر. وبلحاج وجبريل يتزعمان اليوم حزبين شاركا في الانتخابات الأخيرة دون أن تسقط الاتهامات المتبادلة بين الرجلين. وعلى الأرجح أن مشهد الصراعات بين من أوصلتهم طائرات الغزو الأجنبي إلى الحكم في العراق سوف يتكرر في ليبيا.
وبانتظار الانتخابات البرلمانية الليبية عام 2013، تظل المصالحة الوطنية شرطا مسبقا لأي انتخابات تقود فعلا إلى ديموقراطية واستقرار في ليبيا، فانتخابات السابع من تموز / يوليو الجاري لم تكن انتخابات برلمانية لهيئة تشريعية عادية بل كانت انتخابات "مؤتمر وطني" ولايته لسنة واحدة ومن المفترض أن يكون ممثلا لكل الشعب الليبي لأنه خلال ولايته الانتقالية سوف يؤسس لدستور يحدد ملامح ليبيا لفترة طويلة مقبلة. ولأنه مؤتمر يقوم على إقصاء الآخر واجتثاثه فإن نتائجه لن تختلف كثيرا على الأرجح عن نتائج المؤتمر الذي اقر الدستور الذي وضعه الاحتلال الأميركي للعراق.
لقد كان رئيس "المجلس الوطني الانتقالي" الليبي مصطفى عبد الجليل، المفترض أن تكون ولايته ومجلسه قد انتهت بانتخابات يوم السبت الماضي، مدركا لمخاطر التأسيس لليبيا جديدة على قاعدة الإقصاء والاجتثاث، لذلك خاطر بانتداب علي الصلابي للاجتماع في 27 أيار / مايو الماضي بالقاهرة مع أحمد قذاف الدم كجزء من مبادرة ل"المصالحة الوطنية"، لكن المجلس الانتقالي الذي يرأسه تنصل من هذه المبادرة واعتبرها "شخصية"، مع أن المصالحة الوطنية "هي العامل الأهم" لضمان الاستقرار والتنمية والرفاه في ليبيا كما قال أمين عام الأمم المتحدة بان كي - مون في الثلاثين من كانون الثاني / يناير الماضي.
ويظل السؤال الأهم بلا جواب عما إذا كانت المصالحة ممكنة بين من مكنهم الناتو وبين من دمرهم الحلف الأطلسي في ليبيا. ولا يبشر بالخير وأد مبادرة مصطفى عبد الجليل في مهدها، خصوصا وان برنامج المصالحة الوطنية الذي سبق للمجلس الانتقالي المنحل الآن الذي كان يرأسه ظل حبرا على ورق مع أن المجلس كان قد وعد بوضعه في رأس جدول أعماله.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com
* nassernicola@ymail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق