الطيب ابن كيران من تطوان: الفنان كالحصان كائن يتنفّس الحرية قبل الهواء/ حمّودان عبدالواحد

الفنان المغربي الطيب ابن كيران
       الطيب ابن كيران الذي نقدّمه للقراء العرب في هذه العجالة ليس هو ذاك الصوفي المغربي الذي عاش في القرن الثامن عشر صاحب كتاب " عقد نفائس اللآل في تحريك الهمم العوال إلى السمو إلى مراتب الكمال " ، بل هو ابن اليوم . هو ذاك المغربي التطواني الولادة والمنشأ والدراسة ، هو ذاك المبدع الخلاق الذي انطلق من حرفة النجارة ليمارس الفنّ في صور وأشكال وألوان تحمل بصمات تجربة طويلة متنوعة وغنية ( 127 معرضا بالمغرب وإسبانيا واليابان وإنجلترا .. ) ، دوما متفاعلة ومتطورة ، عميقة وقوية ومؤثرة في تساؤلاتها وتصوراتها للإنسان والوطن ، والماضي والجذور التاريخية ، والمادة والحياة ، والكون والوجود ...
      نشأ الطيب ابن كيران في أسرة تعمل في الخشب ثم الرسم مع تغطيته بزخارف عربية معقدة. وعلى الرغم من دراسته بمدرسة الفنون الجميلة بتطوان ، فإن تكوينه العام سيكون فيما بعد عصاميا ، ذلك أن أحدا لم يلقنه فن النحت أو عمل النقش ، وكان منذ طفولته على اتصال تجريبي بالعناصر التي ستطور فنه ، مما سمح له أن يكون نجارا تقليديا ماهرا.
           
    استغلتُ وجودي في مدينة تطوان خلال عطلة لأزور منزل هذا الفنان المغربي الذي يقطر بالسخاء والعفوية ، ويفصح عن رقة وأناقة نادرتيْن ، وتسكنه ، على الرغم من عمر يناهز 72 سنة ، حيوية تقدّمه كما لو كان شابا في ربيع حياته .
      كان فضولي لمعرفة الطيب ابن كيران كإنسان وفنان ما له حدّ .. والحق أن بعض الإخوة الذي عرّفني به وقدّمني إليه كان له الفضل ، بما ذكره لي عن منزله وورشة عمله وإنتاجه الغزير والمتنوع ، في زرع رغبة اللقاء به في منزله والوقوف على بعض أعماله الفنية ، والجلوس معه للحديث معه والاستفادة من أفكاره وخبرته ومشواره الحافل بالأحداث والمغامرات والمستجدات والتطورات..
      وكم كانت دهشتي كبيرة لما استقبلني الرجل ببساطة وحفاوة في حديقة داره وهو يسقي بعض النباتات وشجر نخيل صغير ، طالبا من كلابه النابحة السكوت ومطمْئِنا لي بقوله المعتذِر : " إنها لا تعرفك ".
      لم يكن بإمكاني إخفاء دهشتي المفرطة إثر دخولي ورشة عمله .. الورشة ظاهريا " سوق " بالمعنى الفوضوي للكلمة ، وهي تزخر بالألواح والصور والقطع المنحوتة والأخشاب وأشياء أخرى .. لكن نظاما يعتمد على الترقيم والعلامات يجعل من هذه الورشة فضاء له بلاغته الخاصة وشخصيته المتميزة . وبينما كنت مشدوها أمام كثافة الورشة وازدحام الإبداعات والمواد المعلّمَة فيها ، استوقفتني قطعُ خشب يظهر عليها أنها تخضع لعمل فني ما زال في الطريق :
- ما هذا ؟
- هذا تحدّي الساعة !
- يعني ؟ !
- أنا بصدد نحت أشكال هندسية في هذه الأخشاب على الطريقة العربية الغرناطية .. كما هي في سقوف بعض قاعات قصر الحمراء ... صعوبة هذه الأشكال المتراكمة والمتداخلة واضحة .. هذا ما يحفزني !
        ازددت اندفاعا وإعجابا وانجذابا بعد ذلك لمّا وضعتُ قدمي داخل منزل مضيفي ، وعرفت أنذاك لماذا وصف كلّ من زار هذا المنزل بأنه " متحف فنون " . إنه بحق فضاء يجمع بين أعمال رسم ونحت ونقش وصور فوتوغرافية تاريخية وروبورتهات لعلماء تطوان وملوك من المغرب والسعودية ، وأيضا لشخصيات شعبية تسكن مخيلة التطوانيين ( مثل زراع كُوّان ) ، وأخرى لمجهولين ، وصور وثائق تاريخية مثل المعاهدات المحررة زمان الاستعمار الاسباني بين جنرالات هذا الأخير وبعض أعيان شمال المغرب ..
       لا شك أن هذا الفضاء الجذاب والمليء بالألوان والأشكال واللوحات والقطع المنحوتة والصور والنقود الأثرية والآلات الموسيقية كالكمان ، يكاد يكون هو السحر بعينه .. إنه الحياة في لباس التاريخ وأقنعة الفن والإبداع ، إنه إن صح التعبير " مغارة علي بابا الألف ليلي ، الرجل الطفل المبدع الخلاق " ، مغارة زاخرة بالذكريات والشهادات والطموحات والأحلام ...
      هذا الفضاء الساحر، هذا البيت المتحف ، هذه المغارة العجيبة ... لا يمكن فكّ الرموز المؤدية إلى كنوزها وعقدها الفريدة وأسرار الجمال والأصالة فيها دون الوقوف على عنصرين يعتبرهما الطيب بنكيران ضروريين لفهم أعماله وسبر معانيها وحدس بعض أبعادها الإنسانية والتاريخية والاجتماعية .
    قال لي لمّا لاحظت أن " القفل والحصان " لهما حضور متكرر ، وتوزيع طاغ بالمقارنة مع العناصر الأخرى في أعماله :" هما علاماتي ، شعاراتي ، أو قل إن شئت طابَعي ' ، وأضاف عندما تلفظت بجملة " تقصد طابع أسلوبك " :
- كما هي الحمامة عند بن يسّف !
ولم أملك نفسي أمام ما رأيتُه تناقضا بين مدلولات القفل والحصان :
- القفل يحيل إلى فكرة الغلق والإغلاق ، وآلة لحفظ الأسرار، ووسيلة للتكتم على خفايا الأمور..
القفل يثير في الذهن أيضا عالمَ السجون والقيود ، وله علاقة نوعا ما بالمحذورات والممنوعات  .. ، أما الحصان فعكس ذلك ...
     
قاطعني مكملا :
إنه رمز الحرية الطليقة الجارية القوية السريعة ، والفن الحقيقي هكذا ، يجب أن يكون حصانا وحرية ، وأنا كفنّان كائنٌ حصاني يتنفّس الحرية قبل الهواء ...
- ما الذي يجمع بين " القفل " و" الحصان " ؟ هل نحن بحضور استعارة تختزل أسلوبَك الفني القائم على
الجمع بين المتناقضات ؟
- كلّ واحد وفهمه ، شُف وافهَم ، علاش بغيتني أشرح لك ؟
      العمل الفني كخطاب أو أثر مفتوح متعدد الدلالات ويتكلم إلى قارىء بصيغة الجمع ... هذا ما قصدتْ إليه – حسب ما يبدو - هذه العبارةُ البنكيرية البسيطة ، التي تترجم تصورا خاصا لفلسفة الفنّ ورسالته الجمالية والإنسانية... لكنه في لفتة ذكية منه ربط بين سؤالي وبين تراجعه الضمني أو الجزئي عن التخلي عن الجواب مشيرا علي بالوقوف أمام صف طويل من المفاتيح موضوعة بطريقة خاصة على قطعة من الخشب .
      
- ما رأيك ؟
- تجمع مفاتيح !؟
- أنظر ، ألا ترى شيئا آخر غير المفاتيح المادية ؟ إنّ لها من خلال هيئاتها المختلفة وطرق
وضعها على الخشب المخدوم والمنحوت دلالات .. 
- تقصد " إحالات " ، أو إن شئنا " إيحاءات " !
- بالضبط .. وأنا لا يهمني من تقديمها في عملي باعتبارها مفاتيح " قديمة " حتى ولو كانت هذه الصفة مهمة
بالنسبة لمجموع الإيحاءات التي أرمي إليها .. صحيح أن لها قيمة زمنية ، وأنها تحيل إلى الماضي ، لكنها قبل كل شيء " كلام " عن عادات وظروف اجتماعية ، كما أنها تترجم نظرة إنسان للمكان والزمان .. إنها طريقة في التفكير وهيئة في التساؤل .. وهي أيضا اختلافٌ بين المتشابِه  في القامة وهيئة الوقوف والنقطة التي تتوجّه إليها .. ألا ترى أن عيون المفاتيح ووقفتها هي بمثابة الإنسان المتطلع لما هناك ، لما هو بعيد أو غامض ، والواقف المتسائل والمنتظر أحيانا أو غالبا ؟ ألا ترى في هذه المفاتيح التاريخية ، وهي على هذه الهيئة من الوقوف وهذه النظرة بهذه العيون ، وقفة الإنسان الوجودية المتسائلة ؟ هذه المفاتيح ، في هذا العمل أو ذاك ، ما هي إلا أنت وأنا وكل الآخر أي وجودنا في بعديْه العمودي والأفقي ، في ارتباطه بجاذبية الأرض وتعلقه بنداء السماء ..
     قاطعتُه مستدركا موضوعَ العلاقة بين الحصان والقفل بلغة مازحة تخفي جدية الموضوع المقصود :
- هنا في هذه المفاتيح السحرية يكمن إذن الجواب على ما استعصى علي من فهم لغز الحصان
رمز القوة والحرية ، والقفل غالق الأبواب وحارس الأسرار وحافظ الكنوز ..
     قال وابتسامة نصف بريئة وشبه ثعلبية تداعب شفتيه وتبرق من عيونه الزرقاء :
- وكما ترى هنا فإنّني أضع المفتاح في عين القفل !
لم أملك نفسي من التعليق بانفعال :
- وكأنّ الأمر يتعلق بعملية جنسية ، أليس كذلك ؟
- تريد أن تعرف كل شيء .. لا أصدّق ... هذا ما جاء بك .. إذن اتبعني !
     وسِرْتُ وراءه ، وأحيانا أمامه حسب طلبه وإرادته ، وهو يريني أعماله الفنية ولوحاته ، الواحدة تلو الأخرى .. يتكلم بشوق وحرارة عن ما تمثله له وظروف نشأتها وما أثارت من ردود أفعال أثناء عرضها في المتاحف المغربية والدولية .. ويحلو له بين الفينة والأخرى أن يحكي بعض الطرائف التي وقعت له مع بعض كبار الشخصيات السياسية التي زارت معارضه ..
     في الحقيقة ، لا تكفي ورقة من الحجم الحالي للتعريف بهذا الفنان الفريد من نوعه وتقديم أعماله وأفكاره ورؤيته الفنية للأشياء والعالم والتاريخ وقيم الجمال والحرية .. لكنّي أعتقد أنه من حق القارىء أن يضطلع على حقيقة مُرّة يعاني منها اليوم هذا الفنان العربي الكبير. لقد فاجأني حين طرحت عليه السؤالَ التالي :
- إذا أردتَ أن تلخّص إحساسك الحالي كإنسان أو فنان أو مغربي أو عربي أو مسلم أو ما شئت، وأنت في
قمة مشوارك الفني وقد جربت الكثير من الأشياء وتوصلت إلى معرفة " فن الحياة " .. ، ما هي الكلمات التي تصلح للتعبير عن هذا الإحساس ؟
بهذا الردّ المباغث ، وفيه من المرارة والعتاب ما فيه  :
- إنني معروف في الدول الأجنبية وخصوصا عند الغربيين وعلى رأسهم الإسبان ، لكن بلدي ، والأقطار
العربية معه ، يهملني ! ولا أعرف لماذا لا يعبّر الإعلامُ المغربي ، المحلي والوطني ، والعربي عن فضول ثقافي بانجازاتي ، ولا تعير السلطاتُ اهتماما يُذكَر بأنشطتي الفنية كما يفعل " الناس " الأجانب الذين يأتون من بعيد لزيارتي !
     جواب يتقاطع مع هذا الشعور العام عند الفنانين العرب ، شعور يترجم تهميش السلطات لهم .. إلى درجة يمكن التساؤل معها عن مدى فهم المسئولين السياسيين والصحافة الرسمية وغيرهما لمعاني الفن وأغراضه النفسية والروحية والجمالية والفلسفية والاجتماعية والوجودية .. وكأنّ شعور الطيب ابن كيران  بتهميش السلطات المحلية والوطنية والعربية لتجربته كفنان تشكيلي ونحات ما زال يتعامل مع الأشياء والحياة بتلك الموسيقى الطبيعية التي تمكّن الأطفالَ من السكن في العالم بعفوية مثيرة للدهشة والإعجاب ، يدفع بالضرورة إلى طرح الأسئلة التي لا بد منها : ما هي وظيفة الفن ؟ ما هو الدور أو ما هي الأدوار التي يلعبها في حياة الفرد والمجتمع ؟ هل بإمكان المسئولين أن يفهموا فعلا ما يستطيع الفن تقديمَه من خدمات في سبيل التنمية النفسية والفكرية للمواطنين ؟ هل بمقدور السلطات الساهرة على المصلحة العامة أن تعِيَ قدرة الفن على تأدية مهامّ من شأنها إنشاء الأجيال القادمة على أساس تربية الذوق الجمالي فيها ؟
      إذا كان الجواب معروفا ، فلماذا لا يُكرم المسئولون العربُ فنّاني بلدانهم ومفكريها وأدباءها وشعراءها – المعترف بهم دوليا والمقدّرين عند البلدان الأجنبية ، وغيرهم وما أكثرهم - ما داموا على قيد الحياة ؟ هل يخافون من الطاقة البرومثيوسية المحرّكة لتجاربهم الفنية ورؤاهم الفلسفية والجمالية ؟ هل يخشون حاملي شعلة النار ، المُتَحَدّين للآلهة ، المحارِبين ثقافةَ الخمول وقوى الظلام والظلامية ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق