ياسمين آذار المخضب بالدم: سورية البعث تفتح أبواب دمشق لاستقبال كوهين 10/ محمد فاروق الامام

في أواخر عام 1961م زفَّ ثابت لأصدقائه البشرى بأنه يعد العدة للسفر إلى دمشق.. وعندئذ أمطروه بوابل من أسماء معارفهم وعناوينهم من رجال أعمال، وموظفي حكومة، وأصدقاء شخصيين.. ووعده الجميع بأن يكتبوا إلى دمشق ليضمن كل مساعدة ممكنة للاستقرار هناك.
والحقيقة أن كوهين، وبناءً على تعليمات من رؤسائه، عاد إلى تل أبيب بعد أن حصل على تأشيرات من القنصلية اللبنانية وقنصلية الجمهورية العربية المتحدة.
بعد أن قضى كوهين إجازة قصيرة بين أهله في تل أبيب.. حان وقت عودته للعمل.. وقد زوده رؤساؤه في الموساد بالأدوات والتجهيزات الالكترونية ومواد التصوير ومواد تساعده على صنع المتفجرات وأقراص سُمٍّ يستعملها عند الضرورة القصوى وهي على هيئة أقراص أسبرين. كما كان معه مواد كيماوية لصنع المتفجرات الشديدة.. أودعها في أنابيب معجون الأسنان.. وعلب صابون الحلاقة.. وكانت مجموعة تجهيزات الكاميرا اليابانية الممتازة التي معه تشتمل على أدوات لصنع مسودات الأفلام الصغيرة.
انطلق إيلي كوهين في رحلته.. ومضى إلى ميونخ ثم إلى مدينة جنوا في إيطاليا. ومن هناك في الأول من كانون الثاني.. أقلع كامل أمين ثابت في حجرة من الدرجة الأولى على ظهر الباخرة الإيطالية سونيا إلى بيروت.
شرع إيلي في تمكين نفسه بصفة عضو بارز في صفوة السوريين.. حتى أثناء رحلته بالسفينة من جنوا. فبعد إقلاع السفينة بوقت قصير.. اتصل الحديث بينه وبين رجل سوري عريض الجاه والثراء يدعى (مجدي شيخ الأرض) وقد برهن هذا على أنه حلقة وصل ممتازة.. فقدم إيلي إلى عدد من أولي الشأن في سورية وساعده بغير علم منه.. بأن أخذه في سيارته من ميناء اللاذقية إلى دمشق. وقد تمكن إيلي بالسفر في سيارة هذا الرجل الخطير من عبور الجمارك دون تفتيش.
(التقيت مجدي شيخ الأرض في سجن القلعة عام 1965 وكان يقيم في غرفة خمس نجوم والعديد من السجناء يقومون على خدمته).
استقر المقام بإيلي في شقة فسيحة بالدور الرابع من مبنى حديث في حي (أبو رمانة) المزدهر.. وكان المبنى ذو أهمية كبيرة لكوهين.. حيث يقع في مواجهة مقر قيادة الأركان السورية.
كوّن إيلي شركة استيراد وتصدير.. شهدت نجاحاً فور إنشائها تقريباً.. وقد أدار إيلي العمل بكفاءة.. حيث كان يرسل من سورية الأثاث القديم.. وطاولات نرد.. ومجوهرات.. وتحف فنية.
وكان إيلي إذا ما عاد إلى شقته في الليل.. يخلع عنه ثياب تاجر الاستيراد والتصدير الغني.. ويعود كوهين الجاسوس.. فبعد إغلاق الأبواب إغلاقاً مزدوجاً.. وإسدال الستائر.. يتناول جهاز الإرسال الصغير.. الذي خبأه في قدح نحاسي للزينة في داخل ثريا بلورية كبيرة.. ويمضي بذلك الجهاز إلى غرفة نومه.. حيث يكتب رسالته ويترجمها بالشيفرة.. ثم يبدأ نقرها بسرعة ودقة إلى تل أبيب.
وفي الأيام التي كان إيلي يلتقط فيها الصور.. كان حمام شقته يتحول إلى غرفة سوداء.. يجري فيها بعض العمليات على المسودات ويختزلها إلى أفلام مصغرة. وفي الغد كان إيلي يخبئها في القواعد المموهة أو السيقان المجوفة في هذه السلعة أو تلك من السلع المعدة للتصدير. وكانت تقارير إيلي وأفلامه المصغرة تشتمل دائماً على أمور تهم رؤساءه عن أوسع الناس نفوذاً في أوساط الحكومة والعسكريين السوريين.. ومن بين أصدقائه الكثر اللفتنانت (معز زهر الدين) ابن أخ رئيس الأركان (عبد الكريم زهر الدين) ومنهم (جورج سيف) المسؤول عن الإذاعة في وزارة الإعلام السورية.. والكولونيل (سليم حاطوم) قائد لواء المظلات.
استطاع كوهين بعد انقضاء شهرين على وجوده في دمشق أن يزود الموساد الإسرائيلي بمعلومات لا تقدر بثمن.. وكان في تفسيراته للتغييرات السياسية في دمشق من الدقة واستباق الحوادث الفعلية.. ما يجعل الموساد يقوم بإرسالها إلى رئيس الوزراء خلال ساعات قليلة من وصولها إليه.. وكثيراً ما اتخذ (بن غوريون) - رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك - قرارات مهمة في السياسة.. وهي قرارات قد تفصل بين الحرب والسلم بناءً على برقيات إيلي كوهين الموثوق بها.
وفي تموز 1962م، بعد مرور ستة أشهر من صول كوهين إلى دمشق.. استدعي للرجوع في إجازة إلى تل أبيب حيث أمضى بضعة أيام مع عائلته.
وعاد كوهين بعد إجازته إلى دمشق ليتابع نشاطه التجسسي.. فوسع من علاقاته ونشاطاته وجعل شقته الفاخرة ملتقى للفاحشة والرذيلة لأصدقائه من (عِلية رجال الحكم البعثيين وضباط الأركان). وذات يوم اعتزم السفر في رحلة عمل إلى أوروبا.. فسأله الكولونيل (صلاح الضلي) - رئيس المحكمة العسكرية - إن كان بوسعه ترك مفاتيح شقته من بعده.. ووافق إيلي على ذلك في الحال. أيضاً كان ينزل صديقه جورج سيف مع سكرتيرته كثيراً في شقته.. وفي مقابل ذلك جعل سيف مكتبه بيت إيلي الثاني حيث الأسرار والوثائق الرسمية يقلبها كوهين ويصورها بكل حرية وطمأنينة.
رافق كوهين صديقه اللفتنانت معز زهر الدين في زيارة إلى الجبهة السورية - الإسرائيلية.. وتعرف عن كثب على التحصينات العسكرية السورية في مرتفعات الجولان.
وفي إحدى المرات وعده صديقه (سامي الجندي) - وزير الإعلام السوري - أن يصطحبه إلى مكتب رئيس الجمهورية الرئيس (أمين الحافظ).
وعندما وصل إيلي برفقة سامي الجندي وزير الإعلام.. حياه الرئيس أمين الحافظ بحرارة.. وكان الحافظ يكن تعاطفاً خاصاً لابن وطنه وصديقه الشاب الذي تخلى عن أعماله الناجحة في أمريكا الجنوبية ليمد يد العون إلى بلده في فترة من فترات الاضطراب السياسي والاقتصادي. وألحَّ الرئيس أن يقوم مصوره الخاص بالتقاط صورة لهما معاً. ولما فرغ المصور من عمله.. طلب إيلي منه نسخة للصورة التي التقطها.. واستدار نحو الرئيس أمين الحافظ وقال: سأحرص على هذا الذخر الثمين ما حييت.
ذهب كوهين مرة مع أحد المسؤولين إلى المناطق العسكرية القريبة من القنيطرة وشاهد مخططات مشروع تحصينات دفاعية.. والذي يتضمن جزءاً من مشروع تحويل المياه من (نهر الأردن) الذي كانت إسرائيل تقوم بتحويله إلى النقب. وقد عرض على المقاول الذي يقوم بالتنفيذ مشاركته في العمل.
(وتأكيداً على صحة زيارة كوهين للجبهة السورية فقد زار كوهين الذي كان يعرف بـ(كامل أمين ثابت) القطاع الشمالي من مرتفعات الجولان بصحبة رئيس الجمهورية الفريق أمين الحافظ والفريق المصري علي علي عامر قائد الجيوش العربية والعقيد صلاح جديد أواخر عام 1964م، وكنت في حينها أقوم بأداء خدمة العلم في نقطة (تل زعورة) من القطاع حيث تمت الزيارة، وقد شاهدته وكان يقف إلى جانب العقيد صلاح جديد وهو يطل على المستعمرات الصهيونية التي كانت تشكل بساطاً سندسياً تحف به المروج الخضراء ونوافير المياه والمسابح التي كان يلهو بها الجنود والمجندات الإسرائيليات، وكنت أسمع ما كان يقوله كوهين لصلاح الجديد لقربهم من مكان وجودي، فقد سمعت كوهين يقول لجديد: ليقيموا المستعمرات والمزارع والحدائق والمسابح فكلها بالنتيجة ستكون لنا!).
وشجع هذا الحافز المقاول فسمح للزائر المعروف.. بأخذ مخطط المشروع معه إلى البيت.. ليتمكن من دراسته في أوقات فراغه.. وتحديد أفضل مواقع المنطقة استثماراً.. وقام إيلي بتصوير أحدث ما قع في يده من أوراق.. وفي خلال ثلاثة أشهر بعث إلى قيادة الموساد بمعلومات وافية عن المشروع.
وتكريماً لكوهين على ما يقدم من معلومات استدعاه الموساد لقضاء إجازة هي الثالثة من نوعها في إسرائيل.. وكان قد مضى عليه دون مشاهدة عائلته أكثر من سنة.
وشارك هذه المرة إيلي أسرته في الاحتفال بمولد طفله الثالث وهو (شاؤول).
وعاد إيلي إلى سورية مرة أخرى بعد أن وعد زوجته بأن هذه آخر مرة يغيب عنها وأنه قرر العودة إلى إسرائيل نهائياً. ولكن شاء الله أن لا يعود الجاسوس الإسرائيلي من سفرته هذه أبداً.
ففي إحدى ليالي شهر كانون ثاني 1965م.. وبعد أن فرغ إيلي من إرسال تقرير تضمن معلومات تلقاها من صديقه (سليم حاطوم) ومفادها أن الرئيس أمين الحافظ قرر في اجتماع عقده مع رؤساء أجهزة المخابرات السورية تطوير خطة منظمة فلسطينية واحدة تبدأ الكفاح المسلح.. ويتم تدريب رجالها في قاعدة للجيش السوري سراً.
ولمح إيلي ساعته التي كانت تشير إلى الثانية بعد منتصف الليل.. وأدار مفتاح جهاز الإرسال إلى النقطة الدقيقة التي تصله منه إشارات قيادة الموساد بوضوح تام كما اعتاد أن يفعل.
وفجأة سمع طرقاً عنيفاً على الباب. وقبل أن يجد وقتاً للتصرف تحطم خشب الباب الصلب.. واقتحم الغرفة ثمانية رجال مسلحين.. شهروا مسدساتهم.. وكانوا يلبسون زياً مدنياً. وفي حين غطى كامل جهاز البث بدون وعي كان رجلان يصوبان مسدسيهما إلى رأسه وصاحا به: لا تتحرك.
واندفع رجل يلبس بزة عسكرية صوب الفراش.. وعرفه إيلي في الحال.. إنه الكولونيل (أحمد سويداني) رئيس شعبة الاستخبارات السورية.
يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق