رسالة مفتوحة إلى قيادة حركة حماس الجديدة/ د. مصطفى يوسف اللداوي

لا يسعنا وقد انتهت الانتخاباتُ التنظيميةُ لحركةِ المقاومة الإسلامية "حماس" ولو بعد طولِ مخاضٍ، وشديدِ معاناة، وإبطاءٍ وتأجيلٍ متكررٍ، مبررٍ وغير مبررٍ، إلا أن نتقدم بالتهنئة إلى القيادة الجديدة للحركة، على الثقة الكبيرة التي حازوا عليها، فهي تكليفٌ مرهق، وأمانةٌ عظيمة، ومسؤوليةٌ كبيرة، تعبٌ في الحياة، وسؤالٌ بعد الممات، وحسابٌ وجزاءٌ يوم القيامة، فقيادة حركةِ مقاومةٍ في هذه الظروف العصيبة محنةٌ أكثر من كونها منحة، وهي ابتلاءٌ واختبار ليس فيها استعلاءٌ أو استكبار، فبارك الله فيمن حاز على الثقة، وتقدم لحمل الراية، ممن كان قديماً وأُستبقي، أو جاء جديداً وبُويع، وجزى الله على عمله من كان وأُقصي، خيراً لمن أحسن، ورحمةً لمن قصر، آملين أن يكونوا خيرَ جندٍ كما كان الناس لهم خير تبع، وأن يكونوا عوناً لمن جاء، وسنداً لمن بقي، فهذه سنة الله في خلقه، تدافعٌ وتعاقبٌ، وأجيالٌ تسلمُ أجيال.
فإلى القيادة الجديدة في حركة حماس، والتي أصبح فيها أسرى محررون، ممن قضوا زهرة عمرهم في السجون والمعتقلات، ممن لم تبطرهم الدنيا، ولم تغرهم المناصب، ولم تفتنهم الأضواء ولم تشغلهم المكاسب، وقد قضوا جل عمرهم ينامون فوق برشٍ خشنٍ، ويأكون من قيروانةٍ بسيطة، ويقضون حاجتهم في زوايا زنازينهم، مكبلين مصفدين، في إكسات العزل أو في زنازين إنفرادية، يُرحَلون ويُقمَعون ويُفَتشون، ويُرَشون بالغاز ويُضرَبون بأعقاب البنادق، ويحرمون من الزيارة، ويعانون من كثيرٍ من الأمراض، ويقاسون آلام الجوع ومعاناة الإضراب، ولكنهم بقوا على مواقفهم ثابتين، يرفضون التنازل رغم المعاناة، ولا يقبلون الإهانة رغم القيد، إليهم نوجه رسالتنا، ونرفع صوتنا، ونقدم نصحنا.
اليوم تلتئم القيادة الجديدة لحركة حماس، مطعمةً بالقديم، وموشاةً بالأسرى، ومزدانةً بألوان الوطن، ومقدرةً بالحكماء العقلاء، ومحفوظةً برجالٍ يستودعون الله أهلهم كل يوم، ويودعون صحبهم بعد كل لقاء، فالشهادة غايتهم، ولقاء ربهم غاية المنى لديهم، لا يفرون من الموت، ولا يخافون من ملاقاة العدو، فهي قيادةٌ جديدة، بثوبٍ جديد، وعقلٍ رشيد، هدفُها واحدٌ، تحرير الأرض، كل الأرض، فلسطين من البحر إلى النهر، فلا تنازلَ لديها عن شبرٍ منها، ولا قبول بانتقاصٍ لها، ولا بدولةٍ منها مقتطعة لليهود، ولا اعتراف منها بإسرائيل، ولا تفاوض معها، ولا قبول بمخاطبتها، أو الاعتراف بقوتها، والتسليم بتفوقها، فأرضُ فلسطين لديهم عقيدة، وهي جزءٌ من القرآن، وصبغةٌ من الإيمان، كافرٌ من أنكر بعضه، أو اعترف بجزئه، كما هو خائنٌ من تنازل عنها أو قبل بالتفريط ببعضها، أو فاوض عليها.
بأملٍ نستقبلُ القيادة الجديدة لحركة حماس، مدركين عظم المسؤولية التي حملت، ومقدرين حجم القلق الذي سيعانون، والهم الذي سيحملون، ولكننا منهم نأمل، أن يستدركوا الأخطاء التي سبقت، وأن يتجنبوا المزالق التي وقعت، فيكون قرارهم دوماً شورياً، فلا يتفرد فيه أحدٌ دون الآخر، ولا يستأثر به فريقٌ على آخر، وألا يكون لحسابٍ طرفٍ ضد غيره، وألا يكون بيد عضوٍ أو رئيس، ولا مسخراً لخدمةِ فريقٍ أو تحقيق مصلحة، ولا يخضع قرارهم لإملاءاتِ أحد، أو وصاية دول، وألا يراعي مكانة زعيم، أو وصية ملكٍ أو رئيسٍ أو أمير، وأن تكون مصلحة شعبهم فوق كل اعتبار، ومستقبل وطنهم قبل أي شئ، فهم للوطن حراس، ولفلسطين جنود، وألا تكون اتفاقياتٌ سرية ولا تفاهماتٌ ليلية، ولا لقاءاتٌ نخشى أن يطلع عليها شعبنا أو يعرف بها أهلنا، وإنما سياسةٌ واضحة، وأهدافٌ محددة، نطلقها في الليل والنهار، أمام العدو وفي حضرة الصديق، نؤمن بها ولا نخاف منها، ونعتز بها ولا نخجل منها.
ومنهم نأمل أن يبقوا راية المقاومة عالية، والبندقية دوماً مرفوعة، ودعوة الجهاد قائمة، فلا عزة لنا بغيرها، ولا كرامة لشعبنا بسواها، فلا تفريط بالمقاومة، ولا تخلي عن السلاح، ولا تراجع عن امتلاك القوة، والإعداد للمواجهة، ولا بديل سلمي أو شعبي عنها، ولا انجرار لشعارات غيرنا، ممن يسفهون المقاومة ويحتقرون الشهادة، ولا يروا لغير المفاوضات سبيلاً، إذ لا يجبر العدو غير القوة، ولا يرغم أنفه غير القتال، وقد أثبت شعبنا أنه أهلٌ للقوة، وأنه صادقٌ في الحرب وصابرٌ عند اللقاء.
كلنا أمل في القيادة الجديدة لحركة حماس أن تقصي كل فاسد، وأن تبعد كل عابث، وأن تحاسب كل محظئ، وألا تسكت عن أي متجاوز، وألا تقبل باستخدامٍ سيئٍ للسلطة، أو استغلالٍ للصفة والموقع، في كسب منافع شخصية، أو تحقيق مآربٍ خاصة، وأن تأخذ الحق من الظالم، وأن تعيد الحقوق إلى أصحابها، وألا تسمح للمزاجية الشخصية لأن تتحكم، ولا للمحسوبية أن تسيطر، ولا لحسابات الأفراد أن تتفوق، فلا محسوبية في صفوفها، ولا مكان للمتزلفين بينها، ولا فرق فيها للتصفيق، وأخرى للهتاف والتأييد، ولا منصب لأصحاب المظاهر وعشاق السلطة، والباحثين عن الصورة والساعين إلى منبر، والمتصدرين كل لقاء والسباقين إلى كل مأدبة، وإنما المكانة للأكفاء المخلصين، العاملين الصادقين، المتفانين المتجردين، الذي يعملون بلا انتظارٍ لأجر أو توقعٍ لمثوبةٍ من غير الله عز وجل.
كما لا إقصاء لطاقاتٍ، ولا استبعاد لعاملين، ولا حرمان لأحدٍ من أن يكون له دور، ولا إخضاع لمعايير شخصية، قوامها الولاء والتبعية والانقياد، وثمنها الصمت والقبول وإسدال الجفون على العيون، وإنما هي موازين الثبات والصمود، فهذا وطن الجميع، وهي قضية الأمة، كلنا فيه وفيها شركاء، نأخذ بقدر ما نعطي، ونُقَدرُ بقدر ما نضحي، فلا إلغاء لأحد، ولا وصاية على أحد، ولا  شطب لدورٍ إلا لفاسدٍ مضل، لا يؤمن بحقنا، لا يعمل وفق أهدافنا، ويتناقض مع ثوابتنا، ويقف ضد مصالحنا، ويسعى للتوافق مع عدونا.
ولا مال نستغله في إخضاع النفوس وتركيع القامات، وحني الجباه، وإذلال النفوس، وتجويع البطون، وتضييع الخلق، وإنما هي حقوقٌ نؤديها لأصحابها، وأماناتٌ نقوم عليها، نحسن استغلالها، ونضعها حيث يجب أن تكون، بعفةٍ وطهارة، وصدقٍ ووفاء، فلا نحرم صاحب حق، ولا نغدق على من لا يستحق، ولا نستغلها لجلب طوابير المؤيدين، وصناعة أبواقٍ ومزامير، بل نجعلها في خدمة الوطن، وفي رفعة أهله، ليكون لنفوسنا زكاةً، ولأرواحنا طُهر، ولوطننا طريقٌ وسبيل.
وهي أموالٌ نقسم بالله ألا نضيعها، وألا نفرط فيها، وألا ننفقها إلا حيث ينبغي أن تكون، تذخييراً وإعداداً، وتجهيزاً وتحضيراً، نستغلها في الإعداد للمقاومة، وفي توفير أسباب الصمود والثبات، ومن الصمود كرامةُ الأمة، وعفةُ الشعب، فلا نتركه يجوع، ولا ندعه يتضور، ولا نسكنه العراء، ولا نحرمه الرزق، ولا نكسر ظهره بحاجة أطفاله، ولا بعري صغاره، ولنكن له خير حركةٍ، فلا نتركه يجوع أو يعرى، أو يشكو ويمرض، ولا نتخلى عنه عند المصيبة، ولا ننفض عنه عند الحاجة، ولكن نكون له خير سندٍ وأعظم نصير، فالمقاومة قوية ما كان أهلها أقوياء، وهي بهم ضعيفة إن هي أضعفتهم وتخلت عنهم، وإياكم وظلم العباد، وحرمان أصحاب الحق، والاستقواء على الضعفاء، والتقصير في نصرة المظلومين، وإغاثة الملهوفين، وإجابة المضطرين، وتلبية حاجات الفقراء والمساكين، ونصرة المغلوبين والمقهورين، ولا تميز في الحق بين منتسبٍ ومستقل، ولا بين قويٍ وضعيف، وإنما الانتصار هو للحق على الباطل أي كان صاحب الأول ومرتكب الآخر.
الفلسطينيون اليوم يستبشرون خيراً بالقيادة الجديدة للحركة، إذ فيها الكثير ممن ذاقوا الألم، وعانوا من القيد، وعاشوا مع الشعب، وعرفوا مرارة الإنقسام وسوء الاختلاف، وقاسوا نتائجه وعانوا من ويلاته، فإنهم يأملون أن تجعل القيادة الجديدة المصالحة الوطنية على رأس أولوياتها، توليها الاهتمام الكبير، وتعمل من أجل تحقيقها الكثير، فالشعب الفلسطيني والأمة كلها تتطلع إلى اليوم الذي يلتئم فيه الجرح الفلسطيني، وتنتهي فيه حقبة الإنقسام، ويعود الوطن إلى نفسه، والشعب إلى بعضه، وتصفو النفوس، وتتطهر القلوب، وتعمر المودة البيوت، وتعود المحبة التي كانت، والوحدة التي فقدت، وتغيب كل أسباب الكراهية التي سادت، والعدواة التي سيطرت، فهذا أملٌ قد طال، وحلم قد تأخر، ونهايةٌ نأمل أن نصل إليها.
ونوصي الأسرى الذين باتوا جزءاً من القيادة الجديدة بألا ينسوا الأسرى، فإن كان الله قد مَنَ عليهم بالحرية، فإنهم قد تركوا خلفهم رجالاً يتوقون إلى الحرية مثلهم، ويتطلعون إلى العودة إلى بيوتهم والعيش مع أسرهم، فنسألهم ألا ينسوهم، وألا يألوا جهداً في تحريرهم، وأن يتذكروهم كلما رأوا أطفالهم يبتسمون، ومعهم يضحكون، فهذا عهدٌ يجب عليهم أن يقطعوه، فلا تنام لهم عين، ولا يغمض لهم جفنٌ حتى ينعم آخر أسيرٍ بالحرية، ويعود إلى أهله وأطفاله معافىً من كل ضيم، سليماً من كل مرض، فأسرانا هم شامتنا الغراء، وناصيتنا العالية، ونفوسنا الأبية، وهم أسودنا البواسل، فلا نتركهم وقد كانوا عنا خير مدافعين ومقاتلين.
ونوصي القيادة الجديدة بأن تستفيد من كل قدرات الأمة، وألا ترفض أي مساعدة، وألا تتخلى عن أي عونٍ، ما لم يكن مشروطاً بمذلة، أو مقروناً بطلب، غير الحفاظ على الأرض، والتمسك بالوطن، وأن تكون على مسافةٍ من الجميع، ممن يرغب في أن يكون مع المقاومة، يساندها بأمواله أو بمواقفه، أو يقف معها في الميدان أو يمنحها المكان، أو يدافع عنها في السياسة ويحميها من كل غائلة، فلا تفرط في أي سند، ولا تبيع أي عضد، ولا تتخلى عن أي صديق، وليكن قرارها حراً، وموقفها مستقلاً، فلا ترتهن لأحد، ولا تخضع لطرف، ولا توالي إلا صديقاً، ولا تعادي إلا عدواً.
 إنه نصحٌ نقدمه، وأملٌ نترقبه، وصرخةٌ نطلقها، ونداءٌ نرفعه، بين يدي القيادة الجديدة للحركة، وهو حقٌ لكل فلسطيني أن يقدمه، وأن يرفع به صوته جريئاً بلا خوف، فحماس قد تجاوزت الحزبية، ومزقت إطار الفئوية، وأصبحت حركة مقاومةٍ فلسطينية، تعمل لفلسطين كلها ومن أجل الوطن كله، بل اخترقت الحدود وتجاوزت الشعب إلى الأمة فلم تعد فقط فلسطينية، فكان حقاً على كل فلسطيني وعربيٍ ومسلم أن يمحضها النصح، وأن يخاف عليها، وأن يقلق من أجلها، وأن يحذرها مخافة المزالق، وأن ينبهها من خطورة تكرار الأخطاء، إذ أن سلامتها سلامةٌ للوطن، فلا خير في شعبٍ لا يسمع حركته ما يريد، ولا ينصحها بما يرى، ولا خير في قيادةٍ تصم آذانها، وتغلق أبوابها، وتمتنع عن قبول أي نصح، وترفض أي نقد، وتخشى من كل صوت، وتغتال كل مصلح، وتخون كل مرشد، وتتهم كل حريصٍ وغيور.
أيتها القيادة الجديدة، هذا يومٌ من أيام الله الخالدات، تتعاورون فيه القيادة، وتتبادلون فيه المواقع، فكونوا بالسلطة زاهدين، وبالقوة عادلين، وبالحق قائمين، وتلطفوا بأهلكم، وكونوا مع شعبكم صادقين، ولحقوقه حافظين، وأحسنوا التعامل مع إخوانكم، فلا تغامروا بهم، ولا تقامروا عليهم، ولا تفرطوا في حقوقهم، ولا تخونوا أماناتهم، وكونوا لهم خير قادة، وأعظم رواد، واعلموا أن الرائد لا يكذب أهله، والقيادة لا تدوم، والسلطة لا تورث، والرئاسة لا تبقى.
واعلموا أن شعوبكم قد باتت قادرة، وأصبحت بالميادين عارفة، وأضحت ترفض الهوان، ولا تسكت على الظلم، ولا تقيم على الضيم، فأحسنوا إليهم، وكونوا إلى جانبهم، ولا تهينوا كرامة الكبير ولا الصغير فيهم، واحفظوا فضل من سبق، وعطاء من تقدم، وجهد من أعطى، وخير من بذل، والله نسأل أن تكونوا لهم خير قادةٍ، وأصدق أولياء، وأن يأخذ الله بأيديكم إلى الحق وجادة الصواب، وأن يجعل الخير على أيديكم يتحقق، والنصر بصدقكم يتنزل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق