الجيش كضامن للديمقراطية!/ د. عبدالله المدني

كانت القاعدة فيما مضى ان الانقلابات العسكرية غير مرحب بها لأنها لاتأتي إلا بالخراب والدمار والهزائم والفساد والإفساد، ولأنها تلغي الدستور، وتقيد الحريات، وتأتي بحفنة من ذوي البدلات الكاكية والرتب النحاسية ممن لا يفقهون شيئا في إدارة البلاد والعباد والعلاقات الدولية فيرتكبون الخطأ تلو الخطأ دون أن يجرأ أحد على محاسبتهم.
لكن الأمر تغير اليوم أو هو في طريقه للتغير، وصار هناك جدل ونقاش غير مسبوقين حول حق الجيش في التدخل في السياسة في حالات معينة، وذلك على ضوء ما جرى مؤخرا في مصر حينما إنحازت قواتها المسلحة إلى جماهير شعبها التي إكتضت بها الميادين مطالبة برحيل النظام المدني التي إختارته بنفسها بعدما تبين لها أنها في غمرة عدائها لنظام الرئيس الأسبق حسني مبارك لم تحسن الإختيار وراهنت على جواد ذي أيديولوجية إقصائية متطرفة تمنعه من الانسجام مع قواعد العملية الديمقراطية وإشتراطاتها. والجواد المقصود ، بطبيعة الحال، هو جماعة الإخوان المسلمين ممثلة في الرئيس المعزول الدكتور العياط، والتي تصرفت بطريقة غبية في إدارة البلاد، وراحت تستخدم كل ما تحت يدها من سلطات من أجل أخونة الدولة والاستحواذ عل كامل مفاصل الدولة وكأنها نالت تفويضا على بياض، هي التي لم يحصل مرشحها الرئاسي العياط سوى على ربع أصوات المقترعين في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في 2012، قبل أن يحصل على 51% فقط من أصواتهم في الجولة الثانية. وهكذا إضطر العسكر اضطرارا إلى التدخل لتصحيح مسار الثورة الشعبية التي أطاحت بحكم مبارك في يناير 2011 ، وانقاذها من ديكتاتورية إخوانية جديدة بإسم "الشرعية" الممزوجة بالشعارات الدينية والتي بدورها لا تخلو أحيانا من الخرافات والاساطير من أجل إضفاء القدسية على شخص "الرئيس المنتخب"، وبالتالي إطلاق يده في ما يفعل دون مساءلة
قد يكون من الصعب كثيرا على الديمقراطيين ان يقبلوا بالعسكر كبديل لحكومة مدنية منتخبة، بفعل سوابق العسكر المشينة لجهة الاستئثار بالسلطة لآجال طويلة. غير أن الضرورات تبيح المحظورات أحيانا، كما تقول القاعدة الدينية المعروفة، وخصوصا في دول العالم الثالث حيث الثقافة الديمقراطية حديثة العهد، وغير متجذرة، ويمكن إستغلالها أسوأ إستغلال من قبل بعض القوى لتنفيذ أجندات أيديولوجية معادية للديمقراطية نفسها، بمعنى إستخدام الديمقراطية كمطية للوصول إلى السلطة من أجل البقاء فيها إلى الأبد، وقمع الخصوم، وتلوين المجتمع كله بصبغة واحدة
ولئن كان المقصود بالمحظورات هنا هو إستلام العسكر للسلطة مباشرة من خلال إنقلاب عسكري تقليدي على نحو ما ألفناه في العالم العربي في الخمسينات والستينات، أو إطاحتهم بالحكومة دون الجلوس مكانها، بمعنى إسناد مهمة إدارة البلاد لفترة إنتقالية إلى مدنيين يقودهم رئيس الجمعية التشريعية أو كبير قضاة المحكمة العليا أو المحكمة الدستورية، وهذا ما لم يحدث في العالم العربي الا مؤخرا، فإن الضرورات هي الحيلولة دون تغول الحزب او الجماعة السياسية التي جاءت إلى السلطة في إنتخابات عامة، وإقصائها لشرائح المجتمع السياسية الأخرى، وصبغها للحياة السياسية بلون واحد على شاكلة ما فعله الإخوان المسلمون، وما يسعى إليه حثيثا أشباههم في تونس.
المعارضون للعسكر، وجلهم من جماعة الإخوان المسلمين الخاسرة والدوائر الإمريكية والغربية التي صارت تراهن عليها، يصفون ما حدث بالانقلاب العسكري على الرغم من أن الحدث لا تنطبق عليه هذه الصفة إطلاقا. فلا هم إدعوا أنهم قاموا بثورة على غرار ما فعله عسكر 23 يوليو بقيادة نجيب وعبدالناصر، ولا شكلوا مجلسا لقيادة الثورة، ولا حلوا الأحزاب السياسية، ولا إحتلوا الإذاعة كي يعلنوا منها البيان رقم واحد، ولا فرضوا الأحكام العرفية ومنع التجول حتى إشعار آخر، وإنما أقدموا على فعل إستباقي يقي البلاد من الإنزلاق نحو الهاوية، ويستجيب في الوقت نفسه لآمال الشعب. وفي سابقة تحسب لهم، لم يقصي العسكر جماعة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي رغم الاساءات التي تلقوها منها، بل مدوا لها اليد مطالبين إياها بالإنضمام إلى القوى الأخرى والعمل معها من أجل إعلاء ورفعة البلاد.
إن ما حدث في مصر، يشبه كثيرا ما حدث في الفلبين وكوريا الجنوبية واندونيسيا في ثمانينات القرن الماضي  حينما إنحازت القوات المسلحة إلى جماهير الشعب الثائرة ضد أنظمتها القمعية الديكتاتورية، وسهلت مهمة إزاحتها دون الحلول مكانها، فكان ذلك إيذانا بحقبة جديدة ترسخت فيها مفاهيم الحكم الديمقراطي  ومعالم الدولة المدنية.
غير أنه في أماكن أخرى حدث العكس بمعنى أن الجيش إستشعر فعلا نبض الجماهير الغاضبة على حكومتها فسارع إلى إزاحة الأخيرة عبر إنقلاب كلاسيكي أعطى فيه لنفسه صلاحيات واسعة، بل أن جنرالاته إستمتعوا بكرسي الحكم ومباهجه فلم يكترثوا بتحديد موعد لإعادة السلطة إلى حكومة مدنية ديمقراطية. حدث ذلك في تركيا في عام 1960 حينما إنقلب الجنرال جمال غورسيل على حكومة عدنان مندريس المدنية التي خرج ملايين الاتراك إلى الشوارع ليهتفوا بسقوطها، وحدث ذلك في الجزائر في عقدي الثمانينات والتسعينات التي شهدت تحكم الجيش في المشهد السياسي وإتيانه بأكثر من رئيس عسكري بملابس مدنية، وحدث ذلك مرارا وتكرارا في باكستان، لكن ليس إستجابة لمطالب شعبية وإنما تحقيقا لأطماع سلطوية وذلك على نحو ما حدث في  1979 حينما أطاح الجنرال ضياء الحق بالرئيس المنتخب ذوالفقار علي بوتو وقاده الى مقصلة الاعدام، وما حدث في 1990 حينما أطاح الجنرال برويز مشرف برئيس الحكومة المنتخب نواز شريف ونفاه الى الخارج. أما في دول أفريقيا السوداء وأمريكا اللاتينية فالأمثلة أكثر من أن تحصى.
على ضوء ما سبق، وكحماية للديمقراطية من الاستغلال السيء في بلدان العالم النامي تحديدا، يجد الديمقراطيون انفسهم - شاؤوا أم أبوا – أمام معضلة حقيقية لن يخرجهم منها سوى التأكيد في دساتير بلدانهم على ضرورة إعطاء القوات المسلحة دورا مشروطا ومحددا في الدولة الديمقراطية المدنية. وبعبارة أخرى ضرورة منحها حق التدخل إذا ما لاحظت أن القوى السياسية المدنية المنتخبة تريد الإنحراف بالبلاد نحو ديكتاتورية الحزب الواحد والايديولوجية الواحدة، وإقصاء الآخر الشريك في الوطن من المشهد، شريطة أن يقنن نوع تدخل العسكر ومداه الزمني وتوضع له ضوابط، فإن تجاوزه سقطت شرعيته تلقائيا في الداخل والخارج. ومثل هذا الحل إستوعبه مبكرا مصطفى كمال اتاتورك مؤسس تركيا الحديثة حينما جعل الجيش حاميا لدولته العلمانية. غير أن عدم تقنين الأمر وتقييده بضوابط سهـّـل للعسكري التغول على المدني في الحالات التي أطاح فيها الجيش التركي بالأنظمة المدنية إبتداء من 1960 .
ويبقى السؤال: ماذا لو عمد الرئيس المدني المنتخب فور تسلمه السلطة إلى قصقصة أجنحة المؤسسة العسكرية وتقزيم دورها، والتخلص من قادتها الأصيلين بفبركة التهم ضدهم تمهيدا لإحلال المنتمين لحزبه السياسي أو المتعاطفين معه مكانهم، على نحو ما سعى ويسعى إليه زعيم الحزب الحاكم في تركيا "رجب طيب أردوغان"؟
د. عبدالله المدني
*باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: يوليو 2013 
البريد الالكتروني: Elmadani@batelco.com.bh 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق