" لا يمكن للسجل السياسي أن يظهر ويستمر الا داخل القوانين ولكن لا يتكون ولا ينمو هذا السجل الا عندما تتقابل شعوب مختلفة"[1][1]
من غير المعقول أن يكون المُشرّع السياسي هو الفقيه الداعي الملتفت إلى نصوص الماضي ومن غير المنطقي أن يتم استبعاد رجل العلم الذي يربط المسببات بالأسباب والذي يستنتج حصول الأحداث من المقدمات المنطقية والقواعد الكبرى. لذلك ينبغي التعويل على القارىء المؤول ، فهو المدبر المتعقل الذي يستخدم فن الفهم من أجل التمعن في مجريات الأمور والإصغاء إلى غبار المعارك والمنعطفات واستخلاص العبر والدروس من التحولات العنيفة والهزات بعد اقتلاع قصور الشمولية.
على هذا النحو من الضروري أن ينهمك المفكر اليوم في البحث عن المعنى عن طريق فهم عميق للوضع البشري والأحداث السياسية وتحديد مساهمة الدين وحضوره وتأثيره في الأحداث وفي الفعل السياسي.هناك نقاط مشتركة بين المجال السياسي والمجال الديني وتتمثل في التجربة التأسيسية واشكالية البدء والانطلاق وأيضا اشكالية النهايات والخواتيم وتجربة الأهداف الكلية والغايات الكبرى التي يسعى الفاعلون إلى انجازها واتمامها، من هذا المنطلق ترى حنة أرندت "أن الابتداء يشكل من وجهة نظر علم السياسة ماهية الحرية الانسانية في حد ذاتها"[2][2].
من عيوب علم السياسة التقليدي هو الاعتقاد في كون تجربة التأسيس في زمن البدايات تستوجب اللجوء إلى القوة التي تتعدي الحق وتشرع العنف التكويني من أجل التخلص من مرحلة سابقة وتدشين مرحلة أخرى مختلفة. كما يغيب عنها أن ماهية الفعل السياسي هو تدشين بدء جديد وأن الانسان يمتلك قدرة على الابتداء ويشكل البدء الماهية التي تخصه بل ان خلق الانسان ارتبط مع بداية الكون وتجلى أصله في ميلاد الفرد الحر. ان الصراع مع الأنظمة الشمولية قد انعكس على العلاقة بين الدين والسياسة وأدى إلى توظيف مقولات دينية من أجل اقامة أنظمة شمولية وتبريرها واطالة مدة بقائها في الحكم وهيمنتها على العباد والخيرات.
لكن ينبغي أن نميز حسب أرندت بين النسق الديني المتعالي الذي يدور حول وحي منزل والدين العلماني الوضعي الذي شكلته جماعة سياسية واعتقدت في صدقية مبادئه وقواعده وأهدافه، ثم يجب الإنتباه أيضا إلى أن الشيوعية قد كونت دينا علمانيا جديدا وسمحت بإدخال القداسة إلى حقل الشؤون العمومية بعد أن قامت بالفصل بين الكنيسة والدولة وجعلت مشكل العلاقات بين الدين والسياسة طي الكتمان وأدخلته إلى غياهب النسيان.
كما يمكن معاملة الايديولوجيات الحديثة بأنها ديانات ذات طابع سياسي معلمن بعيدا عن الفهم الماركسي للدين بوصفه ايديولوجيا بسيطة ومحضة تستعملها الطبقة الحاكمة من أجل الهيمنة والمحافظة على مصلحتها. في نفس السياق يمكن التعامل مع الالحاد على أنه العقيدة الأولى التي نظر اليها بوصفها دينا جديدا.ان الحجج التي تدل على وجاهة اعتبار الالحاد دين جديد كثيرة وتعود إلى نيتشه القائل بموت الاله والى دوستوفسكي الذي عبر عن ثورة الانسان المعاصر ضد الآلهة بعد أن فشلت كل الحجج في اثبات عدم وجوده. زد على ذلك يمكن ذكر قيام الثورة العلمية وتشكل خطاب في علوم الطبيعة يعتقد في اللااعتقاد وينهل من انزعاج باسكال من الفضاءات اللاّمتناهية ومن تجربة الشك الديكارتي التي طالت كل شيء تقريبا ومن النقد الكانطي للعقل ومن الارتياب النيتشوي حول أوهام الميتافيزيقا.
من هذا المنطلق تصرح أرندت:" أن عالمنا هو عالم معلمن من وهجة نظر الروح وذلك لكونه بالتحديد عالم الشك"[3][3] وان الطابع الديني الذي يحلم به الشك الحديث كان حاضرا في تجربة الارتياب الديكارتي التي كشفت عن الحاجة إلى الضمان الالهي من أجل التخلي عن فرضية الشيطان الماكر واكتشاف الكوجيتو كيقين أول. ان الاعتقاد الديني الحديث يختلف عن الايمان التقليدي بما أنه يتشكل من اعتقاد في المعرفة ويسمح بحرية التفكير والفعل ويقبل المرور بتجارب الشك والحيرة والارتياب قبل بلوغ الاقرار والشهادة. ان الانسان الديني المعاصر ينتمي إلى نفس العالم المعلن تماما مثل خصمه الملحد الذي يؤمن بالنسبية والصيرورة.
على هذا النحو يمكن معاملة الايديولوجيا والدين بوصفهما نفس الظاهرة وذلك لكونهما يؤديان نفس الوظيفة وهي تمتين اللحمة الاجتماعية بين الأفراد وتوجيههم نحو نفس الأهداف والمصير المشترك. في الواقع هناك خلط يقع فيه المنظور التاريخي بين طبيعة العلمنة والعالم المعلمن[4][4]، نظرا إلى أن العلمنة هي مسار سياسي يتعلق بالمضامين الروحية غير المتطابقة وتفضي إلى نفي وجود سلطة تمارسها المعتقدات والمؤسسات الدينية على الحقل العمومي ورفض امتلاك الحياة السياسية لسقف ديني متعال عنها يحد من حريتها وتعدديتها وقانونيتها.
ان السلطة لا يجب أن تكون مستمدة من خلفية دينية وذات مصدر مقدس حتى وان كانت تشير الى التقاليد والتراث والقيم الروحية وتتأسس على الماضي والهوية الثقافية للشعب بل هي سلطة دنيوية قانونية. كما أن مفهوم الحرية ينبغي ألا يكون مستمدا من أصل ديني لأن الصراع من أجل الحرية لا يبدو متطابقا ومتفقا مع النسق الديني العادي بل يمكن لنظام سياسي قائما على الحرية أن يسمح بالحرية الدينية والمعتقد.
ان الحرية التي يتطلع اليها الناس هي حرية بالمقارنة مع الوجود السياسي وحرية الوجود وتسعى إلى أن يكون المجتمع معلمنا وتسمح للأفراد بأن يكونوا مواطنين أحرار وبأن يختاروا عقائدهم ويغيروها متى شاءوا دون وصاية أو محاسبة. ان الأديان تربح الكثير عندما تتأسس الدولة على سيادة الشعب والحرية السياسية والقانون وخاصة عندما تضمن حرية الضمير واقامة الشعائر في كنف السلم والتسامح.
ان محاربة الأنظمة الشيوعية للدين واضطهادها للحريات الدينية وتضييقها على المؤسسات الدينية كان على حساب الحريات المدنية والسياسية وليس على حساب قيم التسامح والاختلاف والنسبية فقط. كما أن نفي الأنظمة الشيوعية للدين قد أفضى إلى الوقوع في أسوء دين وهو تقديس الزعامات وشخصنة الأفكار وتبني الدين السياسي المعلمن الذي يعاني هو بدوره من تحريفات الشمولية والايديولوجيا الوضعية البائسة المتعارضة مع الأبعاد الروحية للطبيعة البشرية والتي نادت بالقيم المادية الجافة ودخلت في مواجهة مع كل دين حر وكل فن حر وكل فلسفة حرة وثقافة منتجة ترتبط بالإنسان المنتج والخصوصيات الرمزية للشعوب.
على هذا النحو لا يمكن أن نأخذ بجدية ما يقوله الناس على أنه حقيقة وينبغي العودة إلى الكائن البشري الفاعل والواقعي طالما أن الأفكار والأقوال هي مجرد ردود أفعال وانعكاسات عن معاناة يومية ويجب أن ننظر إلى الظاهرة الدينية على أنها أكثر من مجرد اعتقاد وأوهام وايديولوجيا تنويمية كما هو الشأن عند ماركس ، بل يلزم الانتباه إلى الوظائف العديدة التي تؤديها سواء على الصعيد النفسي (شقاء الانسان دون اله على حد عبارة باسكال) أو على الصعيد الاجتماعي (الدين أساس التماسك الاجتماعي عند دوركايم) أو على الصعيد الاقتصادي (الرأسمال الروحي يمكن أن يتحول الى رأسمال مادي عند بيير بورديو).
اذا قام الكاتب بغض النظر عن السياق التاريخي والأساس الفلسفي فيمكنه اذن أن يعتبر الشيوعية دينا جديدا دون أن يحتاج إلى تعريف مفهوم الدين ودون البحث عن ازالة التناقض بينهما طالما أنه يقصد بالشيوعية الدين العلماني الذي لا يكترث بالبرهنة على وجود الله. لكن من جهة نظر أخرى ينبغي الغاء كل ارتباط بين الدين والحرب طالما أن الحرب الدينية تحول الدين إلى خطر ايديولوجي يبرر العنف عن طريق احتكار تصريف شؤون المقدس والانتقال به من دائرة المجال الخاص إلى دائرة أوسع هي دائرة المجال العام.
غير أن المأزق الذي تقع فيه الشيوعية أنها أكدت على الطابع العنيف للفعل السياسي تحت عنوان تحريك التاريخ وصناعة المجتمع وبالتالي تكون قد اختزلت الانسان التاريخي في الانسان الصانع وأهملت الانسان العارف والانسان المتدين والانسان المبدع والانسان الراغب والانسان الرامز والانسان اللاعب. زد على أن الدين ليس أفيون الشعوب طالما أنه يساعد على ولادة الفرد الحر وخلاص الروح من القيود الغرائزية ويدفع الناس نحو الاحتجاج على أوضاعهم الاجتماعية البائسة ويغذي لديهم ملكة الحلم بعالم عادل وخير.
علاوة على ذلك يوجد عنصر قوي في الديانات التقليدية يمكن أن يكون صالحا في تنظيم شؤون الحكم ومصدره غير ديني وهو تفادي الذهاب إلىالجحيم والتصميم على الفوز بالجنة وتحقيق النعيم الأبدي وتجنب الشقاء الأخروي. كما أن النتيجة السياسية عن علمنة العصر الحديث هي حذف العنصر السياسي الظاهر في الديانات التقليدية من الحياة العمومية ومن الدين بصفة والتي يمكن تلخيصها في مبدأ واحد هو الخشية من الذهاب إلى الجحيم.
ان هذا الحذف قد ترتب عنه على الصعيد السياسي تغييب البعد الروحي وتبخر الايمان الأصيل من القلوب وتدنيس القيم الأخلاقية القابعة في العمق. عندما وقع الرجوع الي القاعدة الدينية "لا تقتل النفس بغير حق" فإنها مثلت صفعة شديدة في وجه القوانين الجزرية والممارسات العنصرية التي ارتكبتها الأنظمة الشمولية في وجه المعارضين والأقليات وأثبتت أن الدين يتضمن على أبعاد ثورية وقيم انسانية يمكن التعويل عليها لمقاومة الامبريالية والاستبداد.
لقد اثبت التاريخ أن التحالف بين السلطة والمقدس وبين الدين والسياسة لا يكون في صالح الطرفين وآيتنا في ذلك أن السياسة اذا وظفت الدين أفقدته روحانيته وسموه وتعاليه وبعده التربوي والأخلاقي والدين اذا فرض شريعته على السياسة قيدها ونزع عنها مرونتها وطابعها الاجرائي والوظيفي.
ان الحل الذي ينبغي أن يختاره الفاعلين من الطرفين هو فقدان الدين لمكونه السياسي الأساسي وفتح باب الاجتهاد والتأويل على مصراعيه ودون حدود وكذلك فقدان السياسة لسلطتها المتعالية وطابع القداسة الذي تضفيه على قرارات الحكام واستشارة الشعب في كل أمر يخص تنظيم الشأن العام.
ان الخطر هو أن يتحول الدين إلى مجرد سياق في خدمة القرار السياسي الشمولي وأن تصبح الحياة السياسية مجالا للعاطفة الدينية ويتم استعمال الدين لإحداث التفاوت والتفرقة بين أعضاء المجتمع الواحد وحرمان البعض من حق المواطنة وتحويله الى ايديولوجيا تتصف بالتعصب وتبرر الشمولية الغريبة عن جوهر الحرية الانسانية. ولكن الأخطر هو أن توظف السياسة الدين وتستولي على دور العبادة وتنشر نزعة محافظة وتفسيرا يمينيا للنصوص المقدسة يغلب جانب العبادات على المعاملات ويشوه الدين.
ان الخروج من هذه الورطة هو علمنة العالم المعاصر بشكل متبصر وغير عنيف وذلك بالتمييز بين السجل الديني والسجل السياسي للوجود البشري واعطاء حقوق المواطنة كاملة للإنسان الديني ولغيره المختلف عنه سواء بسواء والحرص على أن تسهر القوانين والمؤسسات على احترام وحماية ذلك.
غير أن السياسة لا تفعل في التاريخ بطريقة هادفة ولا تقطع مع النهج الشمولي ومخلفاته الكارثية بشكل تام الا اذا تخلصت من تفسير التحولات المجتمعية عن طريق الصراع الطبقي وما يؤدي ذلك الى شرعنة العنف واعتماد قانون البقاء للأقوى، والا استبدلت ذلك بقانون التحدي والاجابة عند توينبي أو نظرية الأنماط المثالية عند ماكس فيبر أو الصراع من أجل الاعتراف عند كوجيف قارئا هيجل وفك الارتباط بين الدين والتوظيف الشمولي. فما العمل اذا ما كانت السياسة الشمولية تفضي عادة إلى ترويج الكذب وتعميم العنف؟
الهوامش:
Hannah Arendt, Qu’est-ce que la politique ?, éditions du Seuil, Paris, 1995.
Hannah Arendt, la nature du totalitarisme, éditions Payot& Rivages, Paris ,2006.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق