يهودية الدولة بين الواقع والخيال/ جواد بولس

يصر بنيامين نتنياهو، ومعه قيادات من التيّار اليميني، وفي مقدمته "البيتاري" والمتدينون القوميون، بجميع تفرّعاتهم، على مطالبة الفلسطينيين والدول العربية بضرورة اعتراف هؤلاء بـ"يهودية دولة إسرائيل".
لقد جاء قرار محكمة العدل العليا الإسرائيلية برفض طلب مجموعة مواطنين، يهود وعربي واحد، بتسجيلهم  كإسرائيليين في خانة القومية، بدل ما هو قائم اليوم حيث يصنّف المواطنين كيهود وعرب، ليثير هذه المسألة، ليس فقط ببعدها السياسي الشعبوي إنّما ببعد قانوني جنّده البعض ليدلّل على عنصرية هذه المحكمة وكونها جزءًا من منظومة السيادة الإسرائيلية وذراعًا في تكريس سياسية التمييز العنصري بحق المواطنين العرب في الدولة. 
عمّا طرأ من متغيّرات على الجهاز القضائي الإسرائيلي كتبت في مقالات سابقة كثيرة وأشرت إلى ما يعتريه من تقهقر وإعطاب جعلاني أؤكد أننا نمضي في منزلق خطير وهاوية تطل من وراء أكتفانا. 
يثيرني ظل  هذه المفارقة؛ فماذا لو قبلت المحكمة العليا الإسرائيلية تسجيل العرب كإسرائيليين واليهود كذلك؟ وهل عندها ستصبح حقيقةً ملجأً للهاربين من دلفة القمع، وستصير مأوى يكسو حقوقهم المسلوبة؟ 
 أعفانا عدل المحكمة الغائب من وزر هذه الحيرة والمفاجأة، وبقينا على رصيف قطار نتنياهو وصياح صافراته كالديك يشاكس الشمس بمنقاره وعلى عُرفه خط متخايلًا "اعترفوا يا عرب: إسرائيل دولة يهودية".
لماذا هذا العناد؟ بمن يتحرّش نتنياهو؟ ماذا يستهدف؟ أي حق نقيض يهزم؟ 
ذهب محللون وأكّدوا أن مطالبة نتنياهو هذه دليل على ضعف دولة إسرائيل ومؤشر على انعدام ثقة المؤسسة الإسرائيلية بنفسها. أمّا أنا أقول عكس ذلك؛ فقادة إسرائيل يستشعرون ضعف الأنظمة العربية والإسلامية ويقفون على حقيقة ما سبّبه انزلاق إقليم غزة من انفصال تام قد يولّد كيانين ولو لحين. هذه وغيرها من عوامل أعطت قادة إسرائيل ما يكفي من أسباب الاستقواء علمًا بأن تاريخهم لم يعدم نزعة الغطرسة منذ بدايات الصراع.
صدق من نبّه إلى كون هذه المطالبة الإسرائيلية استفزازًا للقيادة الفلسطينية والعرب، تلجأ إسرائيل إليها في كل مرّة تحرز الديبلوماسية الفلسطينية تأييدًا لمواقفها يستجلب ضغوطًا  تطالب إسرائيل بضرورة التقدم في اتجاه بذل جهود لحل المأساة الفلسطينية. إنّه تكتيك الولد البلطجي المشاغب الذي لا يجيد إلا الرقص بالخناجر وإشعال الحرائق. 
إسرائيل دولة يهودية تعني كذلك، كما رآها البعض، خاتمة لما أقرّته الشرعية الدولية العاجزة عن تطبيق ما اعترفت به حقًا لمن شرّد من لاجئي فلسطين وما زالوا ينتظرون عودتهم إلى وطن وحقل ودار. وهو كذلك إقرارٌ بصحّة ما روته الحركة الصهيونية مخاطبةً أمم المعمورة بما وعدها رب السماء وأوصى؛ ففلسطين، من البحر إلى النهر، أرض الميعاد، قاحلة خاوية من بشر حتى جاءها أبناؤها ليَخلصوا وليخلّصوها من أغيار غاصبين. اعترفوا يا عرب بزيف رواياتكم وأقروا أن الصهيونية كانت ولم تلبث هي حركة تحرير شعب الله المختار وهي من أعاد حقًا ضائعًا منذ ألفي عام لأصحابه. 
وفي جزئية تخصّنا، كما أشار البعض، يؤدي قبول قادة الجماهير العربية في اسرائيل بهذا المطلب إلى تراجع في مكانة هذه الجماهير وفقدانها شرعية الوجود كأقلية قومية جديرة بحقوق سياسية ومواطنة تامة. 
لو افترضنا أن الاعتراف المنشود من شأنه أن يشرعن كل تلك المخاطر، فإفشال مآرب إسرائيل أمر بسيط ومقدور عليه؛ على الجميع عدم تقديم الاعتراف وبهذا نحرمهم من كسب ما خططوا له. هذا علاوةً على أن جميع من أشار إلى تلك المخاطر يفترض ولو نظريًا  أن إسرائيل قد تعترف بيوم ما بحق عودة اللاجئين الفلسطينيين وانها ستعيد ما احتل عام ٦٧ كاملًا شاملًا وأنها تمارس اليوم سياسة عادلة وتعطي جميع ما تستحقه الأقلية الفلسطينية من حقوق قومية ومدنية قد يخسرونها في حالة قبول قادتهم لطلب قادة إسرائيل. 
باعتقادي إن إصرار قادة اسرائيل على ضرورة اعتراف العرب والفلسطينيين بيهودية الدولة هو الخطوة التي تتوج وضعًا نجحت إسرائيل في تحقيقه على جميع جبهات الصراع معها.  إنها انعكاس لأيديولوجية واضحة، صقلها تحالف نتنياهو، بينيت ولبيد ومن معهم، تؤمن  بحق اليهود على إسرائيل الكبرى وبفلسطينيين قد يسكنونها مع حقوق محدودة. هذه القيادة الحاكمة اليوم تؤمن أن الإستطيان حق وواجب وليس مخزونًا تكتيكيًا لساعة مفاوضات مستقبلية. إنه، عندهم، إستيطان نوعي. ولذلك نشهد هذه الهجمة على كل ما كان يشكل حدًا بين فلسطين المحتلة ٦٧ وبين أي منطقة أخرى وما يفسر محو ما كان يسمى مناطق الحياد وما تدعمه  عملية تفريغ مناطق غور الأردن. إنها قوى سياسية تؤمن أن مبادرة العرب قد تصير مبتدأً لعملية تفاوض على كيان لن يكون يومًا دولةً كما يريدها الفلسطينيون ويعوّلون بذلك على حلفائهم في العالم وفي المنطقة. إنه نظام سياسي تحدى الشرعية الدولية بإصراره على تعيين مستوطن - والاستيطان عرّفته محكمة لاهاي كجريمة حرب- قاضيًا في محكمة العدل العليا. 
نحن نعايش نظامًا سياسيًا أحكم قبضته على مفاصل الدولة وأنتج منظومة قوانين خانقة سيتوجها بعد حين ما أسمي بقانون "ديختر" وتحوّلنا كسكان نعيش بمنّة النظام وحسناته. فوق كل ذلك لن أبالغ إذا قلت إنّها صيغة بديلة لما يعلنه بعض من هؤلاء بأن فلسطين كلّها هي أرض إسرائيل وليكن شرقي النهر/الأردن وطنًا للفلسطينيين. 
هو واقع أم خيال؟ كل الأسئلة مشروعة، فلماذا الآن وماذا تستهدف وما إلى ذلك، ستبقى الأسئلة الأسهل، أجاب عليها أكاديميون، باحثون وساسة. يبقى السؤال الأهم ما العمل؟ فالقضية لن تقف عند اعتراف أم لا. القضية تستدعي أكثر من مقال وذلك سيأتي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق