(إن استمرار مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية في التلفع بالعباءة العربية المهترئة لم يعد يستر عورة سياسية أو يغطي على تنازلات تفاوضية)
مرة اخرى يحاول الرئيس الفلسطيني محمود عباس اليوم إحالة مشروع قرار جديد تحاول الولايات المتحدة الآن إملاءه عليه إلى جامعة الدول العربية، لمنح شرعيتها لتنازل تفاوضي فلسطيني جديد متوقع، وهي الجامعة المفرقة المتفرقة المطعون في شرعية تمثيلها لأمتها وشعوبها، بدلا من الاستقواء على الضغط الأميركي بإجماع الشعب الفلسطيني على رفضه.
وللحقيقة والتاريخ لقد كان عباس منذ تولى مقاليد الرئاسة ولا يزال ملتزما بأن يكون قراره السياسي مغطى بمظلة عربية، خصوصا إذا اضطر لتنازل جديد أمام الضغوط الأميركية، وهو ما زال يحرص على أن يقوم مجلس وزراء الخارجية العرب ب"مراجعة وتقييم التقدم" الذي تحرزه مفاوضاته مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، فهو يستشير مرجعيته "العربية" بانتظام ويأخذ مباركتها قبل الإقدام على أي خطوة تفاوضية وبعدها.
لذلك كان من المقرر أن ينعقد، بناء على طلبه، اجتماع طارئ غير عادي لوزراء الخارجية العرب في القاهرة اليوم السبت لمواجهة ضغوط أميركية هائلة عليه للموافقة على مقترحات جديدة لوزير الخارجية جون كيري.
لكن عباس هذه المرة كما كان في كل مرة كالمستجير من الرمضاء بالنار، إذ من المؤكد تقريبا أن يرضخ وزراء الخارجية العرب للضغوط الأميركية ليسوغوا لمفاوضي منظمة التحرير الفلسطينية التنازل مجددا، بالموافقة على "ترتيبات أمنية" مقترحة من كيري، بالرغم من تقارير الأخبار التي تحدثت على نطاق واسع عن رفض عباس لها قولا وكتابة، حرصا منهم على "السلام" والتزاما بإنجاح مفاوضاته.
إن الضغوط الأميركية التي استخدمت الجامعة العربية أداة لها عندما جرّت الرئاسة الفلسطينية في تموز/ يوليو الماضي للتنازل عن مطالبتها المعلنة بوقف الاستعمار الاستيطاني كشرط مسبق لاستئناف المفاوضات الثنائية مع دولة الاحتلال تتحول الآن إلى إملاءات أميركية سافرة سوف تستخدم على الأرجح الجامعة العربية مجددا أداة لها لفرض مقترحات كيري على مفاوضي المنظمة.
ولم تستهدف جولة كيري التاسعة التي بدأها يوم الخميس قبل الماضي سوى محاولة لفرض مقترحاته على مفاوضي المنظمة كطريقة يراها رئيس الدبلوماسية الأميركية وحيدة لإخراج مفاوضاتهم مع دولة الاحتلال من الطريق المسدود الذي وصلت إليه.
وليس من المتوقع طبعا أن يتراجع كيري ببساطة عن "مقترحاته" بعد أن شارك في وضعها طوال شهور، كما قال هو نفسه، أكثر من مائة وستين مسؤولا وخبيرا من البيت الأبيض والبنتاغون ووزارة الخارجية ووكالات المخابرات والاستخبارات الأميركية، بالرغم من نفي "كبير مفاوضي" المنظمة د. صائب عريقات لوجود أي "خطة أمنية" مقترحة منه.
وما تسرب عن تفاصيل "الترتيبات" المقترحة يتحدث عن تجريد أي دولة فلسطينية مأمولة من السلاح والاكتفاء بوجود قوة شرطية – أمنية فيها تكون جزءا من قوة إقليمية بقيادة أميركية لمكافحة الإرهاب وتنظيم القاعدة، وتوكيل الولايات المتحدة بمراقبة عدم تسلحها ربما بنظام شبيه بالمراقبة الأميركية لاستمرار تجريد شبه جزيرة سيناء المصرية من السلاح الوطني، وإبقاء حدودها البرية والجوية والبحرية تحت سيطرة دولة الاحتلال المباشرة أو بوكالة أميركية ودولية عنها، وإشراك دولة الاحتلال في السيطرة الفلسطينية على المعابر مع الأردن، والمحافظة على وجود عسكري لقوات الاحتلال على امتداد الضفة الغربية لنهر الأردن بعد إقامة دولة فلسطينية، وإبقاء محطات إنذار مبكر إسرائيلية لا سيطرة فلسطينية عليها على المنحدرات الشرقية لمرتفعات الضفة الغربية، وتسيير دوريات فلسطينية مشتركة مع قوات الاحتلال، إلخ.
ويمكن التكهن بأن كيري "يناقش" مع مفاوضه الفلسطيني ومظلته "العربية"، مثلا، ليس وجود أو عدم وجود قوات الاحتلال في الغور على امتداد الحدود مع الأردن، بل هل يكون هذا الوجود لمدة أربع سنوات أم لخمسة عشر عاما أم لمدة أطول أم أقل وهل يكون هذا الوجود بمشاركة دولية أم مستقلا كما تصر حكومة الاحتلال، أو كمثال آخر، هل تكون الشراكة الإسرائيلية في السيطرة على المعابر مع الأردن ظاهرة أم مستترة وهل تكون سيطرة مشتركة ثنائية أم بمشاركة دولية كما كانت في اتفاق عام 2005 على معابر قطاع غزة، إلخ.
ومقترحات كيري يجب ألا تكون موضوعا قابلا للتفاوض الفلسطيني والموافقة العربية، فهي مشروع "خريطة طريق" جديدة لاتفاق أمني انتقالي جديد يرقى إلى كونه اتفاق "أوسلو – 2" يستبدل اسم "السلطة الفلسطينية" باسم دولة فلسطين، ويعيد نشر قوات الاحتلال، ويرسم محددات جديدة ل"التنسيق الأمني" الفلسطيني معها، ويمنح الاحتلال مهلة زمنية جديدة للاستمرار في الاستعمار الاستيطاني التهويدي بغطاء تفاوضي جديد يضفي عليه شرعية الموافقة الفلسطينية بمظلة "عربية".
لكن وزراء الخارجية العرب الذين سوف يجتمعون في القاهرة اليوم السبت لن يخرجوا على قرارات قادتهم، فعلى سبيل المثال "رحب المجلس الأعلى" لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في قمته الرابعة والثلاثين الأخيرة في الكويت ب"الجهود الدبلوماسية" الأميركية" وب"بدء المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين" كما جاء في "إعلان الكويت" الصادر عنهم والذي جدد دعمهم ل"مبادرة السلام العربية" كمرجعية للمفاوضات.
وليس من المتوقع أن تكون الدول العربية الغارقة في حروب داحس والغبراء الجاهلية معنية بالاجماع الفلسطيني على رفض المفاوضات واستئنافها. فهذا الرفض يبدو كأنه لم يصل أسماعهم أو أن في آذانهم وقر بحيث لا يسمعونه أو هم لا يريدون سماعه.
إن مهزلة المفاوضات الكارثية التي لا تفتأ الجامعة العربية "ترحب" بالجهود الأميركية لاستمرارها تحل دولها من تحمل مسؤولياتها القومية تجاه فلسطين وشعبها وأرضها، في الأقل تعويضا عن مسؤوليتها عن نكبة عام 1948 إن لم يكن بدافع التضامن العربي والأخوة الإسلامية، بقدر ما توفر للولايات المتحدة غطاء عربيا وفلسطينيا "سلميا" يغطي على حروبها العدوانية العسكرية والاقتصادية والاستخبارية والسياسية على الأمة في كل مواطنها، وبقدر ما توفر لدولة الاحتلال مظلة مماثلة لتجميل صورتها وإطالة أمد احتلالها ومواجهة الضغوط الدولية المتزايدة عليها.
ناهيك عن استخدام هذه المفاوضات واستمرارها أداة لمنع الشعب الفلسطيني، في الأقل، من البناء على قرار الأمم المتحدة الاعتراف بفلسطين دولة مراقبة غير عضو فيها بالتوجه إلى أكثر من ستين منظمة دولية للفوز بعضويتها، وناهيك عن استخدام المفاوضات طوال عقدين من الزمن لاجتثاث مقاومة الشعب الفلسطيني ومطاردتها وحصارها، وهي المقاومة التي حرصت الدول العربية على محاصرتها سياسيا بما يسمى "مبادرة السلام العربية"، وعسكريا بمطاردتها في أراضيها، ثم محاصرتها تحت رحمة الاحتلال داخل وطنها.
إن استمرار مفاوض منظمة التحرير الفلسطينية في التلفع بالعباءة العربية المهترئة لم يعد يستر عورة سياسية أو يغطي على تنازلات تفاوضية، لكنه بالتأكيد يساهم في تضليل الشعب الفلسطيني عن رؤية التقاعس والعجز العربي على حقيقته العارية التي لم تعد أي ورقة توت فلسطينية كافية لتغطية العورات الفلسطينية لدول الجامعة العربية وحكوماتها وحكامها.
ومقترحات كيري تتبنى المطالب الإسرائيلية بحذافيرها تقريبا، وتقلب الأولويات التي كان كيري قد وعد الرئاسة الفلسطينية بها، وتغير مرجعية المفاوضات المتفق عليها معه، وتتراجع عن التوصل إلى "حل نهائي" كهدف للمفاوضات سبق له أن التزم به.
فالرئيس الأميركي باراك أوباما يتحدث الآن عن "إطار عمل ... لن يتناول كل تفصيل على حدة" ل"عملية انتقالية"، لن تشمل قطاع غزة في البداية، كهدف بديل لأن الفلسطينيين لا يمكنهم أن يحصلوا "على كل ما يريدونه في اليوم الأول" لأي اتفاق، ويتحدث كيري نفسه عن هدف بديل للمفاوضات أيضا يتمثل في "إطار عمل أساسي" و"إرشادات توجيهية" ل"مفاوضات لاحقة" تقود إلى "معاهدة سلام كاملة"، ولهذا الغرض فإن الشهور التسعة المتفق عليها كسقف زمني للمفاوضات المستأنفة لم تعد ملزمة فيقترح تمديدها، كما أعلن كلاهما في منتدى سابان بمعهد بروكينغز الأميركي في السابع من الشهر الجاري.
إن تلميحات كيري إلى تمديد السقف الزمني للمفاوضات المستأنفة وتصريحات عريقات الأربعاء الماضي عن مفاوضات "تستمر سنة" للتوصل إلى "حل نهائي" في حال التوصل إلى "اتفاق إطار" في نهاية الشهور التسعة، إنما هي تلميحات وتصريحات تنذر بموافقة مبدئية من مفاوض المنظمة على مقترحات كيري وتراجعه، وبموافقة وزراء الخارجية العرب عليها، وبأن يكون عام 2014 سنة إضافية في المفاوضات يستمر خلالها الاستعمار الاستيطاني، وتهويد القدس، والحصار على قطاع غزة في نهش الأرض واللحم الفلسطيني ... بمباركة "عربية".
إن ردود الفعل الغاضبة والمستنكرة لمفاوضي المنظمة الحاليين والمستقيلين والسابقين على "الترتيبات الأمنية" التي اقترحها كيري بزعم "تطمين" دولة الاحتلال الإسرائيلي على أمنها كي تخرج المفاوضات التي نجح في استئنافها أواخر تموز / يوليو الماضي من الطريق المسدود الذي وصلت إليه فقادت إلى تقديم الوفد المفاوض للمنظمة لاستقالته هي ردود فعل توحي كأنما مخضرمي التفاوض الفلسطيني يتعرضون لأول مرة لانقلاب الولايات المتحدة عليهم ونكثها بوعودها لهم.
لكنهم يعرفون هم أكثر من غيرهم بانها ليست المرة الأولى التي يلدغون فيها من الجحر الأميركي ولن تكون الأخيرة، لذا لا يمكن تفسير ارتفاع صوت رفضهم اللفظي غير المشفوع بقرار حاسم يقطع المفاوضات ولا يوقفها وينهي الرعاية الأميركية لها إلا كتغطية إعلامية لامتصاص المعارضة الشعبية لاستمرار رهانهم على كلا الأمرين تشي باستعداد للتفاوض على "ترتيبات" كيري غير القابلة للتفاوض.
والمفارقة أن رفضهم لو صدق يخلق أرضية سياسية صلبة لإجماع فلسطيني يوفر أساسا موضوعيا للمسارعة إلى إنهاء الانقسام الفلسطيني وإحياء الوحدة الوطنية كشرط مسبق يمكن الجميع من إسقاط ترتيبات كيري الأمنية التي ترقى إلى اتفاق "أوسلو – 2"، فهذا وحده هو الاختبار الحاسم لصدقية رفضهم لها، غير أن خوض اختبار كهذا يظل رهنا بقرار الرئيس محمود عباس الذي كان حتى الآن يسبح ضد التيار الشعبي والوطني الرافض لاستئناف المفاوضات.
إن "تأجيل" شمول قطاع غزة بترتيبات كيري المقترحة سببه عجزه عن إملائها على القطاع، ويكشف عن نية مبيتة تستهدف عزل القطاع طالما ظل حاضنة للمقاومة الوطنية، وهذا الاستهداف في حد ذاته سبب كافي في حد ذاته للرد الفلسطيني عليه بالمسارعة إلى إنهاء الانقسام كأولوية وطنية أهم من كل ما عداها.
* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق