خفايا التهدئة 2- مصر والمعادلة الفلسطينية/ رائف حسين

كثر الكلام والتعليق حول الدور المصري، المُبهم للوهلة الأولى، في محاولات التوصل الى هدنة طويلة الأمد بين الإحتلال الإسرائيلي والمقاومة الوطنية والإسلامية في غزة. 
لفهم ما يحصل على الساحة وفي الكواليس السياسية لا بد من نظرة وتقييم سريعين بإتجاه مصر شعبا وقيادة وسياسة.

الهزة التي حصلت في مصر بعد الإطاحة بنظام الإخوان الذين ربحوا إنتخابات نزيهة بعد إسقاط عرش مبارك، هي هزة كبيرة تُلقي تأثيراتها بظلها على السياسة المصرية وليس فقط الخارجية بل الداخلية ايضا وسيستمر هذا الوضع دون شك لفترة زمنية طويلة. بإختصار شديد تم تقسيم الداخل المصري الى مؤيدين للإخوان ومُعادين لهم وما بينهم لا شيء. وليس هذا فحسب بل تم تقسيم العالم الخارجي شعوباً وأفراداً وحكوماتٍ حسب هذه القاعدة البسيطة التي تعلمها السيسي من الأمريكان. هؤلاء قسمو العالم بعد 11 نوفمبر أيضا حسب معادلة المؤيد للإرهاب والمُعادي له.

أدرك الفريق السيسي في المعركة الانتخابية أن هذه المعادلة رغم خطرها على وحدة مصر هي طريقه الوحيد الى عرش الرئاسة، وبدأ بحرب مفتوحة على الإخوان وهذا ليس فقط في مصر بل في أنحاء الشرق العربي. كما أن سياسة الإخوان الإقصائية في مصر والتسرع في أسلمة المجتمع على هواهم والدعم الذي لاقوه من حركات إخوانية عربية وتركية وتدخلهم غير الموفق بالشأن السوري، ساعد السيسي لاحقاً بمشروعه للإستيلاء على الرئاسة وسهّل عليه أن يلعب ورقة الخيانة الوطنية التي لف بها الإخوان.
والآن يعمل السيسي لتثبيت قدميه على العرش وهو على يقين من أن تهدئة مصر واستقرارها داخلياً لا يتم إلا بعودتها إلى الساحة السياسية الشرق أوسطية كقوة إقليمية وإنعاش الإقتصاد المصري. وهو مدرك تماماً للربط الجدلي بين الموضوعين وأن تحقيق الأمر الثاني لا يمكن تحقيقه في المرحلة الحالية والقريبة دون إنجاز المهمة الأولى وتثبيت مصر قوة إقليمية إلى جانب إيران، التي سلّم العالم بمكانتها السياسية في المنطقة.
السيسي يستغل الوضع الراهن بسقوط تركيا الإخوانية كقوة إقليمية بعد أن غدرت بالعالم العربي ووقفت ضد سوريا شعباً ونظاماً ودعمت القوات التكفيرية عسكرياً ولوجستياً وسياسياً لتقديرها الخاطئ للوضع السوري الداخلي. إن إصطفاف تركيا المستمر وخاصة بعد إنفجار الوضع في العراق في مشروع سايس بيكو الجديد لتقسيم العالم العربي الى دويلات، وإدخاله في حرب قذرة بين الشيعة والسنة  لفتح الباب أمام إستعمار كولونيالي جديد، أحط من مكانتها وتأثيرها في الشرق الاوسط. والسيسي على إدراك تام أن السعودية التي دخلت بداية وعن قلة إدراك سياسي طويل الأمد مستنقع المشروع الصهيوأمريكي لإدخال الشرق الأوسط بصراعات دامية بين المِلَل تحضيراً لتقسيم جديد للشرق تنتج عنه دويلات ضعيفة مرتبطة سياسياً وإقتصادياً بقوى خارجية، لن تعد في القريب العاجل منافساً لمصر كقوة إقليمية. والآن وبعد تراجعها الاولي عن دعم القوى التكفيرية وحظرها لحركة الإخوان في الأراضي السعودية واستنجادها بالجيش المصري لرد هجوم داعشي من الاراضي العراقية لشمال السعودية لم يعد بإمكانها أن تقوم بدور إقليمي مركزي. إضافة الى هذه العوامل المساعدة لعودة مصر كقوة إقليمية، إن السيسي من الحنكة الكافية ليعرف أن الصراعات الكبرى المؤثرة في الشرق الزوسط والسياسة العالمية الآن كالحرب في سوريا والعراق والخطر التكفيري والحرب السنية الشيعية التي تم إشعالها لا يمكن التغلب عليها بمساعدة مصر. فالورقة في هذه المعادلة هي بيد إيران ولا منازع لها بهذا. هذه الحقيقة يدركها كل من السيسي، الخليج العربي والغرب أيضا. اضافة لذلك، الصراعات المقلقة الأخرى في الشرق والتي يمكن لمصر لعب دور بها كالصراعات القائمة في ليبيا والسودان واليمن لا تشكل خطراً جدياً على مصالح الغرب ولا تعنيهم بالدرجة الأولى ولذا تتطاير قوة إحتمالات مصر السيسية في لعودة الى الساحة الإقليمية من هذه الأبواب. 

وعليه، يبقي باب رئيسي ومركزي يمكن للسيسي إستغلاله للعودة بمصر كقوة إقليمية في الشرق الاوسط - باب الصراع العربي الإسرائيلي. وقد جاءت حرب غزة كعجل إنقاذ للسيسي وحبل يسهل التسلق عليه للعودة الى المكانة المرموقة كقوة إقليمية.
سارع السيسي مدعوماً بحلفائه من الغرب والسعوديين للوساطة بين الاحتلال الصهيوني والمقاومة الوطنية والاسلامية بغزة للوصول الى هدنة. وفُتح له الباب على مصراعيه ليتسلق سلم الخروج من عالم النسيان السياسي الذي وقعت به مصر بعد إسقاط نظام مبارك والعودة الى موقع إقليمي مرموق منافساً لإيران القوة الاقليمية الثانية في الشرق. الزوبعة التي حاول الأمريكان إثارتها كتعبير عن غضبهم لإعلان السيسي عن مبادرة الهدنة قبل وصول وزير الخارجية الأمريكي للمنطقة هي لعبة دبلوماسية لرفع مكانة مصر وإظهارها داخلياً وعربياً „بطل يتحدى الامريكان سياسياً“ ورفع أسهمها في التحدي الشرق أوسطي. الحرد التركي القطري ومحاولتهم التأثير على حلفائهم في الساحة الفلسطينية لعدم قبول إتفاق الهدنة المصرية هو ليس من باب الحرص على المصالح الفلسطينية بل هو خوف من نجاح اللعبة الديبلوماسية المصرية والرمي بالقطري والتركي في قبو الدبلوماسية الشرق أوسطية لزمنٍ طويل. وهذه الخطوة تتماشى الآن مع التوجه السعودي وتلقى إستحسان الغرب لما بها من ضمانٍ أكبر لمصالحهم في الشرق. 

أنا لم أفاجأ من ردات فعل الشارع الفلسطيني الوطني الصادق من المبادرة المصرية التي رافقها أيضا ترويج إعلامي صهيوعربي في الإعلام المصري. هذا الإعلام المُوجه لتسويق المعادلة السيسية القائلة إن الإخوان ودون تفرقة بين تياراتهم بالشرق ومنهم حركة المقاومة الإسلامية حماس، هم العدو الحالي للعروبة. ولديّ شخصياً مآخذ عديدة على سياسة الإخوان وأيدولوجيتهم الإقصائية والمعادية للقومية العربيه إلا أن هذا موضوع آخر وليس إستغلال الدم الفلسطيني للثأر من الإخوان إلا سياسة بخيسة تخدم العدو قطعاً. ومحاولة هذا الإعلام الترويج للدعاية أن حماس دعمت القوى التكفيرية في سيناء تهدف لشيطنة الحركة وزيادة الشرخ داخل المجتمع الفلسطيني في تصديه للعدوان الصهيوني. الحقيقة هي أن حركة حماس قامت بأخطاء سياسية خارجية جسيمة خصوصاً في السنوات الماضية، وهذا دون شك موضوع يستحق النقاش والمراجعة ولكن ليس من باب التخوين والشيطنة، خاصة وأن حماس الآن تشكل العمود الفقري لمقاومة العدوان الصهيوني على فلسطين المحتلة، ومراجعة هذا الأمر لا تكون بكيل التهم والوقوف الى جانب المحتل الصهيوني الذي لا يفرق بإجرامه بين حمساوي وغير حمساوي في ساحة المعركة.

وعودة بنا الى مبادرة التهدئة المصرية التي لم يتكلل لها النجاح الان ولكنها سوف تجد الطريق الى التحقيق عندما تصل الأطراف كلها الى ما وصفته ب  win win sitation في المقالة الأولى بهذا الشأن. 
السيسي لن يكتفي بالوصول الى إتفاقية تهدئة، بغض النظر عن فترة إستمرارها، إذ أنه يدرك أن هذا هو فقط نصف الطريق للوصول الى الهدف الأكبر وهو عودة مصر كقوة إقليمية منافسة لإيران في الشرق الأوسط لتضمن بذلك دعم الغرب العسكري والمادي لها، وضغط الأخير على بعض الدول الخليجية وخصوصاً السعودية والإمارات للإستثمار في مصر لدعم الإقتصاد المصري وخلق فرص عمل قادرة على تثبيت أقدام السيسي على العرش المصري. 

نهايةً أود أن أرسم سيناريو للسياسة المصرية تجاه غزة قد يظهر للوهلة الاولى غريب وآتٍ من عالم آخر، لكن قراءة الواقع بتمحص سوف تُظهر أن هذا السيناريو يمكن أن يتحقق وعلينا تتبع أخبار تحقيقه ولو جزئياً. الهدف الصهيوني الأول هو القضاء نهائياً على المقاومة المسلحة في غزة بجميع أطيافها السياسية والأيديولوجية، والحلم اليومي لكل غزاوي والذي يعيه كل متابع للأمر، أن يعيش بكرامة ويتحرك بحرية ويطعم أبناءه ويؤمّن لهم حياة سهلة. في نفس السياق، يتمحور الهدف المصري بإيجاد حسم عسكري للتواجد التكفيري المسلح بسيناء ومحاصرته من كل الجهات. وقد بدأ الحديث الآن عن قوات دولية بمساعدة عربية تضمن أمن الحدود المصرية الفلسطينية وتمنع تسرب السلاح الى غزة. 
السيناريو المحتمل الذي قد يراعي ما ذكرته أعلاه هو أن تكون هناك قوات دولية رمزية ووجود مكثف لقوات مصرية وليس فقط على الحدود بل أيضاً داخل غزة، وفي المقابل تقوم مصر بفتح الحدود للمسافرين وللتبادل التجاري إضافة الى ذلك تقوم مصر بتزويد القطاع بالوقود والغاز والكهرباء وكل هذا يتم بإتفاق مع السلطة الفلسطينية التي تتوق لبسط سيادتها على القطاع ولو بحماية مصرية وتقزيم الدور الحمساوي السياسي والنضالي. هذا السيناريو الخطير يضمن تحقيق عدة أهداف ويرضي الأطراف المتورطة بالصراع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق