الدكاترة زكي مبارك يثيرني فأثير أثيره 2/ كريم مرزة الأسدي

 - الحلقة الثانية - 

ملاحظة  مهمة ، لمن يهمه الأمر !! :
وأفذاذنا     مثل     الجوارح     أيها   *** فقدناه   كان   الفاجع   البين   الفقدِ
لكلّ    مكانٍ    لا    يسدّ    اختلاله   ***   مكان  أخيه  في   جزوع   ولا   جلدِ
كتبت عدة حلقات عن الرصافي والجواهري والسياب والبياتي والشبيبي واليعقوبي والمتنبي والمعري وأبي نؤاس ودعبل وبشار وووو ... ، وأكتب اليوم عن الدكاترة زكي مبارك ،  و ربما عن  بعض  عباقرة العرب مستقبلاً ،  سواء بسواء،أتكلم عن معاركهم ومظلوميتهم ومواقفهمم وأشعارهم وأفكارهم  بجرأة متناهية  ، فالوطن والأمة والإنسانية دائماً في وجداني ، والله من وراء القصد ، والعراق أيضاً  - وهذه  حقيقة - ظلم عباقرته بشكل كبير، والمشاكسات والمشاحنات والحزازيات والمعارك أيضاً كانت تجري بين رجالات العراق وأفذاذهم  حتى الصغر ، وكتبت بجرأة عنهم دون رياء ونفاق !! ،  هذا ولزاماً عليّ أن أسجل جزيل شكري وتقديري ومحبتي للمواقع والصحف والمجلات والكتب التي تفضلت عليً على مدى المشوار الطويل ضيفاً ثقيلاً ... خفيفاً ...كريماً ...شحيحاً .. مزعجاً ... مريحاً.. مقلداً .. مجدداً ... منفعلاً .... متعقلاً   عذري أنا إنسان و إنسان... على مرّ اللحظات  ، وبذلك كلّه قدمتْ - أعني المؤسسات -  خدمة جليلة للقارئ العربي الكريم  ، فشكراً وألف شكر:
من هو زكي مبارك ...  ؟!! مسيرة  حياته ...ثقافته ... مؤلفاته ...مواقفه 
5  - ولادته ... نشأته ... ثقافته
 ولد زكي عبد السلام مبارك في قرية سنتريس بمحافظة المنوفية من أسرة ميسورة الحال ، وتذكر معظم المصادر أن تاريخ ميلاده هو  ( 5 آب -أغسطس -عام 1892م ) ، ولكن هو يدوّن غير ذلك بمذكراته التي صدرت ككتاب عن الهيئة المصرية العامة للكتاب تحت عنوان" زكى مبارك بقلم زكى مبارك" ، إعداد وتقديم ابنته كريمة زكى مبارك، ويقع  فى 287 صفحة من الحجم الكبير ، إذ يسجل كاتباً : "ولدتني أمى فى الخامس من أغسطس سنة1891م فأضيف إلى الوجود خير جديد وشر جديد" .
تعيدني كلمة المبارك إلى أبيات من قصيدتي الموسومة ( وتركب الإنسان بالإنسانِ) ، وكيف تتوارد  الخواطر بين الناس ، اقرأ رجاء :
هذي الحياة ُ ترى الممات َ بدايةً  *** لتفتح  الأجيـال ِ في   الزمكانِ 
فتعيدُ نشأتها ، وتسحقُ سلفـها **** وتركّبُ  الإنسانَ      بالإنسان 
أمرٌ خفى ، وهو الجليّ  بداعــة   *** شر ٌ  وخيرٌ   كيف   يمتزجـانِ
   أدخله أهله إلى (الكتّاب) لحفظ القرآن الكريم كما هي عادة السلف  الصالح   ، وكما يقول الأخوة المصريون : كان يعمل فى (الغيط)  مع الفلاحين ،  وفى (السامر) يستمع إلى المغنواتية والمداحين وعشق المواويل خاصة وأن والده كان يحبها ويغنيها .. ومن هنا ولدت فى وجدانه ملكة الشعر. 
وتذكر ابنته ( كريمة ) أن بيت أسرته احترق ، وهو طفل يحبو وأتت النيران على كل شىء فى البيت وقد أنقذوا الطفل الصغير من وسط النار بعد أن وجدوه يجلس صامتاً لا يصرخ رغم كل هذه النيران ..وبعد سنوات قليلة من هذا الحادث سقط من فوق سطح منزلهم على صخرة فشجت رأسه شجاً عميقاً كاد معه أن يفقد حياته .. ثم كاد أن يموت غريقاً فى (الترعة) وقد أنقذه رجل مر مصادفة. 
لا ريب أن هذه الأحدات  التي مرّت عليه في طفولته المبكرة ، خزن ما خزن منها في عقله الباطن ، وأخذت تؤثر على مسيرة حياته طيلة عمره دون تقصدٍ منه أو تعمد ، وبعضها بقت عالقة في وعيه ، يغرف منها ما يشاء حسب المواقف في اللحظات  الإبداعية !!  
وفى العاشرة من عمره أدمن القراءة ، وحفظ القرآن حتى أتمه وجوّده ترتيلا، ثم شدّ رحاله إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر الشريف  فى عام 1908 وسكن فى غرفة فقيرة جداً فى ربع يعقوب بحى الغورية  ، ولكنها كانت غنية بشعره  وجدّه وشهرته التي اكتسبها حتى اعتلى عرش ( شاعر الأزهر) دون منازع .  
وفى عام 1914 تعرف على  الإصلاحي الكبير  في مجال الدراسات الأدبية واللغوية  في الأزهرالشيخ سيد المرصفى الذى اكتشف بوادر عبقرية ونبوغ المبارك ، وسبق له أن رعى موهبة وعبقرية تلميذه السابق طه حسين (1306 هـ / 15 نوفمبر 1889 - 1393 هـ / 28 أكتوبر 1973م) الذى تصادف حصوله على الدكتوراه من الجامعة المصرية عن أبى العلاء فى نفس العام ، وبعد أن تأكد الشيخ المرصفى من عبقرية هذا الفتى المتمرد الزكي المبارك قال : «إنى لأخشى أن يضيع منا زكى مبارك كما ضاع طه حسين» ، وبالتالي - كما هو مفهوم - يخسر الأزهر رجاله وأفذاذه. 
والشيء بالشيء يذكر فى عام 1915  انضم  صاحبنا إلى جمعية أدبية للخطابة في الأزهر الشريف قد أسسها وكيل الجامع الشيخ محمد حسين العدوى ، فبرز فيها ، وتفوق على أقرانه وزملائه ، ولقبه أساتذته  بـ ( فتى الأزهر)، ولم تفته فرصة تعلم اللغة الفرنسية في هذه المرحلة حتى أجادها بجهده الشخصي ، وتعدى ذلك ليخترق عيون الأدب الفرنسي وخاصة الشعر .
أرجو أن تركز على تاريخ ميلاد الدكتور طه حسين إذ دونته متعمداً ، فهو يكبر المبارك بثلاث سنوات ، ولكنه نال شهادة  الدكتوراه من الجامعة المصرية قبل الدكتور المبارك بعشر سنوات ، وهذا يعني أن المبارك  قد أثرت عليه الظروف القاسية المريرة التي مرّ بها في طفولته المبكرة وأبان فتوته ، وبدايات شبابه ، وكذلك يشير إلينا إلى  أن الدكتور طه  كان أستاذأ كبيراً للمبارك ، فعندما غادر الأخير  أزهره إلى رياض جامعته المصرية ، و تبوأ مقاعد كلية آدابها ، كان من الطبيعى أن يتتلمذ على يد  الدكتور طه حسين الذي يكبره ثلاث سنوات زمنية ، وعشر سنوات تعليمية  ، ولكن  كان مباركنا  فتى الفتيان، فقد جارى أستاذه  في الاجتهاد والسعي والثقافه ،   ونيل  الشهادات العلمية بتحدٍ ومنافسة وإصرار، بل ومطاولة ، ربما هذا الأمر مع غيره من أمور المشاكسات المباركية  قد حزّت في نفس العميد طه ، فوضع العراقيل أمام تلميذه ، فثارت بينهما المعارك الأدبية ، بل والاقتصادية والاجتماعية  لفترة طويلة ، سنأتي  على التلمذة والمشاكسة والمعركة  وعلى موقف المازني منها  وقوله فيها  أيضاً ، وهذا لا يعني أنّ الحق كلّه على عميد الأدب العربي  ، ولا يعني أيضاً أن ما تركه صاحبنا أكثر أهمية ، أو قيمة أدبية وفنية مما أورثه لنا العميد العملاق   !! :
وأفذاذنا     مثل     الجوارح     أيها   *** فقدناه   كان   الفاجع   البين   الفقدِ
لكلّ    مكانٍ    لا    يسدّ    اختلاله   ***   مكان  أخيه  في   جزوع   ولا   جلدِ
6 - شهادته العلمية :      
فذلكة الأقوال عن تحصيله العلمي ، حصل علي شهادة الأهلي، من الجامع الأزهر عام 1916، وليسانس الآداب من الجامعة المصرية عام 1921، و نال ثلاث درجات دكتوراه متتالية الأولى في الآداب من الجامعة المصرية  ذاتها عام 1924، وسافر إلى فرنسا للدراسة في عام 1927م على نفقته الخاصة وكان يقضي هناك أربعة أشهر من كل عام ثم يعود للقاهرة ليقضي المدة المتبقية من العام يعمل فيها بالصحافة والتدريس من اجل جمع نفقات إقامته في باريس ، فنال دبلوم الدراسات العليا في الآداب من مدرسة اللغات الشرقية   عام 1931  ، ثم حصل من جامعة السربون على (الدكتوراه الثانية ) عن موضوع: «النثر الفني في القرن الرابع الهجري) - كما حصل على (الدكتوراه  الثالثة ) عام 1937في التصوف الإسلامي، ولهذا أطلق عليه الشاعر محمد الأسمر لقب الدكاترة الذي بقى ملازماً له   ، واستحقه بجدارة وكفاءة .
7 - حياته العملية ... نضاله من أجل مصر والعروبة ...مؤلفاته :
يقول مخاطباً نفسه ، عاشقاً  لمصره  ، وكان دائم الثناء على نفسه  وعلى كتبه  ، ولابدّ من مصرٍ وإن طال السفر !! : 
عرفتك بين سطور الكتبْ ***  وبين القوافي وبين الأدبْ
محباً لمصر ومن نيلها *** شربت فأضحيت فوق الشهبْ
 ومن سنتريسَ إلى أزهرٍ *****    يظل التنقل بيـن الكتبْ 
ويبقي سبيلك نحو العلا  **** بفنٍ وعلـــــمٍ  لأعلي الرتبْ  
بدأ الرجل حياته  الصحفية سنة 1917  بمراسلة بعض الصحف والمجلات الأدبية فى مصر. ولما اندلعت الثورة الشعبية عام 1919 ضد الأنكليز بقيادة الزعيم الوطني الكبير سعد زغلول ، ترك جامعته ليلتحق في صفوف الثوار كخطيب مفوه بليغ ، بل من أكبر خطبائها وشعرائها وذاق  طعم السجن من أجل شمس حرية مصره ، و يتضح الخط القومي عنده منذ فترة شبابه الذي حمل فيه قلمه للدفاع عن القومية مهاجماً الاستعمار بصلابة حتى وهو يطلب العلم في باريس كان يهاجم فرنسا كدولة استعمارية . وبذل جهداً استثائياً طيلة خمسة عشر عاماً يدافع  عن التدريس في الجامعات باللغة العربية ، ونبذ الهيمنة  الغربية على علومنا وآدابنا  وفنوننا ، وسانده رجال ، وقصيدة حافظ إبراهيم (اللغة العربية تنعى حظها) شهيرة في هذا المجال :
رَجَعتُ   لِنَفسي   فَاتَّهَمتُ   حَصاتي *** وَنادَيتُ   قَومي   فَاحتَسَبتُ   حَياتي
رَمَوني   بِعُقمٍ   في   الشَبابِ   وَلَيتَني *** عَقِمتُ   فَلَم   أَجزَع   لِقَولِ  عُداتي
وَلَدتُ   وَلَمّا   لَم   أَجِد   لِعَرائِسي ***** رِجالاً     وَأَكفاءً     وَأَدْتُ     بَناتي
و كان دكتورنا ومعه لا ريب الدكتور طه حسين والأستاذ الكبير العقاد والمازني وغيرهم من رجالها الأكفاء ، ولو أن البعض يرمي الدكتور طه بالتغريب ، ولكن ما تركه لنا من آثار عربية قيّمة  تنفي عليه التهمة ،  مهما يكن  وقف ضد مباركنا  دعاة التغريب ، وهذا لا يعني على العرب التقوقع على ذاتهم ، وعدم التفتح على الحضارات الإنسانية ا لأخرى ، وإجادة اللغات الأجنبية إجادة تامة للتلاقح بين  حضارتنا والحضارات العالمية الأخرى ، وإنما نعني أن لغتنا الجميلة ، وعبقريتها الفذة تتسع لجميع العلوم وأسرارها ، والفنون وإبداعاتها ...  
كان الرجل ثائراً سياسياً وعلمياً واجتماعياً  منذ الخطوات الأولى ، كان همه إصلاح الأزهر ، فدخل لجنتها ، وشق حجاب العشق الإباحي بعد أن تراكمت عليه أغبرة العصور المظلمة فكتب عن ( عمر ابن أبي ربيعة ) ، وحمل بيده معول النقد البناء فشن حملة صعبة وقاسية على رجال الفكر والثقافة التقليدين والتحرريين   الكبار من الستهوري والقباني حتى طه حسين والعقاد وأحمد أمين ، فصنع له الأعداء والخصوم مما لا طاقة لأحد أن يتحمل !!   
عمل في الجامعة المصرية، وعمل في الجامعة الأمريكية  ، وعين مفتش اللغة العربية  للمدارس الأجنبية في مصر  واخرج من وظيفته  بعد أن جاء النقراشي وزيرا للمعارف والدكتور السنهوري وكيلا للوزارة - كما يذكر من ترجم له -  !! 
وعمل في الصحافة أعواما طويلة ويحدثنا انه كتب لجريدة البلاغ وغيرها من الصحف نحو ألف مقال في موضوعات متنوعة. و ألف خمسة وأربعين كتاباً  ، منها اثنان باللغة الفرنسية ، ومن كتبه  (الأخلاق عند الغزالي) ، و (مدامع العشاق ) ، و(الموازنة بين الشعراء)  ، و (حب ابن أبي ربيعة وشعره) ، و (النثر الفني في القرن الرابع الهجري)  (جزآن) ، وهو في رأي الدكتور أحمد أمين أعظم أثر أدبي تركه الدكتور الدكتور زكي مبارك ، ...ويقول الدكتور مبارك نفسه عنه في فاتحته للكتاب : " إن هذا الكتاب أول كتاب من نوعه في اللغة العربية، أو هو، علي الأقل، أول كتاب صنف عن النثر الفني في القرن الرابع الهجري، فهو بذلك منارة أقيمت لهداية السارين في غيابات ذلك العهد السحيق. ولن يستطيع أي مؤلف آخر مهما اعتز بقوته، وتعامي عن جهود من سبقوه أن ينسي أني رفعت من طريقه ألوفا من العقبات والأشواك ..."
عناوين الكتاب من الباب الأول: تطور النثر الفني من عصر النبوة إلي القرن الرابع، والباب الثاني: خصائص النثر الفني في القرن الرابع، الباب الثالث: كُتّاب الأخبار والأقاصيص، الباب الرابع: كُتّاب النقد الأدبي، الباب الخامس: كُتّاب الآراء 
والمذاهب، الباب السادس: كُتاّب الرسائل والعهود .
 وتحدث أحمد فضل شبلول عن كتاب " ذكريات باريس" الذي يحتوي علي ذكرياته ومذكراته وخطاباته إلى جانب آرائه في الآداب والفنون، وبعض أشعاره في الفترة التي كان يتلقى فيها العلم في السربون علي مدي خمس سنوات ، وأخيراً كما ذكرنا في مقدمة المقالة صدر كتاب "زكى مبارك بقلم زكى مبارك"، إعداد وتقديم ابنته "كريمة زكى مبارك"، ويتضمن مقالاته التي كتبها في الأربعينات تحت عنوان "الحديث ذو شجون"،  ينهي  دكتورنا كتابه "بسرائر الروح الحزين" وهو عنوان كتاب أعلن "زكى مبارك"عنه ولكنه توفى قبل أن يرى الكتاب النور، وتعكف الآن ابنته ( كريمة ) على جمعه وطباعته . وسنذكر بعض مؤلفاته الأخرى حين الحديث عن حياته في العراق ،  كان الرجل  متعدد المواهب ..ناقداً ... محققاً... خطيباً ... ثائراً ...شاعراً فله ديوان "ألحان الخلود"
    8 - ثوراته الفكرية  والثقافية :   
 كان الدكاترة زكي مبارك مشاكساً رهيباً ، عنيدا لشدة ثقته بنفسه وصحة آرائه حتى أنّه  - كما ذكرنا سالفاً  - كثير الثناء على نفسه ومولفاته بشكل يثير حوله السخط ، بل الحقد والجفاء لا عن تجاهل أو تغابي ، بل لعبقريته الفذة ، إذ يرى ما لايراه الآخرون بلحظات خاطفة سريعة ، ربما أسرع وأدق وأشمل  و أوسع مدى حتى من بعض أنداده النابغين ، وهكذا كان كثيراً من عباقرة الدنيا ، وأولهم المتنبي العظيم ، ( أي ّ محلٍ أرتقي ...) ، ( أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي ...) ، ( إذا قلت شعراً أصبح الهر منشدا )  ، وثانيهم المعري ( ألا في س بيل المجد ما أنا فاعل ) ، ( والكلب من لا يعرف للكلب سبعين اسماً ) !!! ، نعم كثير الزهو بنفسه ، معتداً بها حتى الأنانية المفرطة وهذه من خصائص العباقرة كما ذكرنا في بحوثنا عنهم ، ولكن يجب علينا أن ننتبه جيداً ، هذا الخصلة ليست عيباً ، بل مكرمة ، لأن من  لا يحب نفسه ، لا يمكن له أن يحب الآخرين ، لذلك يقول ، وأنا معه معه !!:    
إذا غدوت بلا حب فأنت فتي *** لا روح فيه ولا عقل ولا أدب
وأنا أعترف  من الصعوبة الشديدة أن يتفهم القرّاء الكرام ، بل الناس على عمومهم وخاصتهم ، ما بررته للدكتور المبارك مدافعاً عنه ، وهو في ذمة الله ورحمته ، ولكن هذه هي الحقيقة الخافية ، ومن العجيب أن عباقرة كبار مثل العقاد والمازني والدكتور طه ، وهم يعرفون خفايا الأمور أكثر مني ، يلومونه ، بل ويشاكسونه على خصلة هي  من خصائص عباقرة الفن والأدب - سنأتي على أقوالهم  بعد قليل - وفي الوقت نفسه نرى أنهم  يتبرعون مستميتين للدفاع عن ابن الرومي مثلاً ، الأمر وما فيه أن الناس قد  جبلوا أن يترحموا على الأموات ، ويتصارعوا مع الأحياء ، وهكذا تؤخذ الدنيا غلابا ، وهذه سنة الله في خلقه  ، ولن تجد لسنته تبديلا !!!      
لعل الأمر توضح لديك أنّ دكتورنا المتمرد هاجم خصومه بسلاحين مؤثرين ، يكيل إليهم الاتهامات القاسية ، ويقذفهم بالقصور والتقصير ، أو على الأقل  كنقص القادرين على التمام  من جهة ، ويثني على نفسه بغلوٍ شديد كما يرونه هكذا ، ولا نراه كذا !! ومع مَن ؟!! د. طه حسين، د. أحمد أمين، وأطال معهم الخصومة لأمدٍ طويل ، ثم  العقاد ، عبد العزيز البشري،  مصطفي صادق الرافعى  ، محمد لطفي جمعة، أحمد زكي شيخ العروبة، أحمد حسن الزيات، عبد المتعال الصعيدي، والسباعي بيومي  ، وأسلمهم منه مرارةً المازني ، إذ ناله قسطاً قليلاً ، وغيرهم كثيرون سماه بعض النقاد "الملاكم الأدبي في ثقافتنا الحديثة "
من عادتي أنْ  لا أطيل المقام ، لكي لا يُمَلّ المقال ، وكلّ شيءٍ إلى مآل ، فإلى الملتقى والسلام!!
سنذكر المصادر في أخير حلقة عنه.

سيد بكركي/ آميل نون

كتب بادرو الحجة
الشاعر اميل نون من مشمش جبيل جارة القديسين، الحائــز على وســام الإستحقاق اللبنانـــي، وعلى وسام الأرز الوطني برتبة ضابــط
بمناسبة زيارة غبطة البطريرك الراعي الى استراليا، يهدي هذه القصيدة الى ابناء الجالية اللبنانية:


سندبـــــاد البطــــــرك وعمــــــــــلاق                                   
وحامـــل لكـــــل الدنـــــي عناويـــــن
وعاطي لها لمشــرق من الاشــــــراق                                   
قـوّه وبطُولـــه لخيرهــــــا منشتـــــاق
بأرض الرساله الناطره التطمين

روح عـــا آخر دنــــي ورجـــــــــاع                                    
ناقل البشـــــرى وخفــــفّ الأوجـــاع
حامــل صلابـــة ارزنــــا وصنيــــن                                    
وشريكــــة الفـــــــادي إلـــك معيــــن
تا نكـــون جيـــش وشعب متحديــــن                                    
وتبقــــى بعبــــدا المرجــــع الاميــــن

ومجد وعصــا بكركــي فيا البَركــه                                      
وجـــذور تاريخــــا ميّــــات سنيــــن
انشـــــالله شعــــار الحب والشــركه                                      
يـــــرّد عـــــا لبنـــــان مغتربيــــــن ..
وجيشنا للبناننا الحصن الحصين

يا سيّد بكركــي عا اعلانك وقــاف                                       
بصمــــودك الثابـــت بوجه الانقسـام
في غبطتك منشّم رائحــة الخـراف                                       
وقداســــة البــابــا حكي بهــا لالتزام
بلادنـــا بالاختـــلاف وبالــــخلاف                                       
لوحدة صفوفــــا صار لازمـلا حزام
وعن الشرعيـّــه ما بدّنا انحـــراف                                       
بلبنــــان والمهجــــر نبشّر بالســـلام

عفواً البؤر التكفيرية ليست بسيناء/ أشرف حلمى


تعجبت كثيراً للعناوين التى هلت علينا عبر صفحات الجرائد والمواقع الإلكترونية المختلفة مثل الجيش يهاجم ويدمر البؤر التكفيرية والصاعقة تبدأ عملية '' صيد الفئران'' في سيناء وكان الأولى بعناوين تتعلق بالإرهابيين انفسهم فالحرب على الإرهاب لابد ان تبدأ بمحاربة اصحاب الفكر التكفيرى أولاً ومحاكمة من فتح حدود مصر وعمل على عودة الجهاديين الإرهابيين من افغانستان وباكستان وغيرها من دول الجوار الى سيناء بعد ثورة يناير ثانياً .
فالحكومة المصرية هى المسؤولة عن محاربة البؤر التكفيرية وليس الجيش ولكن للأسف الشديد الحكومة عاجزة عن تحقيق ذلك بسبب انها هى التى أسست هذه البؤر عملاً بمبدأ ( نحن لا نكفر بل نساعد على التكفير ) .
فحزب النور هو اكبر البؤر التكفيرية الموجودة على ارض المحروسة لوجود اشهر شيوخ الفتنة والتكفير بين اعضائه المعروفين بفتاويهم التفجيرية وعلاقاتهم المشبوهة مع المنظمات الإرهابية الدولية كحماس وداعش وغيرها  فكل مقرات هذا الحزب تمثل بؤرة تكفيرية وكل منزل مقيم به عضو سلفى يمثل وكراً إرهابياً  .
فحكومة ثورة يونية برئاسة عدلى منصور هى المسئوله عن وجود هذه البؤر التكفيرية حتى الان والتى ابتلانا بها طنطاوى ومجلسه العسكرى فهى كانت تعلم جيداً دور السلفيين واحزابهم  شركاء الإرهابية فى فترة حكم الاخوان ودعمهم لإعتصامى النهضة ورابعة  ورغم ذلك تركتهم دون حتى التفكير فى اتخاذ اى إجراء او حتى تحذير ضدهم  بل وحثت عمرو موسى على مشاركتهم فى صياغة الدستور وحافظت على تماسك حزب النور السلفى وسلمته هدية  للحكومة الحالية التى باركته نظراً لنشاطة العظيم الذى قام به فى برلمان الاخوان السابق ومواقفه الوطنية تجاة السلام الجمهوى لذا تركته ايضاُ يمارس نشاطه الدينى تحت غطاء سياسى يخوض الإنتخابات البرلمانية القادمة كى ما يكمل مسيرته واهدافه الدينية لتحقيق وخدمة المصالح الوهابية .    
فعلى الحكومة المصرية الحالية الإختيار اما القضاء على كافة الاحزاب الدينية قبل الإنتخابات البرلمانية القادمة لتحقيق الهدف الذى قامت من أجله الثورة  واما إنتشار الفوضى والإرهاب وجر البلاد لحرب اهلية طبقاً لمخططات خارجية بهدف تقسيم البلاد كما كان مخطط من قبل . 

دبلوماسية الغاز والطاقة الإسرائيلية/ د. مصطفى يوسف اللداوي

أصبح لدى الكيان الصهيوني حقولٌ اقتصادية من الغاز الطبيعي والنفط، تكفي أسواقه الداخلية، وتزيد عن حاجته، مما يجعل منه مُصَدِّراً للطاقة في المنطقة، بعد أن كان مستورداً لها، ومضطراً للبحث عنها في الأسواق القريبة والبعيدة، وقد كان يعاني من ارتفاع أسعارها، واضطراب أسواقها، ويخشى من تعثر وصولها إليه، خاصةً الغاز المصري، الذي كان يحصل عليه بأسعارٍ تفضيليةٍ خاصةٍ، بموجب اتفاقياتٍ سرية نصت عليها اتفاقية كامب ديفيد للسلام، تجيز له شراء الغاز المصري بأقل من كلفة انتاجه، بغض النظر عن أسعاره العالمية، ولكن تكرار ضرب وتفجير أنابيب الغاز في سيناء، أدى إلى اضطرابٍ كبيرٍ في شؤونه الاقتصادية، وانعكس على حاجة مواطنيه من الغاز الطبيعي.
اليوم يشعر الكيان الصهيوني أنه بات حراً طليقاً من قيود الطاقة المصرية وغيرها، ولن يكون مرتهناً لها، وخاضعاً لتقلباتها، ومتأثراً بأحداثها، كما لن يشكو من المظاهرات الشعبية المصرية، ولا من الشكاوى والمحاكم التي ترفع ضد صفقات الغاز معه، في محاولةٍ لإبطالها، ووقف ضخ الغاز إليها، وهو ما عانى منه كثيراً، نتيجةَ حاجته الدائمة والملحة، ومصادره المصرية الحصرية، التي استقرت لعقودٍ ولكنها اضطربت كثيراً في السنوات الأخيرة، منذ ما قبل سقوط نظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، أما المصادر الأخرى فهي بعيدة ومكلفة، ويلزم لتوفيرها صفقاتٌ دائمة ومتجددة، واستعداداتٌ حاضرة ومبكرة.
بات لدى الإسرائيليين حقولٌ بحرية غنية بالغاز، ذات مخزونٍ عالي، يكفي لسد حاجاتها ويفيض، مما يمكنهم من بيعه إلى دولٍ تحتاجه، ويجعلهم في موقعٍ يمكنهم من المساومة والابتزاز، وفرض الشروط والسياسات، فقد أبدت الحكومة الإسرائيلية استعدادها لتزويد مصر والأردن والسلطة الفلسطينية بما يحتاجونه من غازٍ طبيعي، وسمحت للوزارات المختصة بمفاوضة من يبدي رغبةً في شراء الغاز منها، في الوقت الذي تقوم فيه وزارة الخارجية برسم السياسات الخارجية للدولة العبرية، محاولةً استخدام الطاقة التي توفرت لها أخيراً، في تنفيذ برامجها وخططها في علاقاتها الخارجية مع الدول، وخاصةً العربية منها، التي تفتقر إلى الطاقة، وتبحث عن أسواقٍ قريبةٍ، وأسعارٍ مغرية، وهو ما ترغب الحكومة الإسرائيلية في عرضه وحسن تسويقه.  
فقد أفاد المراسل الصهيوني "كاليف بن دفيد" أنّ الحكومة الإسرائيلية تعمل حاليّاً على اللجوء لترويج مخزونها من الغاز الطبيعي، لإصلاح علاقتها مع الدول المجاورة والصديقة القديمة والمعادية، من بينها قطاع غزة، لافتاً إلى أنّ الحرب الأخيرة ضد غزة أطاحت بسمعة "إسرائيل" على المستوى الدولي، وهي الآن تعمل على إعادة تحسين الصورة عبر استخدام الغاز الطبيعي، وإمكانية ترويجه للدول المجاورة والصديقة بأسعار منافسة. 
وتوقع "بن دفيد" أن يشهد نهاية العام الجاري توقيع اتفاقياتٍ ملزمة بمليارات الدولارات تكون أطرافها رام الله وعمَان والقاهرة، بالإضافة إلى أنقرة التي أجرت محادثات مبدئيّة حول الغاز الطبيعي، معتبراً أنّ أمام "إسرائيل" فرصة اقتصاديّة ودبلوماسية فريدة تعتمد على سياسة الوقود والطاقة، باعتبارها تلعب بقوة في قواعد اللعبة السياسيّة القائمة على المصالح المشتركة، بما فيهم الأتراك الذين ليسوا على وفاقٍ مع "إسرائيل". 
وأضاف أنّ لدى "إسرائيل" حقلين ضخمين للغاز الطبيعي يجثمان في قاع البحر المتوسط، يمكن لهما أن يصنعا فرصاً رائعة لديها، من خلال بناء شبكة علاقاتٍ جديدةٍ، أو إعادة بنائها مع دولٍ مستمرةٍ بعدائها لإسرائيل منذ إعلان قيامها قبل 66 سنة، علماً أن البحث عن حقولٍ أخرى ما زال جارياً، والتوقعات كبيرة، وقد تكون النتائج مبهرة، الأمر الذي سيزيد من فرص إسرائيل لتحسين اقتصادها، وتطوير علاقاتها مع دول الجوار.
الدول العربية تملك الآلاف من حقول النفط والغاز، ولديها مخزونٌ يكفي لعقودٍ أخرى من الزمن، ويكاد يكفي انتاجها الكون كله، وما قد انتجته على مدى العقود العشرة الماضية، يكاد يكون أضعاف المخزون الاستراتيجي الكوني من النفط، لكن الحكومات العربية لم تحسن الاستفادة من هذه الثروة، فلا هي نهضت بأحوال مواطنيها، ولا هي أغنتهم عن الحاجة والعوز، ولا هي عمرت بلادها، وارتقت بشؤون أوطانها، كما أنها لم تستفد من الأسعار المهولة للنفط والغاز في بناء قوتها العسكرية، وامتلاك القدرات الدفاعية والهجومية، ولا في تأسيس جيوشٍ قادرةٍ على حماية حدودها وأمنها.
كما أنها فشلت في توظيف قدراتها المهولة في الطاقة، في بناء شبكةِ علاقاتٍ استراتيجية، تخدم مصالحها الوطنية والقومية، ولم تستطع أن تجعل من النفط والغاز سلاحاً تضغط بهما على صناع القرار الدولي، ليتوقفوا عن دعم الكيان الصهيوني ومناصرته، ولمنعه من الاعتداء ومواصلة الاحتلال واغتصاب الأرض والحقوق، بل إن منها من يزود الكيان الصهيوني بالنفط والغاز، الذي يلزم لتشغيل الطائرات الحربية، والدبابات القتالية، وغيرها من الأسلحة التي باتت تعمل بوقود العرب.
الإسرائيليون وجدوا في حقلي النفط اليتيمين فرصةً لأن يحسنوا اقتصاد كيانهم، وينهضوا بشؤون مستوطنيهم، ويطوروا معيشتهم، ويستغنوا بهما عن ذل الحاجة، وبؤس السؤال، فضلاً عن استغلال مخزونها في بناء أوسع شبكة علاقاتٍ مع دول الجوار، والتأثير عليها للخضوع لها، أو القبول بشروطها، وإنهاء حالة العداء معها، ولتتمكن من تحسين صورتها، وترميم علاقاتها مع المجتمع الدولي، التي أصابها العطب والتشوه، نتيجة الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على الفلسطينيين وأرضهم وحقوقهم ومقدساتهم.
يحق للكيان الصهيوني في ظل الاستخذاء العربي، أن يفاخر بحقول الغاز التي اكتشفها، علماً أنها ليست لهم، ولا يحق لهم استغلالها، ولا الاستفادة منها، إنما هي حقٌ للشعب الفلسطيني، فهو صاحب الأرض، ومالك الحقول، والمتصرف في مياهه الإقليمية، وصاحب الحق الحصري في الثروات الجوفية، من ماء ومعادنٍ ونفطٍ وغاز، لكن الاحتلال الصهيوني الذي اغتصب الأرض وشرد الشعب، لا يُسألُ عما يسرق ولا ما ينهب، فقد استباح كل الحقوق، ونهب كل الخيرات، وما زال يمضي في السلب والسرقة والقضم والاستيلاء.

إضاءاتٌ نقديّةٌ لِديوان "سلامي لكَ مطرا" للشّاعرة آمال عواد رضوان/ عبد المجيد عامر اطميزة

قصيدة: "سلامي لك مطرا"- من قصائد الديوان 
في دُروبِنا العَتيقَةِ
تُعَتِّقينَ خَواطِري فَرادَةً بِكِ
إلامَ تَطْفو ذِكْراكِ عَلى وَجْهِ النِّسْيانِ؟
بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ
تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني ../ ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ
لِتَرْسُوَ مَراكِبُ ذُهولي المَحْمومِ
عَلى صَفَحاتِ لَيْلِكِ المائِجِ
أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ/ في شِتاءاتِ الخَطايا؟
سَرْبِليني بِمِعْطَفِ عَطْفِكِ الآسِرِ
لأُطفِئَ بَرْدَ الأَوْهامِ
يا مَنْ تَرْتَسِمينَ بَتولاً في أيْقونَةِ الطَّهارَةِ
لَوْحَةً سَماوِيَّةً تُشْرِقينَ/ عَلى تِلالِ ذِكْرَياتي
لأَظَلَّ ضَميرَكِ اليَسْتَتِرُ/ خَلْفَ جِبالِ صَمْتِكِ
عَلى شَواطِئِ العَتْمَةِ
يَدْرُجُ نَوْمُكِ اليَتَّكِئُ / عَلى عُكّازِ صَحْوَتي
وَفي إغْماءَةٍ شَهِيَّةٍ
يَشُدُّني حُنُوًّا/ إلى صَدْرِ غَفْوَةٍ سِحْرِيَّةٍ
أنا مَنْ أَثْمَلَني السَّهَرُ
ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ/ في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ
لكِنّي.. أَصْحو
لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ/ يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ
يَتَمَطّى مُتَثائِبًا/ في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ
عَلى مَوائِدي التَزْدَحِمُ
بِرَقائِقِ بَسْمَتِكِ الشَّقِيَّةِ/ بِفَطائِرِ حُبِّكِ المَعْسولَةِ
أَأَقْتَرِعُ... عَلى
كِ سْ رَ ةٍ/ مِنْ خُبْزِ نُعاسِكِ؟
أَأُقامِرُ على/ نَ غْ مَ ةٍ
مِنْ ماءِ هَذَيانِكِ؟
أَتُبَعْثِريني بِـ/ حَ فْ نَ ةٍ
مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟
مَعْصِيَتي النَّقِيَّة!
مَذاقُ الدَّهْشَةِ كافِرٌ
يُعَرْبِدُ فارِعًا بِكِ/ فارِغًا إِلاّ مِنْكِ
يُعاكِسُ خُطى صَمْتِكِ/ في مَرايا غُموضِكِ
أَيَّتُها الغابَةُ التَتْرَعينَ بِوَحْشِيَّةِ الجَمالِ
إلامَ يَظَلُّ يَفْتَرِسُني ضِياؤُكِ الشّرِسُ؟
إلامَ تَظَلُّ تُلَوِّنُني رائِحَةُ عَتْمَتِكِ الوَضّاءَةِ؟
يا مَنْ/ عَلى عَتَباتِ خافِقي المَهْجورِ
تَنْبُتينَ أَشْجارَ زينَةٍ/ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ
يَزْدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِداءاتي
أَتَقولينَ: سَلامي لَكَ َمطَرًا!؟
سَلامُكِ!/ تَصْدَحُ بِهِ حورِيّاتُ النُّجومِ/ في سُهولِ لَيْلي
لِتَحْتَفِيَ بِأَعْراسِ حُزْني
سَلامُكِ!/ يَبُثُّ احْتِراقَ عُيوني/ بِعُذوبَةٍ مُتَوَحِّشَةٍ
بِلُغَةٍ خُرافِيَّةٍ/ تُضيئينَ تَثاؤُبَ وَهْمي/ 
بِنورِ غُيومِكِ/ يُثَرْثِرُ قُزَحُ نَبْضي
وَبِفِرْشايَةِ أنْغامِكِ أَذوبُ موسيقى
تَتَلَوَّنُ في مَفاتيحِ البَوْحِ
تُمْطِرينَ سَلامَكِ/ فَيْضَ روحٍ عَلى روحي
وَسَلامي ظامِئٌ/ يَرْتَشِفُ طَلَّ فَجْرِكِ
يَتَرَدَّدُ صَدى مَلَكوتِكِ/ وَلَهًا.. حَنانًا..
وتخشعَ سَمائي مَزْهُوَّةً
بِتَسابيح نَوافيرِ أنْفاسِكِ! 
المقدّمة: يتضمّنُ تحليلي في كتابي (من أعماق القول- في شِعر آمال عوّاد رضوان)، ثلاثَ قصائدَ مِنَ ديوانِ (سلامي لكَ مطرًا)، وقدِ امتطَتْ شاعرتُنا آمال عوّاد رضوان صهوةَ قصيدةِ النّثرِ بحِنكةٍ، وسارتْ في مَراكبِها بدرايةٍ، وحقّقتْ أهمَّ خصائصِها باقتدارٍ وثباتٍ، وسنعرضُ سطورَها الشِّعريّةَ على آراءِ مَن كَتبَ مِنَ النُّقّادِ في دراساتِهم للقصيدةِ النثريّة. 
"سلامي لكَ مطرًا"؛ هو الدّيوانُ الثّاني الّذي صدَرَ للشّاعرةِ آمال عوّاد رضوان عام 2007، وأسْمتْهُ بهذا الاسْمِ نسبةً للقصيدةِ الثّالثةِ في مُحتوى الدّيوانِ، والّذي يتكوّنُ مِن اثنتيْ عشرةَ مقطوعةً، وشاعرتُنا آمال عوّاد رضوان استوعبَتْ قصيدةَ شِعرِ النّثرِ باقتدارٍ، وجالتْ في ثناياها بحِنكةٍ، وسارتْ في طريقِها باستنارةٍ، وقبلَ الولوجِ في عالمِ ديوانِ الشّاعرةِ لا بُدّ لنا مِن وقفةٍ تأمُّليّةٍ، لنرى طبيعةَ القصيدةِ النّثريّةِ، وآراءَ بعضِ النّقّادِ فيها. 
يقولُ النّاقدُ أحمد يزن: باتَ مِنَ المُؤكّدِ أنّ مَن يَبرَعُ في كتابةِ قصيدةِ النّثرِ مِنَ الشّعراءِ العرَبِ، هو مَن يَستطيعُ استيعابَ علاقةِ الشِّعرِ بشِعريّةِ أحلامِ التّكنولوجيا؛ لذلكَ قِلّةٌ شعراءُ قصيدةِ النّثرِ المُبدِعون، وكثيرةٌ قصائدُ النّثرِ الّتي نستطيعُ أن نرميَها في البحرِ بلا أسفٍ". 
وكما قالَ ماكس جاكوب: "لتكونَ شاعرًا حديثًا، يجبُ أن تكونَ شاعرًا كبيرًا جدًّا".(1)
وتقولُ جمانة حدّاد، عن عبّاس بيضون، في جريدة السفير 26/6/2006: "أُنسي الحاج" أعظمُ شاعرٍ منذ المتنبّي...". 
{لكنّ شعراءَ بيروت، مِنَ المتعلِّمينَ بالفرنسيّةِ، لم يتعرّفوا عليها، كقصيدةٍ مخصوصةٍ، إلّا بعدَ صدورِ كتاب سوزان برنار. لم يتعرّفوا على قصيدةِ النّثرِ مِنَ الأعمالِ الشّعريّةِ نفسِها، (شجونُ باريس مثلًا، أو الأنطولوجيّات الخاصّة بهذا الجنس الشِّعريّ)، بل من الأطروحة الأكاديميّة، أي العمل النقديّ. ولو فرضنا أنّ هذا العملَ لم يَصدرْ، فهل كانتْ هذه القصيدةُ ستنالُ في بيروت كلَّ هذه الحظوةِ في الفترةِ ذاتِها؟ وهل كانَ لشعراء بيروت في الفترةِ ذاتِها، ما أصبحَ لهم بفضلِ الاطّلاعِ على كتابِ سوزان بيرنار؟ مِن ثمّ نفهمُ، كيفَ أنّ الحركةَ البُنيويّةَ للسّتينيّاتِ والسّبعينيّاتِ، بما حملَتْهُ مِن تفرُّعاتٍ منهجيّةٍ، مِن شِعريّةِ الاستعارةِ إلى شِعريّةِ الإيقاع، ومِن دلائليّةِ غريماس أو دلائليّةِ يوري لوتمان، إلى الدّلائليّةِ التّحليليّةِ لجوليا كرسطيفا. 
عائلةٌ بكاملِها التقى فيها أهلُ الّلسانيّاتِ والفلسفةِ والتّحليلِ النّفسيّ والأنتربولوجيا بدلائليّينَ وشاعريّين. ما استأثرَ بالقراءةِ والتّنظيرِ لدى حركةِ النّقدِ الجديدِ، هو أعمالُ ساد، ورامبو، وملارمي، ونيتشه، وأرطو، وبونج، مُفيدينَ مِن فردناند دو سوسير، وموريس بلانشو، وجورج باطاي، والشّكلانيّينَ الرّوس. وكانتِ الكتابةُ المَوقعَ الّذي تختارُهُ أعمالُ هؤلاءِ، مُعوِّضينَ بذلكَ مفهومَ الأدبِ بمفهومِ الكتابة. 
وحسب رولان بارط، "ليستِ الكتابةُ هي الكلام، وهذا التّفريقُ بينهما حصَلَ في السّنواتِ الأخيرةِ على تكريسٍ نظريّ، ولكنَّ الكتابةَ ليستِ المكتوبةَ أيضًا، أي التّدوين؛ فأنْ تكتبَ ليس هو أن تُدوِّنَ. في الكتابةِ ما هو أكثرُ حضورًا في الكلامِ (بطريقةٍ هستيريّةٍ)، وأكثرُ غيابًا في التّدوينِ (بطريقةٍ إخصائيّة)، بمعنى أنّ الجسَدَ يعودُ، ولكن عن طريقٍ غيرِ مباشرةٍ، مَقيـسَةٍ وموسيقـيّة، حتّى تقول كلَّ شيءٍ بدقّةٍ، عن طريقِ المُتعةِ لا عن طريقِ المُتخيّلِ (الصّورة)".
تصريحاتٌ واعترافاتٌ بأنّ العربَ لم يَفهموا قصيدةَ النّثرِ ولم يَكتبوها. وأضيفُ إنّهم لم يَفهموها ولم يَكتبوها بمعانٍ مُتعدِّدةٍ. ليسَ الشّكلُ وحده ما لم يَفهموهُ، بل تاريخ هذه القصيدةِ السّابق على بودلير، واسمها، ومكانتها ضمنَ الشِّعرِ الفرنسيّ، (ومنه شِعر وكتابات بودلير)، وطبيعةُ هذه القصيدةِ الّتي هي ابنةُ باريس، تحديدًا، المدينةِ الفرنسيّةِ الكبيرةِ في زمنِ الثّورةِ الصّناعيّةِ، واكتساحِ الخِطابِ العِلميِّ فضاءَ البحثِ العِلميِّ، كما فضاء الحياةِ الفرنسيّة، ثمّ بُعدُها الميتافيزيقيّ، كما أعطاهُ إيّاها بودلير، شاعرُ "الانحطاط" بامتياز. 
المغاربةُ، المغاربيّونَ، يَختارونَ صمتًا هو فتْحُ الأسرارِ. بهِ يُؤالفونَ بينَ المغربِ والمَشرقِ. وبهِ يُنادونَ على أصدقائِهم المَشرقيّينَ. يُهيّئونَ لاستضافتِهم، والاحتفاءِ بهم وتكريمِهم. دعواتٌ لا تتوقّفُ. بيوتٌ مفتوحةُ الأبواب. ابتهاجٌ يمتدُّ ليلَ نهار. هذا هو المغربُ، المغربُ العربيّ. وأنا أعلمُ أنّ شعراءَهُ، نُقّادَهُ وباحثيهِ، يَفعلونَ ذلكَ دفاعًا عن فِكرةٍ جديدةٍ عن العالمِ العربيّ، عن ثقافتِهِ ومُستقبلِهِ. وهُم في صمتِهم يُقاومونَ. صمتٌ لا يَبلغُ مقصَدَهُ إلّا أهلُ الذّوقِ، مِن أصحابِ العِلمِ العرفانيّ، بما نحنُ فيهِ وما نحنُ إليهِ سائرونَ. صمتٌ أقسى مِن الكلامِ، في زمنٍ نفتقـدُ السّؤالَ عمّا نفعلُ، ولماذا نفعل؟ وكيف نفعل؟ صمتٌ هو تجربةُ الإقامةِ في الزّوابع، على حافّةِ الخطرِ، بجسدٍ كلُّه عيونٌ. صمتٌ هو سيّدُ الكلام.} (2) وأمّا طبيعةُ القصيدةِ النّثريّةِ قبلَ الغوصِ في أعماقِ قصائدِ شاعرتِنا آمال عوّاد رضوان، والتّدقيقِ في صُورِها الشّعريّةِ وإيقاعاتِها وبُنيتِها التّركيبيّةِ. 
كما ترى سوزان برنار أنَّ قصيدة النّثرِ هي: "قطعةُ نثرٍ موجزةٍ بما فيهِ الكفاية، مُوحّدةٍ، مضغوطةٍ، كقطعةٍ من بلّور... خلْقٌ حُرٌّ، ليسَ لهُ مِن ضرورةٍ غيرَ رغبةِ المُؤلّفِ في البناءِ، خارجًا عن كلِّ تحديدٍ، وشيءٌ مضطربٌ، إيحاءاتُهُ لا نهائيّة»(3). ولقد أضافتْ سوزان برنار في كتابها المرجع: "قصيدة النثر من شارل بودلير وحتى الآن"، خصائصَ عدّةً لقصيدةِ النّثرِ، وقد وظّفتْ شاعرتُنا آمال تلكَ الخصائصِ وهي:  
الإيجاز: وتعني الكثافةَ في استخدامِ اّللفظِ سِياقيًّا وتركيبيًّا . 
التّوهُّج: وتعني الإشراقَ، أي يكونُ الّلفظُ في استخدامِهِ مُتألّقًا في سِياقِهِ، كأنّهُ مصباحٌ مُضاءٌ، إذا استبدلْناهُ بغيرِهِ، ينطفئُ بعضُ البريقِ في الدّلالةِ العامّة، وفي الجَمالِ التّركيبيِّ النّصّيّ. 
المجانيّة: وتعني الّلازمنيّة، أي يكونُ الّلفظُ غيرَ مُحدّدٍ بزمنٍ مُعيّنٍ، فالدّلالةُ مُتغيّرةٌ، حسبَ السّياقِ والرّؤيةِ والتّركيب، وتكونُ قصيدةُ النّثرِ ذاتَ دلالةٍ مفتوحةٍ، يمكنُ أن تُفهَمَ على مُستوياتٍ عدّة. 
الوحدةُ العضويّة: وتعني أن يكونَ النّصَّ كُلًّا واحدًا، ونترُكَ وحدةَ البيتِ، ويكونَ النّصُّ كلُّهُ وحدةً واحدةً، لا يمكنُ أن يَقرأ بمَعزلٍ عن أيِّ جزءٍ مِن أجزائه.(4).     
قصيدةُ النّثر- كما عندَ شاعرتنا آمال- (هي قصيدةٌ تتميّزُ بواحدةٍ أو أكثرَ مِن خصائصِ الشّعرِ الغنائيّ، غيرَ أنّها تعرضُ في المطبوعاتِ على هيئةِ النّثر، وهي تختلفُ عن الشِّعرِ النّثريّ بقِصَرِها وبما فيها مِن تركيزٍ. وتختلفُ عن الشِّعرِ الحُرِّ بأنّها لا تهتمُّ بنظامِ المُتوالياتِ البيتيّة. وعن فقرةِ النّثرِ، بأنّها ذاتُ إيقاعٍ ومؤثّراتٍ صوتيّةٍ أوضحُ ممّا يَظهرُ في النّثرِ مُصادفةً واتّفاقًا مِن غيْرِ غرضٍ، وهي أغنى بالصّورِ، وأكثرُ عناية بجماليّةِ العبارة، وقد تكونُ القصيدةُ مِن حيثُ الطّول مساويةً للقصيدة الغنائيّة، لكنّها على الأرجح لا تتجاوَزُ ذلك، وإلّا احتُسِبتْ في النّثرِ الشّعريّ(5). وسنرى أنّ تلكَ الخصائصِ توفّرَتْ في ديوان شاعرتِنا الثّاني "سلامي لكَ مطرًا"، وسوفَ ندخلُ عالمَ قصائدِهِ، ونُلقي على بعضِها إضاءاتٍ نقديّةً. 
ثانيًا: التّحليلُ الأدبيّ: السّلامُ هو التّحيّةُ في جميع الأديانِ السّماويّةِ، والسّلامُ هو المنشودُ الّذي تَنشدُهُ وتتمنّاهُ البّشريّةُ والإنسانيّة، والـمطرُ هو الخيرُ والبَرَكةُ والخصْبُ والازدهارُ والحُبُّ والطمأنينة. وعنوانُ الكتابِ مأخوذٌ مِن إحدى قصائدِ الكتابِ نفسِه.(6).
والعنوانُ مُكوّنٌ مِن جُملةٍ اسميّةٍ؛ سلامي: المبتدأ، وهو مضاف، وياء المتكلم في محلّ جرّ مضاف إليه، و"لك" شبه الجملةِ في محلّ رفع خبر للمبتدأ، و"مطرًا": تمييز منصوب.  
ولْنُدقّقْ في العنوانِ مرّةً أخرى، بعدَ أن نستجليَ معاني السّلام، و"السَّلَام: اسمٌ مِن أَسمائِهِ تعالَى، والسَّلَام التّسليم، والسَّلَام التّحِيَّة عند المسلمين. والسَّلَام السّلامةُ والبراءةُ مِن العيوبِ، والسَّلَام الأَمان، والسَّلَام الصُّلْحُ، والسَّلَام النّشيدُ الوطنيُّ الرّسميّ. والسَّلَام ضربٌ مِن الشّجر. ودارُ السَّلامِ: الجنّة. ومنهُ في التّنزيلِ العزيز:  (لَهُمْ دارُ السَّلَامِ) الأنعام آية 127،  والسَّلَام بَغْدَاد.(7)   
والمعنى الّذي تومِئُ إليهِ الشّاعرةُ يتمثّلُ في السَّلام والأَمانِ والصُّلْحُ بينَ بَني البَشر، وليسَ الحربُ والقتلُ والتّدميرُ كما في شريعةِ الغاب، واختزلَتِ الشّاعرةُ فيما تريدُهُ في ثلاثِ كلماتٍ، راعَها القتلُ والتّدميرُ والتّخريبُ والتّنكيلُ فيما يَجري حولَها وفي العالَمِ، هالَها احتلالُ وطنٍ والتّنكيلُ بأهلِهِ، راعَها القسوةُ بينَ بني البَشر، أفجعَها تدميرُ بلدانِ كما العراق، وإرجاعِهِ للعصرِ الحجَريّ...
وفي العنوانِ يتجلّى السّؤالُ: لمَنِ السّلام؟ فالسّلامُ مُوجّهٌ إليكَ يا أخي في الإنسانيّةِ، ليسَ لأخِ الشّاعرةِ ولا لبنيها ولا لأبناءِ وطنِها فقط، بل للعالمِ بأسرِهِ، وهنا مَكمَنُ الإيجازِ، ونعني به: الكثافةُ في استخدامِ الّلفظِ سياقيًّا وتركيبيًّا، وهذا ما تَحقّقَ عندَ شاعرتِنا. 
تقولُ: في دُروبِنا العَتيقَةِ/ تُعَتِّقينَ خَواطِري فَرادَةً بِكِ/ إلامَ تَطْفو ذِكْراكِ عَلى وَجْهِ النِّسْيانِ؟/ بِغاباتِ فَرَحي المَنْذورِ لَكِ: صورةُ الشّاعرةِ وهي تتذكّرُ ما في خواطرِها، السّلامَ في بلدِها وما حولَها، سلامًا يحملُ في طيّاتهِ النّجابةَ والكرَمَ وسُمُوّ الرّوحِ والعتقِ، لكنّ ذاكرتَها لا تَلمَحُ ولا تتذكّرُ يومًا تنعمُ فيهِ بالأمنِ والسّلام، فهيَ بنتُ النّكبة. 
وتتزاحمُ الاستعاراتُ، تتعتّقُ الخواطرُ، ولها ذاكرةٌ تطفو كما الشّيءِ فوقَ الماءِ، والنّسيانُ تُصوّرُهُ الشّاعرةُ برَجُلٍ لهُ وجهٌ، وللفرحِ غاباتٌ تُقدّمُها الشّاعرةُ للعالمِ عندما يَحلُّ السّلام. 
تستخدمُ أسلوبَ النّداءِ، فهي تُنادي خواطرَها، وحرفُ النّداءِ محذوفٌ، والنّداءُ يُفيدُ التّعجّبَ مِن بُعدِ تحقيقِ السّلام، أو التّمنّي بحصولِ السّلام، لكن هيهات أنْ يَحُلَّ، كلُّهُ صاغتْهُ بعاطفةٍ صادقةٍ، واتّحدَ الشّكلُ معَ المضمونِ، فتقولُ: تَتَسَوَّلُكِ أَنْهارُ حُزْني ../ ظِلالَ بَسْمَةٍ تَدْمَعُ بِكِ/ لِتَرْسُوَ مَراكِبُ ذُهولي المَحْمومِ/ عَلى/ صَفَحاتِ لَيْلِكِ المائِجِ
لكلمةِ "تسوُّل" معنيان: معنى مُعجميٍّ يُفيدُ الاسترخاءَ، فنقولُ: تَسوّلَ البطنُ: أي؛ استرخى، لكنّ هذا المعنى تطوّرتْ دلالتُهُ ليُصبحَ بمعنى: سأَلَ واستعطى. 
وهذهِ السّطورُ تتزاحمُ بالاستعاراتِ والكناياتِ، وهو ما يُعرَفُ بالانزياح والتّوسُّعِ الّلغويّ، فأنهارُ أحزانِ الشّاعرةِ تتوسّلُ وتستجدي ليسَ بسمةً، بل ظلّها، أو إن شئتَ قلتَ رائحةَ البسمةِ، وتريدُ الشّاعرةُ أن ترى إطلالةَ السّلام؛ لتتوقّفَ مَراكبُ الشّاعرةِ المَذهولةِ، مِن وقْعِ ما تُحدثُهُ الحروبُ والويلاتُ، مِن مآسٍ، وفواجعَ، وغيابٍ للسّلمِ والسّلام. 
فللأحزانِ أنهارٌ تتوسّلُ، وللبسمةِ ظِلالٌ كما الشّجر، وللبسمةِ دموعُ الفرحِ ترحيبًا بالسّلامِ البَعيدِ المنشودِ، وللذُّهولِ مَراكبُ، وللّيلِ صفحاتٌ كما الكتابُ: كنايةً عن الدّمارِ والخراب، فهو مائجٌ كما البحر.
 وإذا كانَ حجازي قد ركّزَ على الذّاتِ، فإنّهُ لم يُهمِلْ دوْرَ الّلغةِ في عمليّةِ التّحويل، لأنّ الشِّعرَ عندَهُ عملٌ فنّيٌّ يتميّزُ بلغةٍ تتّفقُ في جوانبَ معَ لغةِ الحياةِ اليوميّةِ، لكنّها تختلفُ عنها بأبنيتِها، وإيقاعِها، وما تَحملُهُ مِن رموزٍ وإشاراتٍ، وهي تكشِفُ رؤيةً داخليّةً لا يُمكنُ تَصوُّرَها خارجَ العملِ الفنّيِّ ذاتِهِ.(8).
وتَختتمُ الشاعرةُ هذا المقطعَ بالانتقالِ للأسلوبِ الإنشائيّ فتقولُ: أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ/ في شِتاءاتِ الخَطايا؟/ سَرْبِليني بِمِعْطَفِ عَطْفِكِ الآسِرِ/ لأُطفِئَ بَرْدَ الأَوْهامِ.
ففي السّطرِ الأوّلِ خرجَ النّداءُ عن معناهُ الحقيقيُّ؛ ليُفيدَ التّمنّي بتحقيقِ السّلام، وفي السّطرِ الثالثِ استخدَمَتِ الأمْرَ؛ ليُفيدَ التّمنّي، ليَتحقّقَ السّلامُ وتنزاحُ الأوهامُ. 
وفي السّطرِ الثّالثِ تَجانُسٌ في الحُروفِ؛ لتَحقيقِ الإيقاعِ الصّوتيّ كما في لفظتَيْ: مِعْطَفِ عَطْفِكِ. 
(أَتُراني أَسْتَجْدي دَمْعَةً عَذْراءَ): كنايةً عن إلحاحِ الشّاعرةِ ليَحُلَّ السّلامُ.
(في شِتاءاتِ الخَطايا؟): كنايةً عن الذّبحِ والتّدميرِ الّذي يَحصلُ في العالم؛ نتيجةَ غيابِ الأمنِ والسّلامِ، فشاعرتُنا تَستجدي باكيةً بدموعِها البريئةِ أن يَعُمَّ السّلامُ في بلادِ الله؛ في حومةِ انتشارِ التّدميرِ والتّخريبِ. 
وتستخدمُ الشّاعرةُ أسلوبَ النّداءِ الّذي يُفيدُ الأسى والتّحسُّر، وتنتقلُ لأسلوبِ الأمْر، "سَربليني"؛ لتُجَسِّمَ وقْعَ هوْلِ المأساة.
يا مَنْ تَرْتَسِمينَ بَتولاً في أيْقونَةِ الطَّهارَةِ/ لَوْحَةً سَماوِيَّةً تُشْرِقينَ/ عَلى/ تِلالِ ذِكْرَياتي/ لأَظَلَّ ضَميرَكِ اليَسْتَتِرُ/ خَلْفَ جِبالِ صَمْتِكِ.
وتُنادي الشّاعرةُ مُناجيةً دموعَها وأحزانَها الطّاهرةَ البتولَ مريم، مُتمنّيةً تحقيقَ السّلام، وتلجأ الشّاعرةُ للانزياحِ، باستخدامِها الاستعاراتِ والكنايات والتّجسيم والتّشخيص: فالدّمعةُ كما المرأة البتول، ترتَسِمُ كما اللوحة السّماويّة المُشرقة، وللذّكرياتِ تلالٌ، وللصّمتِ جبالٌ، وهنا مواءَمةٌ بين لفظتَيْ: "تلال" وَ "جبال" وتقولُ: عَلى/ شَواطِئِ العَتْمَةِ/ يَدْرُجُ نَوْمُكِ اليَتَّكِئُ/ عَلى/ عُكّازِ صَحْوَتي/ وَفي إغْماءَةٍ شَهِيَّةٍ/ يَشُدُّني حُنُوًّا/ إلى صَدْرِ غَفْوَةٍ سِحْرِيَّةٍ
وما شدّني في هذا المَقطعِ والمَقطعِ السّابقِ كلمتَيْ: "اليَسْتَتِرُ" وَ "اليَتَّكِئُ"، ففيهِما اختراقٌ تركيبيٌّ عن طريقِ الحذفِ، وتقديرُ كلّ: الّذي يَستَتِرُ، والّذي يتّكئُ.
والشِّعرُ لهُ لغتُهُ الخاصّةُ به، وإنّ الحُكمَ على لغةِ الشِّعرِ ينبغي أن يَنبثقَ مِن إدراكٍ لطبيعةِ هذه الّلغة، دونما تحكيمٍ لمعاييرِ لغةِ الكلامِ العاديّ، لأنّ مثلَ هذا الحُكمِ يؤدّي إلى أن تفقدَ الّلغةُ الشِّعريّةُ كثيرًا مِن سماتِها(9). 
تقولُ الشّاعرةُ: "شواطئ العتمة"؛ كلمتانِ قصيرتانِ ومعناهُما كبيرٌ جدًّا، فهذهِ هي الكثافةُ الشِّعريّةُ والتّوهُّجُ العاطفيُّ، الّتي لا يُتقنُهُما إلّا الشّاعرُ الّذي مَلَكَ ناصيةَ الشِّعرِ، ففي العبارةِ كنايةً عن غيابِ الأمنِ والسِّلمِ العالميّ، وللعتمةِ شواطئُ كما البحر، والبحرُ ذو لجّةٍ وصعبٌ ركوبُهُ، عباراتٌ موحِيةٌ، والإيحاءُ فيهِ التّلميحُ، وهو أبلغُ مِنَ التّصريحِ، ووقْعُهُ في النّفسِ أعمقُ على طريقةِ الرّمزيّينَ.  
والنّومُ يتكئُ على عكّازة الشّاعرة، والشّاعرةُ مُغمًى عليها، هروبًا مِنَ الواقع وتشتهي ذلك؛ لهَوْلِ ما ترى مِن كوارثَ، ولا تَستطيعُ الوقوفَ على قدمَيْها، تستعينُ بعكّازتِها مِن هوْلِ ما ترى، ومِن فواجع ما تسمَعُ. 
تَشعرُ بحلاوةِ الغفوةِ، كما تشعرُ بشهوةِ الإغماءِ، فلم تَعُدْ قادرةً على أنْ تعيشَ الواقعَ المُرَّ، واقعَ شريعةِ الغابِ، يا لَها مِن شاعرة! ويا لحلاوةِ ألفاظِها! روعةٌ في التّعبيرِ، وجَمالٌ في التّصوير، ودَفْقُ عواطفَ تَخلِبُ الألبابَ وتأسرُ العقولَ، فالنّومُ يتّكئُ على عكّازةِ الصّحوة، وللإغماءِ شهوةٌ، وللغفلةِ صدرٌ وسِحرٌ. 
أنا مَنْ أَثْمَلَني السَّهَرُ/ ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ/ في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ/ لكِنّي.. أَصْحو/ لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ/ يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ/ يَتَمَطّى مُتَثائِبًا/ في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ.
وتُتابعُ شاعرتُنا نصَّها بالأسلوبِ الخبَريِّ، تقديرًا وحُبًّا في إحلالِ السّلامِ والسِّلمِ العالميّ، فلقدْ أحبّ السّهرُ شاعرتَنا ومالَ إليها، لكثرةِ سهرِها وهي تترقّبُ مجيءَ السّلامِ في أرضِ السّلامِ، وهي لن تكُفَّ عن مَطلبِها، وهي ليستْ في عجلةٍ مِن أمرِها ولن تجزعَ، تترقّبُ أن يَبزُغَ فجرُ السّلامِ، وتُريدُ ممّنْ يتفوّهُ بالسّلام أنْ يُحقّقَ السّلام، وألّا يَسلُكَ مَسالِكَ ضبابيّةٍ. والنّصُّ حافلٌ بالكِناياتِ والاستعاراتِ، ومِن أساليبِ الانزياحِ ممّا يُحقّقُ الجَمالَ الشِّعريّ:  
"ظَنَنْتُني كَفَفْتُ عَنِ المَشْيِ": كنايةً عن إصرارِ الشّاعرةِ بمُطالبتِها بتحقيقِ السِّلم والسّلام.
"في تُؤْدَةِ أُسْطورَتِكِ: كنايةً عن صبْرِها، وهي تنتظرُ السّلامَ.
لأَضْبِطَ خَيْطَ فَجْرِكِ: شبّهَتِ الفجرَ بنسيجٍ أو بثوبٍ لهُ خطوطٌ، والفجرُ: كنايةً عن إطلالةِ السّلام.
"يَتَلَصَّصُ في امْتِدادِهِ": كنايةً عنْ وجودِ إشاراتٍ خفيّةٍ بتحقيقِ السّلامِ. "يَتَمَطّى مُتَثائِبًا": شبّهَتِ الفجرَ بإنسانٍ يَتثاءَبُ ويتمطّى، وكلمَتَيْ (يتمطّى وَيتلصّصُ) جاءتا على نفسِ الوزنِ، لخلْقِ إيقاعٍ جميلٍ، وفيهِما إيحاءٌ يُلمِّحُ على أنّ السّلامَ بعيدُ المَنالِ، ولا يَجدُ مَنْ يَدعو لتحقيقِهِ فِعلًا، مِن أصحابِ المَصالحِ المُتنَفِّذينَ بالقوّة، والمُتسلِّحينَ برأسِ المالِ.
"في ذاكِرَةٍ مَحْشُوَّةٍ بِضَبابِكِ": كنايةً عنْ ضبابيّةٍ في إحلالِ السِّلمِ والسّلامِ العالميِّ.  فلُغةُ الكَلامِ اليوميِّ تَهدفُ فيما تَهدفُ إليهِ، الإفهامَ والتّوصيلَ، ولا تَستخدِمُ مِن عناصرِ النّظامِ الّلغويّ إلّا القدْرَ الضّروريّ الّذي يُحقّقُ لها هدفَها، في حين أنّ الّلغةَ في الأدبِ تتجاوزُ تلكَ المُهمّةِ، إلى تحقيقِ مُواصفاتٍ جَماليّةٍ(10).   
عَلى/ مَوائِدي التَزْدَحِمُ/ بِرَقائِقِ بَسْمَتِكِ الشَّقِيَّةِ/ بِفَطائِرِ حُبِّكِ المَعْسولَةِ/ أَأَقْتَرِعُ.. عَلى/ كِ سْ رَ ةٍ/ مِنْ خُبْزِ نُعاسِكِ؟/ أَأُقامِرُ على/ نَ غْ مَ ةٍ/ مِنْ ماءِ هَذَيانِكِ؟/ أَتُبَعْثِريني بِـ/ حَ فْ نَ ةٍ/ مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟
المُنتصِرونَ على الإنسانيّةِ المُعذّبةِ: وتتساءَلُ الشّاعرةُ مُخاطِبةً طُغاةَ العالَمِ، والّذينَ يَستوْلونَ على ثرواتِ الشّعوبِ المَغلوبةِ على أمْرِها: أيُرضيني فتاتُ مائدتِكَ المَجبولةِ بعرَقِ إهانتي واستهتارِكَ، وماكينةُ إعلامِكَ المُزيّفةُ أيّها المُتغطرسُ بقوّتِكَ؟ فكلامُكَ غيرُ أفعالِكَ. 
"أأقامِرُ على نغمَةٍ مِنْ مَاءِ هذَيانِكِ"، وَ "أَتُبَعْثِرينَني بِـ/ حَ فْ نَ ةٍ/ مِنْ خَميرَةِ أشْعارِكِ؟": كنايةً  في كلٍّ، عن رفْضِ الشّاعرةِ تصديقَ ادّعاءاتِ طغاةِ العالَمِ بتَشدُّقِهم بالسّلام. والاستفهامُ يُفيدُ النّفيَ والاستنكارَ.
مَعْصِيَتي النَّقِيَّة!/ مَذاقُ الدَّهْشَةِ كافِرٌ/ يُعَرْبِدُ فارِعًا بِكِ/ فارِغًا إِلّا مِنْكِ/ يُعاكِسُ خُطى صَمْتِكِ/ في مَرايا غُموضِكِ.  
مُشكلةُ المُعذَّبينَ في الأرضِ، أنّ أقوالَ ووعودَ طُغاةِ العالَمِ بمساعدَتِهم للضّعفاءِ تنطلي عليهِم ويُصدّقونَها، لنقاءِ نفوسِهِم، ولغةُ طغاةِ العالمِ تَحتمِلُ المعنى وضِدّهُ، هي المُراوَغةُ بعيْنِها.  
وكلمتا: "فارِعًا" وَ "فارِغًا"، فيهِما جناسٌ غيرُ تامٍّ، يُولّدُ إيقاعًا"، وهُما مِن صيغةٍ واحدةٍ؛ "اسمُ فاعل" وعلى وزنٍ واحدٍ، وكذلكَ التّقفيةُ في كلمَتَيْ: "صَمْتِكِ" وَ "غُموضِكِ": انتهَتْ في كِلا الّلفظتَيْنِ بصوْتِ الكافِ، "إلّا أنّ هذا يجبُ أنْ لا يُوهِمَ بوصْفِ الإيقاعِ على أنّهُ مُجرّدُ وسيلةِ إطرابٍ، أو استجابةٍ لحاجةٍ نفسيّةٍ صرف، فهو "ذو قيمةٍ خاصّةٍ مِن حيثُ المعاني الّتي يُوحَى بها. وإذا كانَ الفنُّ تعبيرًا إيحائيًّا عن معانٍ تَفوقُ المعنى الظّاهرِ، فالإيقاعُ وسيلةٌ هامّةٌ مِن وسائلِ هذا التّعبيرِ، لأنّهُ لغةُ التّواترِ والانفعالِ"(11).  
إنّ النّصَّ الشِّعريَّ ما هو إلّا "جملةً طويلةً مُركّبةً، والّذي يُميّزُها عن الكلامِ العاديّ هو كيفيّةُ تنظيمِ وحداتِها الّلغويّة"(12). هذا التّمييزُ يَتِمُّ بواسطةِ التّركيبِ، فلا "يَخفى على أحدٍ مِنَ المَعنِيّينَ بقضايا الشِّعرِ، أنّ روحَهُ الفنّيّةَ كامنةٌ في تَركيبِهِ الّلغويّ"(13).  
أَيَّتُها الغابَةُ التَتْرَعينَ بِوَحْشِيَّةِ الجَمالِ/ إلامَ يَظَلُّ يَفْتَرِسُني ضِياؤُكِ الشّرِسُ؟/ إلامَ تَظَلُّ تُلَوِّنُني رائِحَةُ عَتْمَتِكِ الوَضّاءَةِ؟ 
الّلغةُ الشِّعريّةُ أحيانًا "لا تَستجيبُ– في كلِّ حينٍ– لمَعاييرِ القياسِ الّلغويّ، الموصوفِ في كُتبِ الّلغةِ والنّحوِ المَضبوطةِ والمَوزونةِ بالقواعدِ الصّرفيّةِ والنّحويّةِ المَعروفة، وتعملُ الّلغةُ ضمنَ الاستخدامِ الكَلاميِّ العاديّ، على تأكيدِ طبيعتِها المُنتظَمةِ، في حينٍ يَقومُ الاستخدامُ الشِّعريُ على كسْرِ ذلكَ الانتظامَ، فلا يُصبحُ لِلُّغةِ في النّصِّ الشّعريِّ أيّةَ علاقةٍ ثابتةٍ تَحفظُ وجودَها المُنتظَمَ، على الرّغمِ مِن أنّ النّصَّ الشِّعريَّ "في حالةِ تَشَكُّلِهِ، يَخضعُ لقوانينِ الّلغةِ العاديّةِ.. يُشكِّلُ في ذاتِهِ لغةً جديدةً، بقدْرِ ما يَخلقُ أشياءَ يُقيمُ بينَها علاقاتٍ معيَنةً"(15). 
يا مَنْ/ عَلى/ عَتَباتِ خافِقي المَهْجورِ/ تَنْبُتينَ أَشْجارَ زينَةٍ/ تَفوحُ بِزَهْرِ صَوْتِكِ/ يَزْدانُ بِكِ فِرْدَوْسُ نِداءاتي/ أَتَقولينَ:/ سَلامي لَكَ َمطَرًا!؟  
 وخاتمةُ هذا المَقطعِ "سَلامي لَكَ مطَرًا!"، هو البُنيةُ الأساسيّةُ للنّصِّ،" والاستفهامُ في "أتَقولينَ" يُفيدُ التّعجُّبَ مِن بُعدِنا عن السّلامِ وتَحقيقِهِ، بيْدَ أنَّ النّصَّ الشِّعريَّ يُمكنُ أنْ يَصهَرَ في بوْتقتِهِ أكثرَ مِنْ تَقنِيّةٍ فنّيّةٍ تنتمي إلى أجناسٍ أدبيّةٍ أخرى، ومنها التّقنيّةُ السّرديّةُ عامّةً، أو أحَدُ أدواتِها الفنّيّةِ، وأعني بهِ الحوارَ حيثُ يُطوِّعُهُ الشّاعرُ، وحسبَ السِّياقِ الشِّعريِّ للنّصِّ- ويُفيدُ مِنْ إمكاناتِهِ وآليّاتِهِ، ويُوَجِّهُهُ الوجهةَ الّتي مِن شأنِها أنْ تنعكسَ على معمارِ القصيدةِ، وتَهَبَها القدرةَ على التّشويقِ والنّفاذِ إلى قلبِ المُتلقّي وفِكرهِ. 
وعندَ شاعرتِنا، فإنّ "الشِّعرَ الحقيقيَّ ما كانَ نتيجةً لِتَجربةٍ شعوريَّةٍ صادِقةٍ، مُنبثقةٍ عن تَوَتُّرٍ نفسيٍّ مُتَأجِّجٍ، تُحرِّكُهُ خلجاتُ النّفسِ وانفعالُها بِمَشهدٍ معُيّنٍ، ولَعَلَّ هذا التَّوَتُّرَ النّفسيَّ أضحى في زمانِنا أكثرَ وهجًا، وأعظمَ تأجُّجًا، فالشّاعرُ الرِّساليُّ المُعاصِرُ، يُؤلِمُهُ ما يرى عليهِ مُجتمعُهُ مِن سُلُوكاتٍ وأخلاقٍ، تَتَنَافَى معَ عقيدتِهِ ومبادئِهِ، فتراهُ غيرَ راضٍ ولا مُطمئنٍّ، تَحُزُّ في نفسِهِ هذهِ المَشاهدُ المُؤْلِمةُ، وتُؤْرّقُهُ هذهِ المَظاهرُ السَّقيمةُ، حتّى "أصبحَ فريسةَ ضغوطٍ هائلةٍ لا تُطَاقُ، تَنْصَبُّ عليهِ مِن كُلِّ مكانٍ"[16].
سَلامُكِ!/ تَصْدَحُ بِهِ حورِيّاتُ النُّجومِ/ في سُهولِ لَيْلي/ لِتَحْتَفِيَ بِأَعْراسِ حُزْني/ سَلامُكِ!/ يَبُثُّ احْتِراقَ عُيوني/ بِعُذوبَةٍ مُتَوَحِّشَةٍ/ بِلُغَةٍ خُرافِيَّةٍ/ تُضيئينَ تَثاؤُبَ وَهْمي/ بِنورِ غُيومِكِ/ يُثَرْثِرُ قُزَحُ نَبْضي/ وَبِفِرْشايَةِ أنْغامِكِ أَذوبُ موسيقا/ تَتَلَوَّنُ في مَفاتيحِ البَوْحِ.
وتبدأ الشّاعرةُ هذا المَقطعَ والمَقطعَ الّذي سبَقَهُ بقوْلِها: "سلامُكِ"، وهو مُنادى يُفيدُ التّعجُّبَ، وحرْفُ النّداءِ محذوفٌ، وتُبيِّنُ الشّاعرةُ مُتعجِّبةً، مِن  أنَّ السّلامَ الّذي يُنادي بهِ طغاةُ العالَمِ، والّذي تَصدَحُ بهِ حوريّاتُ النّجومِ ما هو إلّا وهْمٌ وخِداعٌ يَختفي في سهولِ ليلِ الشّاعرةِ، ويَبُثُّ الحُرقةَ بوحشيّةٍ في عينيْها، والتّكرارُ جاءَ لتوليدِ الإيقاعِ، ولتأكيدِ معنًى يُفيدُ مُراوَغةَ طغاةِ العالمِ في إحلالِهم للسّلام، ومَقاطعُ القصيدةِ حافلةٌ بالصُّوَرِ الفنّيّةِ، والاستعاراتِ، والكناياتِ، والمَجازِ، وهو يَندرجُ كلُّهُ في مَصبِّ التّحوّلِ، والانزياحِ، وخلْقِ حالةٍ جَماليّةٍ في النّصّ: فللنُّجومِ حوريّاتٌ تصْدَحُ كما للبحرِ، وفي العذوبةِ تَوحُّشٌ، وللخرافةِ لغةٌ، وللغيومِ نورٌ، وللأنغامِ فرشاةٌ، وللموسيقى مفاتيحُ تتلوّنُ.
تُمْطِرينَ سَلامَكِ/ فَيْضَ روحٍ/ عَلى/ روحي/ وَسَلامي ظامِئٌ/ يَرْتَشِفُ طَلَّ فَجْرِكِ/ يَتَرَدَّدُ صَدى مَلَكوتِكِ/ وَلَهًا.. حَنانًا../ وتخشعُ سَمائي مَزْهُوَّةً/ بِتَسابيح نَوافيرِ أنْفاسِكِ: والشّاعرةُ توّاقةٌ للسّلامِ، تُريدُهُ مطرًا وخيرًا يُشفي غليلَ روحِها، واستخدَمتْ أفعالَ المضارعةِ في هذا المَقطع، لبَثِّ الحيويّةِ، والنّشاطِ، وخلْقِ حالةٍ مِنَ الاستمراريّةِ. "فالشِّعرُ" لغةُ النّفسِ بكلِّ ما في النّفسِ مِن تَوتُّرٍ وانفعالٍ، في حينٍ أنّ لغةَ النّثرِ أقربُ إلى برودِ العقل".(17).
 وإنّ الشِّعرَ على حدِّ تعبيرِ – بول فاليري – (لغةٌ داخلَ لغةٍ)(18). ولقدْ أجادتْ شاعرتُنا في نصِّها هذا، مُلِحَّةً على طلبِ السّلمِ والسّلامِ ومُنادِيَةً بهِ، فهيَ مؤمنةٌ بما جاءتْ بهِ الدّياناتُ السّماويّةُ الّتي جاءتْ مِنْ أجلِ خيْرِ البّشريّةِ وأمْنِها وسلامتِها، "فلفْظُ السّلام" في القرآنِ الكريمِ: ورَدَ في أربعٍ وأربعينَ آيةً. 
قالَ اللهُ تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمِ}. 
وإنجيلُ المسيحِ هو رسالةُ سَلامٍ مِنَ اللهِ للإنسانِ. (لوقا 2: 14)، فهوُ "الكلمةُ الّتي أرسَلَها.. يُبشِّرُ بالسّلامِ بيسوعَ المَسيحِ. هذا هو ربُّ الكُلِّ" (أع 10: 36). وقد صارَ "لنا سلامٌ معَ اللهِ بربِّنا يسوعَ المَسيح". (رو 5: 1). ومَن يُنادونَ بالإنجيلِ إنّما يُبَشِّرونَ بالسّلامِ وبالخيراتِ (رو 10: 15). 
وشاعرتُنا آمال عوّاد رضوان إنسانيّةٌ في فِكرِها وطرْحِها، فهيَ تَنطلِقُ في إبداعِها مِنْ منظورٍ إنسانيٍّ رحْبٍ، مَنبعُهُ قِيمُها العليا، ومِن مبادئِها المُثلى، ومِن منظومتِها الأخلاقيّةِ السّاميةِ، المُتمثّلةِ في الحقِّ، والخيْرِ، والجَمالِ، والعدالةِ، والحُرّيّةِ، مُنَفِّرَةً مِنَ القهرِ والظّلمِ الّذي اكتوَتْ بهِما روحُها، مُعبِّرةً عن أحاسيسِها برموزٍ فنّيّةٍ وإبداعاتٍ شِعريّةٍ. فهي لا تُريدُ السّلامَ فقط لنفسِها، ولا لعشيرتِها، ولا لوطنِها فقط، بل تريدُهُ للعالمِ أجمع بغضِّ النّظرِ عن العِرْقِ، أو الجنسِ، أو الدّين، أو الّلونِ، وهذا شِعرٌ إنسانيٌّ خالدٌ جديرٌ بالبقاء. 
الهوامش:   
1. جريدة السفير 9/6/2006، أحمد يزن. 
 2.المصدر نفسه، السفير 9/6/2006 محمّد بنّيس
3. سوزان برنار: ( جماليّة قصيدة النّثر، قصيدة النّثر من بودلير إلى أيّامنا)، ترجمة د. زهير مجيد مغامس، مطبعة الفنون، بغداد، ص 16.‏  
4. قصيدةُ النّثرِ المفهوم والجَماليّات- مقال دكتور مصطفى عطيّة جمعة،  
http://dvd4arab.maktoob.com/f20/1504189.html 
5. انظر: رشيد يحياوي: قصيدة النثر ومغالطات التعريف، علامات، م8، حـ32، أيّار 1999، ص56.  
6. ديوان سلامي لك مطرا، آمال عوّاد رضوان، من ص 35 - ص 41، دار الزاهرة للنشر والتوزيع، المركز الثقافي الفلسطينيّ- بيت الشّعر، رام الله – فلسطين 2007. 
7. المعجم الوسيط، إبراهيم أنيس ورفاقه، ص471، ط2، القاهرة 
وانظر مختار الصحاح، الرازي311، دار الفكر العربي، بيروت 1973 
8. حديث الثلاثاء: أحمد عبد المعطي حجازي (ج2) دار المريخ للنشر والتوزيع  دار الرياض  1988. 
9. ينظر: الّلغة المعياريّة والّلغة الشّعريّة/ يان موكاروفسكي، ترجمة: ألفت كمال الروبي، فصول، ع1، مج5، ص 45، 1984 . 
10. نظرية اللغة في النقد الأدبي /عبد الحكيم راضي: 28، مكتبة الخانجي، مصر، د.ت. 
11. روز غريب، تمهيد في النقد الأدبيّ: 110، دار المكشوف، ط1، 1871، بيروت.
12. أثر الّلسانيّات في النّقدِ الأدبيّ/ توفيق الزيدي: 73. 
14. الضرورة الشّعريّة: 17 ومفهوم الانزياح/ أحمد محمّد ويس، ص، التراث العربيّ، ع68، 1997.  
15. الّلغةُ الشّعريّة، دراسة في شعر حميد سعيد/ محمّد كتوني: 25 . 
16. صحيفة 26 سبتمبر، ص6، الاثنين 11/3/2013
17. الضرورة الشعريّة ومفهوم الانزياح/ أحمد محمّد ويس، التراث العربيّ، ع68، 1997: ص117 
18. بنية الّلغة الشّعريّة، جان كوهن ص، 129 ترجمة: محمّد الوالي ومحمّد العمري، دار توبقال للنشر، ط1، 1986م . 

اللاقرار الفلسطيني/ نقولا ناصر

(التطورات الايجابية لصالح القضية الوطنية الفلسطينية على الصعيد الدولي ما زالت تفتقد قرارا فلسطينيا على الأرض يردفها ويطورها، لكن "اللاقرار" ما زال يحكم صانع القرار الفلسطيني)

في الخامس عشر من الشهر الجاري، قال وزير الحرب في دولة الاحتلال الإسرائيلي موشى يعلون (إسرائيل هايوم) إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس "شريك لإدارة الصراع" وليس شريكا للسلام. والبيان الختامي للدورة العادية الرابعة عشرة للمجلس الثوري لحركة فتح يوم الإثنين الماضي لا يترك للمراقب مجالا لغير الاستنتاج بأن يعلون لم يجانبه الصواب، إذ لم تتمخض ثلاثة أيام من انعقاد المجلس عن أي منعطف سياسي حقيقي، بل أكدت استمرارية استراتيجية يكاد يوجد إجماع وطني وشعبي على الإسراع في الافتراق عنها.

فخلاصة التفويض الذي منحه المجلس لعباس يفوضه عمليا بالاستمرار في "إدارة الصراع" مع الاحتلال، في ما يوصف بأنه "اشتباك سياسي" ساحته دولية، بينما ما يزال واقع استفحال الاحتلال على الأرض، وأرض القدس بخاصة، ينتظر قيادة تقود مقاومة الاحتلال لا إدارة الصراع معه بعيدا عن الأرض التي يدور فوقها الصراع الحقيقي.

و"اللاقرار" و"إدارة الصراع" ليسا ظاهرة فلسطينية فقط بل دولية كذلك، فمجلس الشيوخ الإيرلندي ومجلس العموم البريطاني والسويد وغيرهم "يعترفون" بدولة فلسطين لكنهم لا "يلزمون" دولهم بهذا الاعتراف ليظل اعترافهم مثل اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة غير عضو فيها مجرد تطور ايجابي يمنح أملا خادعا للشعب الفلسطيني لا يغير شيئا في واقعه تحت الاحتلال أو في واقع الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

فالتطورات الايجابية لصالح القضية الوطنية الفلسطينية على الصعيد الدولي ما زالت تفتقد قرارا فلسطينيا على الأرض يردفها ويطورها، لكن "اللاقرار" ما زال يحكم صانع القرار الفلسطيني.

ويستحيل اتهام عباس وقيادت فتح بأنهم لا يدركون هذا الواقع. فبيان المجلس الثوري صدر عن دورة عنوانها "شهداء العدوان"، وشعارها "حماية الأقصى" و"إنجاز الاستقلال" وكلاهما مهمة استراتيجية تقتضي المقاومة لا "إدارة الصراع".

ووصف البيان الاحتلال بارتكاب "العدوان الوحشي" و"القتل الجماعي" و"التدمير الشامل" و"الحرب الشاملة"، وبأنه "جاوز أي قيم بشرية"، و"يحاكي الطريقة النازية"، وقال إن دولة الاحتلال تواصل "مخططاتها على الأرض" التي "تتجاوز عملية السلام" عبر "آلية إدارة الصراع" من خلال مفاوضات يدفع "الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي ثمنا كبيرا لاستمرارها دون نتائج".

وهذه جميعها مقدمات تقتضي بالتأكيد قرارا استراتيجيا يختلف عما خرج به المجلس الثوري لحركة فتح من تأييد استمرار الرئيس عباس في خطته لطرق أبواب مجتمع دولي يعرفون جميعهم بأن أبوابه موصدة ومفتاحها موجود في يد أميركية لم يسعفهم الرهان عليها طيلة السنوات الماضية، قرار لم تتخذه فتح بعد، ب"ثورة" تمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه المشروع، قانونا وشرعا وأخلاقيا وإنسانيا وسياسيا، في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل والأشكال، على اتساع الوطن والشعب، لا في "إدارة الصراع" معه.

ولم ترد كلمة "المقاومة" في البيان إلا في سياق سلبي وصفي تقريري، عندما حيا "المقاومة الشعبية" في القدس، وكبر "السلوك الوطني" في "مقاومة العدوان" الأخير على قطاع غزة، وطالب الدول العربية والإسلامية ب"دعم قدرة الفلسطينيين على ... المقاومة" التي لا تتوقف فتح وقياداتها عن التعهد بعدم خروجها على شروط اتفاق أوسلو التي أفرغتها من مضمونها.

لكن هذه المقدمات لم تقد مجلس فتح "الثوري" إلى الخروج ببيان يعلن فيه الثورة على الاحتلال ومقاومته، بل ببيان يفوض اللجنة المركزية للحركة بالاستمرار في استراتيجية لا يمكن وصفها في أفضل الأحوال إلا بكونها استراتيجية ل"إدارة صراع" يدعي يعلون أن عباس "شريك" فيها، أي أن "اللاقرار" كان هو القرار الذي اتخذته فتح.

ولا يمكن كذلك اتهام عباس وقيادات فتح بالبعد عن النبض الوطني الشعبي. فبيانهم، على سبيل المثال، أشاد "بالتعاطي الشعبي إلى مقاطعة منتجات الاحتلال"، لكنه استنكف عن دعم هذا "التعاطي الشعبي" بدعوة قاطعة إلى إلغاء كل التوكيلات والتراخيص الممنوحة لهذا الغرض من حكومة ووزارات "السلطة الفلسطينية" لاستيراد تلك المنتجات وتوزيعها فلسطينيا.

ودعوة البيان إلى "تطوير هبة القدس" الشعبية "بكافة السبل الممكنة" مثال آخر، لكنها دعوة استنكفت عن دعوة السلطة إلى إصدار أوامر لأجهزتها الأمنية بالتوقف عن عرقلة التواصل الشعبي مع هذه "الهبة" في الضفة الغربية.

وبينما أعلن الرئيس في المجلس أن قيادته "بصدد اتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة على الصعيد الدولي" لحماية المسجد الأقصى، وحذر المجلس في بيانه من أن أي إجراءات تتخذها دولة الاحتلال "لفرض التقسيم الزماني والمكاني في المسجد الأقصى ... ستفجر المنطقة بكاملها"، فإن المجلس بدأ دورته وأنهاها من دون اتخاذ أي قرار ملموس في هذا الصدد.

لكن خير مثال ل"اللاقرار" الذي قرره المجلس الثوري لفتح يتمثل في "تفويض اللجنة المركزية للحركة اتخاذ قرار بالتحلل من اتفاق اوسلو" بما في ذلك "وقف أي علاقة رسمية نتجت عن اتفاق أوسلو وكافة الالتزامات المترتبة عليه".

لقد وصف عضو مركزية فتح نبيل شعث "هذا القرار" بأنه "قرار المواجهة مع الاحتلال"، وذلك سوف يكون صحيحا لو اتخذ مثل هذا القرار فعلا، لكنه ما يزال قرارا في علم الغيب، بالنسبة لحركة فتح في الأقل، ناهيك عن حقيقة أن "المواجهة مع الاحتلال" التي أشار شعث إليها تقتضي مسارا وطنيا مختلفا جذريا لا تبدو في الأفق أي استعدادات أو تحضيرات له أو مؤشرات إليه لا من فتح ولا من قياداتها ولا من فصائل منظمة التحرير المؤتلفة معها.

قال أمين سر المجلس أمين مقبول إن هذا "التفويض هو تفويض بالتوقيت فقط وليس على المبدأ". لكن الحقيقة المرة هي أن المجلس الثوري قد استشعر الرفض الشعبي لاتفاقيات أوسلو التي كانت فتح وقيادتها ملتزمة بها من جانب واحد منذ توقيعها عام 1993، لكنه لم يصدر قرارا ملزما "بالتحلل" منها.

وترك "توقيت" القرار للرئاسة لا يبشر بأي "تحلل" منها في أي مدى منظور، في ضوء استراتيجية "إدارة الصراع" التي ما زالت الرئاسة تمارسها، وفي ضوء "لا قرارات" مماثلة سابقة للمجلس الثوري تُرك القرار فيها للجنة المركزية ورئاستها.

فعلى سبيل المثال قرر المجلس في دورته السابقة ترك توقيت قرار الانضمام إلى المعاهدات والمنظمات الدولية للجنة المركزية ورئيسها، وهما لم يتخذا هذا القرار حتى الآن، ومع أن المجلس في بيان دورته الجديدة أكد أن هذا "قرار سيادي فلسطيني يتوجب الشروع  فيه واستكمال إجراءاته قبل نهاية العام الجاري"، لم يصدر عنه ما يفيد بتحويل الوصف التقريري لهذه الحقيقة إلى قرار ملزم لرئاسة الحركة.

ولا تقتصر تناقضات المجلس في بيانه على ما تقدم، فتحذيره "من أن عدم اضطلاع مجلس الأمن (الدولي) بواجباته تجاه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي سيفتح المجال أمام إعلان نهاية عملية السلام" يتجاهل حقيقة أن ما كان يجري طوال العقدين المنصرمين من الزمن لا يعدو كونه عملية سلام من جانب فلسطيني واحد، مع أن رقص "التانغو" يحتاج إلى راقصين كما يقول المثل الغربي، ناهيك عن حقيقة أن كل "عملية اللاقرار" التي تمارسها فتح وقياداتها إنما تفوض قيادتها بمواصلة رقصها المنفرد، وحقيقة أن كل المؤشرات الصادرة عن هذه القيادة تشير فقط إلى إصرارها على الاستمرار في هذه الرقصة القاتلة وطنيا.

إن الضربات "الجوية" التي يوجهها تحالف "دولي – عربي" بقيادة أميركية إلى "الدولة الإسلامية" (داعش) في سوريا والعراق لم تمنعها حتى الآن من استمرار التوسع والتجنيد والقتال، ولأنها ضربات "من الجو" فحسب توقع الرئيس الأميركي باراك أوباما أن تستمر حرب التحالف عليها ثلاث سنوات وقال غيره إنها قد تمتد لثلاثين سنة.

والدرس واضح، فالحروب والمعارك تحسم على الأرض لا في الطائرات التي تحلق من محفل دولي إلى آخر، والمحافل الدولية لا تقرر إلا ما تعكسه موازين القوى على الأرض، وعلى الأرض الفلسطينية المحتلة ما زال الاحتلال وحده هو الذي يتخذ قرارات للتنفيذ، وما زال "اللاقرار الفلسطيني" يبحث "على الصعيد الدولي" عما يقرر حسما لن يتحقق على الأرض المحتلة من دون قرار فلسطيني بالعمل فوقها وتحتها وفي سمائها وعلى حدودها ومن جوارها أولا ... وأخيرا.

* كاتب عربي من فلسطين
* nassernicola@ymail.com

طـــــــلِّــــي قـــبـــــالـــــــي/ طوني حنَّا


حـــــــاجِــــــــه عـــايـــــش بـــالــتــعـــتــير
شـــي مَـــــــــــرَّه طـــــــلِّــــي قـــبـــــالـــــــي
بــْـــعــــمِّــــرلِـــــك بــيــتِك عـــــالشــــيـــر
وبْــــغــــطِّــــيــــكـــــي بـْــــمـــــــــوَّالــــــي.

عــــــــــــــــــم إنــــــدهـــــلِــــك ليل نْــهــار
وعْـــلـــــــيِّـــــــي مـــــــــــــــــا بِـــتْـــــــردِّي
وعْـــــرفْــــتـــيـــنـــي عليكي بْـــــغـــــــــــار
لـــيـــش بْــــعِــــدْتـــــــي هَـــــلــــــقَــــدِّي؟
قــــــولــيـــلـــي أيــــش اللـــي صـــــــــــــار
لـــــــمَّـــــــا ســــافـــــــــــرتــــــــــي مِـــدِّه؟
رْجـــعْـــتــــي عيونِك فيهن نــــــــــــــــــــار
وصــــــوتِـــــــك أعلى مـــــــــــــــن العالي.

طوني حنَّا (النسر)

الأختان البديعتان ريحان وفايا يونان تتوِّجان قلوبَ الأوطان بأصفى دموع الحنين/ صبري يوسف

ولدت فكرة أداء مجموعة أغاني للمبدعة ذات الصَّوت الملائكي السَّيدة فيروز، رسولة السَّلام في العالم، لدى كل من الصّحافية الرَّهيفة ريحان يونان وأختها المغنّية المتألِّقة فايا يونان، فخطَّطتا ببراعة فائقة على تنفيذ هذه الفكرة الحواريّة المدهشة لإخراجها بطريقة إنسيابيّة إلى النُّور، وقد تناولت الفكرة أشد المواضيع دقّة وأهمِّيّة في عالم الشَّرق المسترخي فوق أجيج النّار من كلِّ الجِّهات، كوارث متفاقمة ومترصرصة فوق رقاب البلاد والعباد، فلم تجد فايا وريحان أمام هذا الهول المستشري في بلادٍ معرَّشة في أوج الحضارات، أجدى من البحث عن مرامي السَّلام  والتَّحليق عالياً كأسراب الحمام فوق هامة هذه الأوطان المنكوبة من خلال مناجاة روح الوطن منبع الحرف الأوّل، والتَّشريع الأوَّل ومنبع أولى ملاحم الكون، عبر أربع أغانٍ من أغاني فيروز الَّتي غنَّتها للشام وبغداد وبيروت والقدس. 
اختارت الفنّانة البديعة فايا، "قرأتُ مجدك، بغداد، لبيروت، وزهرة المدائن!"، اختيارٌ موفَّق في الغناء وفي النّص الَّذي قدّمته ريحان، وتُعتبر هذه التَّجربة من التَّجارب الرَّائدة في تقديم نصٍّ تحليلي يعكس فهماً عميقاً لما يُحاك في هذه المدائن من خراب ودمارٍ وإقتتالٍ مريع من أطرافٍ متصارعة ومتحاربة من كل حدبٍ وصوب، فتمزّقت الأوطان إرباً من تفاقمِ تشظّيات جنون الصَّولجان، فراحت تركَّز فايا وريحان بشكلٍ  راقٍ على مواجهة كل هذا الدَّمار عبر أغانٍ جانحةٍ نحو أبجديات السَّلام على مساحات جغرافيّة المكان، السَّلام الَّذي أشتغل في رحابه منذ سنين، ممّا دعاني إلى تأسيس مجلّة السَّلام العالميّة، وأخاطب عبر مبدعيها والمشاركين فيها في رفع راية السَّلام عالياً في كلِّ بقاع الدُّنيا، فها أنا أرى فايا وريحان باقتا فرحٍ ترفرفان بكلِّ شموخٍ فوق أجنحة الوطن ترفعان راية السَّلام وأغصان الزّيتون تعانق هديل الحمام!
تألَّقت فايا وهم تغنّي "شآم"، بعد أنْ قدّمت ريحان تكثيفاً معبِّراً لما حلَّ بالوطن من دمارٍ مُشين على مدى سنوات، مذهولةٌ من كلِّ هذا الدَّمار الماحقِ في خاصراتِ الأوطان، وكأنَّ لغة الحكمة والحوار انقرضتا من أبجديات الحياة، زمنٌ مبرقعٌ بشراهاتِ خوضِ الحروب، فتهدّلت أخلاقيات قرونٍ من الزَّمان، حضور مدهش وتقديم أخّاذ يلخِّص جنون الشرق والغرب على حدٍّ سواء لما يُحاك من دمارٍ في أوطان من أعرق وأجمل الأوطان، سوريا مهد الحضارات وأم الإبداع، تزداد اشتعالاً وفتكاً وخراباً، شعرتُ وأنا أسمع كلَّ كلمةٍ تتلوها ريحان، كأنِّي أمام حالة إنسانيّة بديعة، قامة صحافيّة مضمّخة بحروف راقية في توجّهات أفكارها الخلاقة من خلال وقوفها مع فايا ذات الصَّوت الشّامخ في وجه كلّ هذا الدَّمار الَّذي خيّم على خدود الأوطان، ووقفتا بكلِّ صلابة وبهاء في وجه طغاة الكون وفي وجه كلّ الَّذين خرّبوا جمال وروعة الأوطان وحوَّلوها إلى خرائب تعشِّش فيها نعيق البوم ومخلّفات وحشة سوادِ الغُربان! 
فايا يونان، صوتٌ مبلسم بأشهى رحيق الإبداع، كأنّه مبلَّلٌ بأحلامِ طفولةٍ مخضّبةٍ باخضرارِ السَّنابل، مبهرة في بهائها وحضورها وصوتها الفيروزي المكتنز بإنسيابيّة دافئة، كأنّه شلال فرحٍ منبثقٍ من شموخِ الجِّبال المرتكزة على أسِّ الحضارات، عينان ناضحتان بحبور السَّلام والوئام، ممزوجتان بألمٍ وجراحٍ غائرة في أعماقِ مرافئ الرَّوح، توّاقتان لأغصان الزَّيتون المرفرفة في أوجِ بهاء زرقةِ السَّماء. 
تسمو فايا عالياً بصوتها المنساب ببهجة الإبتهال، وكأنَّها تناجي شموخ حضارة ساطعة هناك منذ آلاف السِّنين، ومذهولة بهذا الإنشراخِ المريعِ الّذي خلخل أجنحة الوطن من كلِّ الجِّهات. صوتٌ فيروزي معبّقٌ باخضرار سنابل الشَّمال، شمال الرُّوح والوطن المصلوب على مرآى من جفون العالم، فايا ابنة ديريك المجبولة بطين المحبّة، ابنة الأستاذ المهندس جان يونان، حيث طموحات عناق هلالات السَّماء تراوده منذ زمنٍ بعيد، ابنة الأستاذة ليلى جرجيس جمعة، رحلةٌ بحثٍ طويلة عن أريج هذه التَّجليات، جان وليلى يهديان لنا فايا غيمة مكلّلة بالمطر وريحان بيلسان معبّق بأغصان الزّيتون المرفرفة فوق جبين الوطن!
بغداد، تؤدّي فايا العنوان بألف ممدودة على مساحات الحنين، بصوتٍ ترتعش له الرُّوح، ثمَّ تبدأ ريحان بإستعراض جحيم البلاد المتحرّرة من أعتى الدِّيكتاتوريات، فلا تجد بعد التَّحرير سوى هولاً على هولٍ، وقمعاً وإقصاءاً وإنحداراً نحو مستنقعات لا تخطر على بال، تهجيرٌ وقتلٌ وإنقسامٌ وافتراسٌ أكثر وحشيّةً من أنيابٍ الضَّواري، مستهجنةً وقائع التّحرير لما آلت إليه الأوطان من دمارٍ ما بعده دمار، وكأنّها في إنتظار حمورابي أوِّل مشرّع منذ آلاف السّنين، كي يبثَّ روح تشريع أرقى القوانين في رحابِ بابل وآشور وسومر وأكّاد، متسائلةً، العراق بلد الحضارات، لماذا تغوص في دهاليزَ الجَّحيم، أين أنتَ يا سركون الأكّادي كي ترى ما أراه الآن؟!  
تتدفَّقُ فايا حضوراً ساطعاً كحنين خيوط الشَّمس وهي تناجي بغداد، كأنّها تتساءل في أعماقِ تجلِّياتها  أينَ أنتَ يا جلجامش كي تنقذ البلاد من جحيمِ الويلات، أين أنتَ كي تقدِّم لأمِّ الحضارات عشبة الخلاص في صباحٍ باكر مندَّى برحيق هلالاتِ نسيمِ الإنتعاش؟!
تزهو فايا وهي تغنِّي "لبيروت من قلبي سلام"، بكلِّ شموخٍ وفي أوجِ تجلِّياتها، بعد أن تستعرض ريحان جنون الحروب عبر عقودٍ من الزّمان، مندهشةً من استمراريّة جنون الحرب في أرض الجَّمال، في أرضٍ صدحَ فيها صوت فيروز مبدعة المبدعات على امتداد سنوات الحرب، كيف تتحمَّل بيروت كل هذه الجّراح المتهاطلة فوق هامات الجِّبال، فتدمع مآقي فيروز أسىً من تفاقمات جنون هذا الزَّمان؟! 
ينساب صوت مايا كأنّه تدفُّقاتُ حنينِ الرّوح لمناجاة أرواحنا المشرئبة في تشظِّيات الأنين، ألقٌ يزدادُ شموخاً كأشجار الأرز، صوتٌ مرسل من لدنِ زرقة السَّماء، يمنح قلوبَ الحزانى بَلْسماً شافٍ لإنعاش أنين القلب واشتعال الرُّوح من لظى هدير الطُّوفان، صوتٌ يتماهى مع آهاتٍ منبعثة من هياكل المعابد القديمة، كي تخفِّف من تفاقماتِ جراح الرُّوح، وتعيد بسمة الطُّفولة إلى ربوع لبنان في هذا الزَّمن الأحمق! 
فايا زهرة الزّهرات غنّت لزهرة المدائن، في منتهى الرَّوعة، وأدّتها بطريقة فيروزيّة راقية، بعد أن ولجت ريحان عميقاً في تلاشي جغرافيّة المكان، فأصبحت الأوطان هلاميّة الكيان، تشتعل ليل نهار، فتعبر فايا في قلب مدينة السَّلام صادحةً "عيوننا ترحل إليكِ كلّ يوم"، إنسجام بديع في توازي تجلِّيات صحفية بارعة مع صوتٍ يناجي براري الرُّوح العطشى لأجنحة اليمام. تراقصت روحي فرحاً وإنسابت عيناي دمعاً من بهجة شهقات الحنين، شعرتُ وأنا أسمعها كأنَّها تحلِّق في سماوات الوطن بجناحين مضمّخين بأرقى تجلِّيات الإبتهال، كأنّها تقول لكلِّ هؤلاء الَّذين أدّوا بالبلاد إلى كلِّ هذا الخراب وجنون العبور في أتون الحرب والاقتتال، لِمَ كل هذا الإنحدار نحو شراهات الدَّمار وإندلاعِ شفيرِ الغباءِ نحو أجيجِ النّارِ؟!
استهواني أن أتوقَّف مليَّاً عند هذه التّجربة الفنيّة الفكريّة الرَّائدة، لما تتضمّن من جنوحٍ كبير نحو هلالات السَّلام، هذا الجُّنوح الَّذي أشتغل عليه منذ سنوات وسنوات، فأحببت أن أرسم تقاطعات حنين الرُّوح إلى هكذا جنوح بديع نحو آفاق السَّلام والحبّ والفرح، لأنَّ الوطن يحتاج لهذا الجّنوح الخلاق نحو مرافئ السَّلام، ترفرف فوق ترابه كل الآمال والقلوب الجّانحة نحو بسمة الأطفال وهم يرفعون الحمائم كي ترفرف عالياً فوق قبّة الوطن!

صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
محرِّر مجلّة السَّلام

هوامش:
لبلادي، أغاني فيروزيّة ونصوص مكثَّفة بتحليل دقيق، غنّتها الشَّابّة المبدعة في ألقها وتألّقها الفنّانة فايا يونان، وقدّمت التَّعليقات أختها الصّحافية الرّهيفة ريحان يونان في ستوديو الفنّان جورج هيرابيديان في ستوكهولم، وتمّ نشر العمل بنجاح كبير عبر اليوتيوب خلال ثماني دقائق وبضع ثوانٍ. 
شارك في العمل كل من:
فكرة وتنفيذ فايا يونان وريحان يونان.
نص وتقديم: ريحان يونان
غناء فايا يونان
عزف وتوزيع رنا طوراني
تصوير نادين جزار 
مونتاج سامر وسطين
مساعد عام فؤاد يغمور

الأغاني للفنانة المبدعة السيّدة فيروز رسولة السَّلام في العالم،
قرأت مجدك، كلمات سعد عقل، ألحان الأخوين الرّحباني. بغداد، كلمات وألحان الأخوين الرّحباني، لبيروت، كلمات جوزيف حرب، ألحان يواخين روديغو، زهرة المدائن، كلمات وألحان الأخوين الرّحباني.

فلسطين وإزدواجية المعايير في الأمم المتحدة/ علي هويدي

بعد فشل عصبة الأمم في مهمتها الرئيسية في العام 1920 بالمحافظة على السلام العالمي، وعقب إنتهاء الحرب العالمية الثانية، والتسبب بمقتل وجرح وإعاقة وفقدان وتهجير مئات الملايين من المدنيين.. تداعى زعماء الدول الكبرى في العالم للقاءات متكررة تبحث في عدم تكرار تجارب الظلم والحروب والتدمير، وضرورة إحلال السلام بين الدول والشعوب؛ فكان أن أُنشِئت هيئة الأمم المتحدة يوم 24/11/1945، بإلتزام 51 بلداً بـ"حفظ السلام عن طريق التعاون الدولي والأمن الإجتماعي"، ويصل أعداد الدول الأعضاء حالياً 193 دولة، وتعتمد الهيئة ستة لغات لإجراءاتها وللتخاطب مع العالم، هي العربية والإنكليزية والفرنسية والصينية والروسية والإسبانية.

مع إنطلاف أعمال الهيئة في العام 1945، فإن أولى المهام التي أوكلت للأعضاء صياغة معاهدة تحفظ كرامة الإنسان بغض النظر عن اللون والجنس والعمر والمعتقد، فكان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 10/12/1948، ومعه من المفترض أن تبدأ مرحلة جديدة من نظام عالمي جديد يعتمد حقوق الإنسان مرجعاً للعلاقات بين الدول والشعوب، لا سيما وأن المادة السابعة من الإعلان العالمي تنص على أن "الكل متساوون أمام القانون ويتمتعون بحماية متساوية من قبل القانون بدون أي تمييز، وكذلك محميون بدون تمييز من مخالفات هذا الإعلان وكذلك من التعديات والتمييز".

رضخت الدول لتأثير اللوبي الصهيوني، ووقَعَت هيئة الأمم المتحدة بالخطأ القانوني الإستراتيجي الأول المتعلق بالقضية الفلسطينية، بأن نسخت وعد بلفور للعام 1917 مع وثائق وقرارات عصبة الأمم وقامت بضمه كجزء من شرعية وقرارات الهيئة حديثة الولادة، مع العلم بأن لا شرعية قانونية لوعد بلفور، فقد تم الوعد وفلسطين لا تزال محتلة من قبل بريطانيا، ووفقاً للقانون الدولي، لا يحق لدولة إحتلال أن تهدي من لا تملك لمن لا يستحق. 

خلال ثلاثة سنوات من التحضير والإعداد لإطلاق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والتوافق على مضامين وصياغة ثلاثين مادة، كانت الدول الكبرى تراقب وتضطلع على التقارير الدورية التي كانت تصلها تباعاً عما يجري للشعب الفلسطيني في فلسطين، ومن المذابح التي كانت ترتكبها العصابات الصهيونية، وسياسة التطهير العرقي والتهجير والطرد والإبعاد للشعب الفلسطيني وتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، بالتعاون والتنسيق مع قادة الإنتداب البريطاني التي كانت تغض النظر عن جميع ممارسات العصابات الصهيونية وبالمقابل تمارس سياسة الخنق والتضييق على الفلسطينيين؛ فقد شهدت الدول المنكبة على صياغة الإعلان العالمي قيام بريطانيا بتسليم فلسطين الى العصابات الصهيونية وإعلان قيام دولة الإحتلال في 15/5/1948، واستناداً للقانون الدولي كانت مهمة بريطانيا كدولة منتَدِبة أن تهيِّئ الشعب الفلسطيني لحق تقرير المصير، لكن هذا لم يحدث وهذا كان خطئاً إستراتيجياً ثانياً، بأن وقفت الأمم المتحدة موقف المتفرج ولم تحرك ساكناً، ولم تتخذ أي إجراءات بتوقيف تسليم فلسطين للعصابات الصهيونية، أو اتخاذ أي إجراءات قانونية بحق دولة الإنتداب.

تسبب قيام دولة الكيان الصهيوني بمساعدة الإنتداب البريطاني على قيام أكبر وأطول قضية لاجئين في العالم؛ فقد وصل عدد اللاجئين الفلسطينيين عام 1948 الى 935 ألف لاجئ، أما عددهم الآن وبعد أكثر من 66 سنة على النكبة أصبح حوالي ثمانية ملايين لاجئ، فالحكومات الصهيونية المتعاقبة تؤكد دائماً على عدم عودة اللاجئين الفلسطينيين وتعتبر مجرد الحديث فيه من المحرمات. خلال تسعينيات القرن الماضي وخلال عشرة سنوات، لعبت الأمم المتحدة أدواراً فاعلة بالضغط على الدول الأطراف وتم إعادة أكثر من عشرة ملايين لاجئ إلى بيوتهم الأصلية، في موزمبيق وغواتيمالا وتيمور الشرقية وروندا وكوسوفا وغيرها من الدول، إلا إنه وعلى الرغم من صدور القرار 194 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11/12/1948 مؤكداً على القرارات الدولية الخاصة بحق العودة للاجئين الفلسطينيين والتعويض وإستعادة الممتلكات، وعلى الرغم من مرور أكثر من 66 سنة على صدور القرار، فلا يزال في أدراج الأمم المتحدة تعلوه الغبار، ويمثل وصمة عار في جبين المجتمع الدولي لتقاعسه وتخلفه عن تنفيذ واحداً من قراراته الهامة والمفصلية في تحقيق استقرار المنطقة العربية.

 سياسة الكيل بمكيالين للأمم المتحدة فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لا تقف عند حدود قضية اللاجئين، فلا يزال الإحتلال الصهيوني لفلسطين التاريخية قائماً، وبناء المستوطنات في الضفة مستمراً، ولم تتوقف محاولات تهويد القدس وتغيير أسماء ومعالم المدن والقرى العربية في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وإنتهاكات يومية لحقوق الأسرى، وإعتداءات لا تعد ولا تحصى على حقوق الإنسان الفلسطيني تحت الإحتلال..، كل هذا مخالف لجميع المعاهدات والقرارات والقوانين الدولية التي تبناها وأجمع عليها المجتمع الدولي فيما يتعلق بالإحتلال. فلا يزال الكيان الصهيوني يتنكر لتلك القوانين والمعاهدات ويعتبر نفسه فوق القانون وفوق المساءلة.

من غير المقبول ولا المعقول بأن من يدعو للتساوي في الحقوق والواجبات بين الشعوب من فوق المنابر العالمية ويصدح فيها جهاراً نهاراً، أن يمارس سياسة التمييز والتفرقة، ويَخضع للضغط الصهيوني وللإبتزاز السياسي، وفي هذا فإن عمق الفجوة وبُعد مسافة إنعدام الثقة بين الشعوب -لا سيما الشعب الفلسطيني- والمنظومة الدولية آخذة بالإزدياد والإتساع؛ فالمسألة تحتاج إلى إلتزام جدي حقيقي بما صدر عن الدول المؤسسة للهيئة والموقعة على الإعلان.. وليس إلى إلتزام نظري صوري، يحول الضحية إلى جلاد والعكس.

*المنسق الإقليمي لمركز العودة الفلسطيني/لندن

كاتب وباحث في الشأن الفلسطيني

نعم.. سقوط النظام السوري خطر على إسرائيل/ محمد فاروق الإمام

لم أستغرب ما حذر منه نائب وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان "من أن سقوط نظام الأسد من شأنه أن يقضي على أمن إسرائيل".
وأكد هذا المسؤول الإيراني للتحالف الدولي الذي تقوده أمريكا ضد تنظيم الدولة "من أنه إذا تغير النظام السوري، فإن أمن إسرائيل سينتهي".
أكرر إنني لم أستغرب مثل هذه التصريحات من المسؤول الإيراني ولكنني أستغرب وجود الكثيرين من العرب والمسلمين لا يزالون تنطلي عليهم الأكاذيب الإيرانية عندما يطلقون شعارات "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل"، ويحز في نفسي أن أشاهد سيارات الحوثيين وهي ترسم هذه الشعارات الكاذبة على أبوابها ومؤخراتها وهي تجتاح المدن اليمنية الواحدة بعد الأخرى، ناهيك عما يسوقه حزب الله في لبنان لهذه الشعارات التي لا تتعدى أبواق الدعاية الإيرانية التي صدعت آذاننا منذ وطئت قدما الخميني طهران عام 1979 ولم نجد على أرض الواقع إلا تبادل القبل بين الصهاينة وملالي قم، واتفاقيات تبادل المصالح بين طهران وواشنطن وعواصم الغرب على حساب القضايا العربية وأمنها القومي.
المسؤول الإيراني لم يعد يحتمل السكوت عما يمكن أن يحل بأحبابه وأحباب أسياده في تل أبيب إذا ما سقط نمرود الشام وسقط نظامه، الذي كان يتعهد أمن إسرائيل على حدودها الشمالية منذ نصف قرن تقريباً، وأذكّر ما أتيت عليه في عدد من مقالاتي السابقة من أن الأسد الأب تعهد عام 1968 – وكان وزيراً للدفاع- من أنه سيحمي الحدود الشمالية لإسرائيل ويحمي أمنها، خلال لقاء تم بينه وبين رئيسة الوزراء الإسرائيلية السابقة "جولدا مائير" بحضور وزير الدفاع الصهيوني "موشي ديان في قبرص، فقد ربّت ديان على كتف الأسد مخاطباً مائير: "هذا البطل سيحمي حدودنا الشمالية".
والمؤسف الذي يحز في النفس وقوف العديد من المثقفين والسياسيين والإعلاميين العرب خلف الكمرات وفي المحافل العامة وهم يشيدون بإيران وحلف المقاومة الخادعة والكاذبة الذي يضم قم والأسد والضاحية الجنوبية، وهم يروجون لما تروج له أبواق طهران "الموت لأمريكا.. الموت لإسرائيل"، في الوقت الذي يذبح فيه جيش النظام السوري والميليشيات الطائفية المتحالفة معه-والتي جاءته من كل فج عميق- الشعب السوري من الوريد إلى الوريد، ولم نسمع لهذا النظام الذي يدعي المقاومة والصمود والتصدي، أزيز رصاصة واحدة تطلق على العدو الصهيوني المحتل لأرضنا في الجولان منذ أكثر من أربعين سنة، أو شاهدنا صاروخاً واحداً يتصدى لطائرات العدو الصهيوني التي تستبيح سماء سورية منذ أكثر من نصف قرن!!
وفي هذه الأيام العصيبة التي يمر فيها النظام فإنه لا يتوانى الأسد الابن عن حفاظه على ما اتفق عليه الأسد الأب مع الصهاينة في حفظ أمن حدودها الشمالية وبقائه على العهد معها، رغم هزائمه وانكساراته، فإنه كلما تأكد له خسران موقع له في الجولان يطلق قذيفة باتجاه العدو الصهيوني من ذلك الموقع، ليشعره بالانسحاب منه، ويتكفل جيش الدولة العبرية بالباقي، حيث تقوم مدفعيته وصواريخه على الفور بقصف ذلك الموقع، مع التركيز على مستودعات الأسلحة والذخائر فيه وتدميرها، قبل وصول الثوار والجيش الحر إلى ذلك الموقع، حتى لا يقع هذا العتاد بيد الثوار، الذي قد يشكل خطراً على أمن إسرائيل وحدودها الشمالية

هل ستتحول اسرائيل الى دولة دينية؟/ راسم عبيدات

البعض قد يرى في هذا العنوان نوعاً من الشطحان الفكري او "الفنتازيا" الكلامية او جهبذية لإنسان فقد السيطرة على نفسه،او يعاني من تقدير عال للذات،فكيف لدولة عنصرية كأسرائيل أن تتحول الى دولة دينية..؟وما هي ممكانات هذا التحول إن وجدت ..؟؟،فالدول العربية التي تسيطر عليها الروحانية والدين والمتجذرة في وعي وثقافة مجتمعاتها،يمكن لها ان تتحول الى دول دينية،اما اسرائيل كدولة علمانية فهذا قد يبدو ضرباً من الإستحالة والجنون..؟؟،ولكن في نقاشنا وفي تحليلنا عبر هذه المقالة سنطرح الحثيثيات التي نستند عليها وإليها في هذه الإمكانية الواقعية بعد ان كانت إمكانية في المعنى التاريخي،فكما كان البعض يعتقد بأن إعادة النظر في منتجات سايكس- بيكو نوعاً من الهذيان الفكري والبعد عن المنطق والواقع،او حديث لبعض الجماعات المثقفة الفاقدة لصلتها بالواقع،ولكن نحن نجد بأنه بعد استولاد داعش الموجدة أصلا في بيئتنا،والإستولاد هنا بمعنى تخصيبها صناعياً ومدها بالسماد لكي تنمو سريعاً،ولكي تقوم بدورها في مشروع الفوضى الخلاقة الذي طبخ في مطابخ "السي اي ايه" وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ودوائر البحث والدراسات الأمريكية والأوروبية الغربية.
الان بعد دوران هذا المشروع والمرسوم فيه بعناية فائقة دور لداعش،فإن نجاحه كما خططت له امريكا وقوى الإستعمار الغربي يهدف لحل مشكلة اسرائيل ووضع حد ونهاية للقضية الفلسطينية،بدثر المشروع الوطني الفلسطيني،وقتل أية إمكانيات لنشوء حالة نهوض عربي من شأنها البناء عليها في معاودة قيام الوحدة والمشروع القومي العربي.
علينا ان ندرك بأن مصلحة اسرائيل في سايكس- بيكو الأولى وسايكس –بيكو الثانية،هي الأهم،ففي سايكس- بيكو الأولى جاءت على أنقاض انهيار الإمبراطورية العثمانية،وتمهد لخق دولة اسرائيل،وسايكس- بيكو الثانية تاتي على انقاض إنهيار النظام الرسمي العربي،من اجل ان تتسيد اسرائيل المنطقة لعشرات السنوات القادمة وبدون خوضها للحروب.
مشروع الفوضى الخلاقة كما خطط له دنيس روس وبيكر وهاملتون وغيرهم من قادة السياسية الأمريكية،يقوم على أساس نقل الخلافات والصراعات المذهبية والطائفية في المجتمعات العربية من المستوى الرسمي الى المستوى الشعبي،ونقلها الى دائرة الفتن التي تمهد الى إدخال شعوبها في حروب وصراعات مذهبية وطائفية،حروب تهدف الى تجزئتها وتقسيمها وتذريرها وتفكيكها على أساس مذهبي،وإعادة التركيب على هذا الأساس والثروات وليس الجغرافيا،كما هو الحال في سايكس –بيكو الأول،وهذا يتطلب كذلك إزاحة وتغيير وجهة الوعي العربي،وكذلك وجهة الصراع،من صراع عربي-اسرائيلي الى صراع عربي- فارسي،ودور داعش يكون هنا والمطلوب منها،اولا تكريس المذهبية والطائفية عبر القتل والذبح وتدمير البنى المجتمعية وخلق ثارات مستديمة،وكذلك نشر حالة من الهلع والرعب والتخويف،وكذلك ترحيل اثنيات وطوائف باكملها،كما حصل مع مسيحيي الرقة والموصل واليزيدية في العراق.وكذلك يجري إستباحة حدود الدول القائمة حالياً وإلغاء قدسيتها من خلال الإختراق وضم أراض اكثر من دولة لدولة داعش،وبما يعيد النظر في حدود الدول القائمة وفق سايكس- بيكو القديم،لتصبح قائمة على الأساس المذهبي وفق سايكس- بيكو الجديد.
وما يحتاجه هذا المشروع حتى يتكرس على أرض الواقع،هو ضرب وتفتيت وإضعاف الدول المركزية العربية الثلاثة،التي يوجد فيها جيوش ومؤسسات ومجتمع مدني ومواطنه وتراث فكري وثقافي ومدني،وهي العراق وسوريا ومصر،العراق جرى تدميره وتفكيكه وتقسيمه وتذريره مذهبيا وعرقيا وطائفيا،وسوريا يجري العمل على تحويلها الى دولة فاشلة،وكذلك جار العمل في مصر بنفس الإتجاة.


تكرس المذهبية والطائفية والعرقية سيحول ذلك مع الزمن الى مشروع قائم،يترجم ويجري القبول به دويلات مذهبية وطائفية وعرقية،الإعتراف بها جاهز،ديكورات تحكم بحماية امريكية واوروبية غربية واسرائيل،ومرتبطه باحلاف امنيه معها،فاقدة لقرارها وإرادتها وقرارها السياسي ،ولا سيطرة لها على ثرواتها.
كما هو الحال الان في مشيخات النفط والكاز في الخليج العربي ولبنان،وطبعاً هذه الدويلات ستكون محكومة ومسيطر عليها من قبل اسرائيل،فإسرائيل ستكون الأقوى والدولة المحورية في المنطقة،وستكون غير قادرة على الإعتراض او رفض وجود اسرائيل،فهي طوعت على أساس أن تكون خادمة لإسرائيل ومحمية من قبلها،وأي طعن او اعتراض يطعن بشرعيتها ووجودها هي.

ولكن ثمة سؤال سيطرح،كيف سيحدث واسرائيل تنتمي الى الغرب وحضارته،ولا تنتمي الى الشرق الوسط وعاداته وتقاليده؟؟..؟؟وهل ممكن ان تندمج فيه وتكون جزء منه..؟؟

الإجابة تقول بان اسرائيل،في النصف الثاني من التسعينات،أصبحت تتجه نحو العنصرية والتطرف بشكل غير مسبوق،ودخلت في إطار الصراع المجتمعي،بين القوى الدينية والعلمانية،صراع يضبط إيقاعاته فقط الصراع الخارجي،وعندما ينتهي هذا الصراع،ويسقط المشروع القومي العربي،وينتهي خطر القضية الفلسطينية،فإن الحالة الراهنة التي تتوحد فيها اسرائيل على أساس الصهيونية وليس اليهودية، ستنتهي وسيتجه المجتمع الإسرائيلي وينسحب نحو صراعات داخلية،ستاخذ طابع العنف.
وفي اللحظة التي تنسحب فيها الصهيونية لصالح اليهودية فإن المجتمع الإسرائيلي قد يدخل في دوامة من العنف الداخلي والإرهاب اللاهوتي المتعصب بشكل مماثل لما نشهده الآن في العالم الإسلامي واسترجاعاً لما شهده العالم المسيحي في العصور الوسطى .


وبلغة الكاتب الدكتور لبيب القمحاوي"الفرق الأساسي بين اسرائيل وباقي دول الأقليم هو أن التغيير المتعلق باسرائيل لن يأتي من خارجها وإنما من داخلها،ولكن بعد أن تستقر الأمور في المنطقة ويتم تقسيمها ويفقد العرب هويتهم وأنفسهم وأي قدرة على التصدي لإسرائيل بل وأي رغـبة في فعـل ذلك. وعنـدها ، فـإن اسرائيل اليهودية وليس الصهيونية سوف تقاتل نفسها من أجل حسم خلافها الداخلي المتزايد بين هويتها الدينية المتطرفة أو العلمانية . وقد يؤدي فقدان الخطر العربي عليها إلى تعجيل حتمية ذلك الصدام وتقوية المعسكر العلماني على حساب المعسكر الديني اليهودي المتطرف .