أنا الجبرانية الجميلة/ فاطمة ناعوت


خِلسةَ المُختلِس
“هل تبدّلتْ حياتي للأبد؟! ألم يعد مسموحًا لي أن أخطئ تلك الأخطاء الصغيرة التي يرتكبها الأطفالُ الأشرار؟ ألم يعد مسموحًا  أن أسرق زهرةً من أيكة لأشبكها في قميصِ حبيبي؟ أو أطارد فراشةً وارفةَ اللون لأخبِئَها في كراستي؟ أو أخطفَ قلمًا جميلا أغراني من يد صاحبتي لأخطَّ به قصيدتي؟ ألم يعد مسموحًا لي أن أشيح بوجهي عن فقير أو ضعيف أو نبتة صغيرة تتألم؟ ألم يعد مسموحًا أن أغضبَ من الأشرار الدواعش إن آذاوني أو قتلوني؛ وأصبح حتمًا عليّ أن أرميهم بالزهور إن رموني بالرصاص، فأحتضِرُ وأنا أقول: “اللهم لا تُقِم لهم هذه الإثم فإنهم لا يعرفون ماذا يفعلون؟” هذه أنا الجبرانية الجميلة تفعل!
***
 أنا الجبرانية الجميلة
اليوم، انضممتُ إلى الشجرة الجبرانية الطيبة التي “أصلُها ثابتٌ وفرعُها في السماء”، فتنمو كلَّ عام ورقةً، أو بضعةَ أوراق. ليس أجملَ من يوم ميلاد فيروز، لنتذكر فيه جبران العظيم، نبيّ المحبة والسلام؛ حتى نسأله أن يهبط إلينا من عليائه ليتوّج أولئك الأطفالَ الذين ساروا في دربه النورانيّ الصعب، يحلمون حلمَه، ويحملون مشعلَه، حتى لا ينطفئ وهجُ الجمال والفرح في هذا الكوكب المحزون. هو القائلُ: "الأرضُ لنا/ وأنتَ أخي/ لماذا إذن/ تُخاصمُني؟/ فهذي يدي/ هاتِ يدَك."  
لماذا أقفُ اليومَ هنا، لماذا قطعتُ خمسةَ عشر ألف ميل، في الجوّ من بيتي بالقاهرة إلى منصّة رابطة إحياء التراث العربي في سيدني الأسترالية؟ لماذا بسطتُ جناحي وطِرتُ في اتجاه الزمن لأسبق توقيتَ مدينتي بتسع ساعات مما يعدّون على ساعة تواقيت جرينتش؟ أنا هنا اليوم لأقولَ لجبران خليل جبران: “شكرًا يا أبي! أنتَ لا تعرفُني، لأن أبناءك كثيرون يملأون الأرضَ ويملأون الزمان، وسوف يملأون الدنيا حتى تغدو جميلةً كما حلُمتَ بها. وأنّى لأبٍ كبير أن يُحصي أطفاله المنتشرين في رحاب الأرض الشاسعة، إن تخطّوا حاجزَ الجسد الضيق، وعبروا إلى رحاب الأفكار والفلسفات والمذاهب التي لا تحدّها سماءٌ ولا أرض! أنا طفلةٌ من أطفالك الكثيرين الذين لا تعرفهم، رغم أنهم أكلوا على مائدتك وشربوا من نهرك وكبروا على ناصيتك. أنا اليومَ أشكرُك يا أبتي لأن سهامك النافذةَ في قلبي، منذ قرأتُ لك، هي أهمًّ أسرار جمالي.”
فلو كانت روحي نقيةً؛ ولا أحملُ البغضاء لأحد، فلجبرانَ سهمٌ في هذا. ولو كان قلبي صافيًا لم تلوثه المصالحُ ولم يدنّسه التلوّن، فلجبران سهمٌ في هذا. ولو كان الرفيقُ الأعلى يملأ كاملَ قلبي، فما ترك فيه مساحةَ عود ثقاب لكراهية مخلوق، فلجبران سهمٌ في هذا. ولو كانت جُملتي العربيةُ صافيةً دون لحن أو عِوَج، وقصيدتي تحملُ شيئًا من عذوبة، فلجبران سهمٌ في هذا. ولو كنتُ مازلتُ طفلةً لا تبرحُ الدهشةُ عينيها، طفلةً تطارد الفراشاتِ وتنتظر العصفورَ على سور شُرفتها، وتراقبُ من وراء الزجاج زخّاتِ المطر فترقصُ على وقعها وإيقاعها، وتترقب نمو نبتة الحديقة كلَّ يوم مليمترًا فتفرحُ، وتوزع على أطفال الحي السكاكرَ وكسراتِ الخبز وحبّات الزيتون، فلجبران سهمٌ في هذا. ولو كان اللهُ يسكنُ قلبي، وأسكنُ في قلبِ الله، فلجبران سهمٌ في هذا. ولو كنتُ آكلُ مع قططي في صحن واحد، وأنام في دفء عيونها وتنامُ في دفء صدري، فلجبران سهمٌ في هذا. ولو كنتُ أنظرُ كلَّ يوم نحو الغيم البعيد فأرى من ورائه شعاعَ شمس خجولا قادمًا في وعد لا يكذب، فأعرفُ أن الَله هناك يرمقُنا بعين رحمته، ويمد يدَه الطيبة لينسجَ لنا ثوبَ الفرح نحن أطفالَه الحزانى، فلجبران سهمٌ في هذا. أنا الجبرانية أتساءل: هل ترك جبرانُ شيئًا في حياتي لم يصوِّب نحوه سهامَه؟!
 اليومَ ميلادي بين يدي جبران. فأنا اليومَ غيرُ أنا الأمسَ، حتى وإن كنت سأسيرُ في ذات الطريق الوعرة، الموحشة لقلّة سالكيها. تلك الطريق التي اخترتُها لنفسي منذ نما وعيي. أنا اليومَ جبرانيةٌ رسميًّا، بعدما اعتبرتُ نفسي طوال عمري جبرانيةً بالتبنّي كوني أنهجُ نهجَه، وأحذو حذوه، ما وسعني ذلك. اليومَ صرتُ جبرانيةً رسميًّا على مرأى العالم ومسمعه بشهادة الثِقاة من أبناء جبران، أولئك الذين قبلوني في عائلتهم وعمّدوني بماء سلامِه وناولوني من كسرة خبزه. ها أنا ذا، الفرعونة الصغيرة، الجبرانيةُ الجميلة، وهذا يوم ميلادي، موافقًا يوم ميلاد فيروز. 
***
 الكلمة التي ألقتها الشاعرة فاطمة ناعوت يوم إعلان  فوزها بجائزة جبران الأدبية العالمية بمدينة سيدني الأسترالية يوم ٢٢ نوفمبر ٢٠١٤

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق