الكابتن سعدي توما نجم من النجوم الوضاءة/ الاب يوسف الجزراوي


واسع الثقافة شامل الرؤية عميق النظرة، صال وجال في عشب الملاعب وركلَّ كرة القدم في كلّ الاتجاهات، جاعلاً وجهتها غير معروفة، مُحيرًا خصومه في الملاعب لاعبًا ومدربًا. داعب الجلد المدور كالموسيقي ليعزف أجمل الألحان فوق المستطيل الأخضر. حقق نجاحات كبيرة ومنجزات فريدة. ربطتني به  صلات وثيقة ومحبة مُتبادلة منذ سنوات عديدة. رأيته في أسعد أوقات حياته وادركته في أقسى لحظات عمره أيضًا، لكنه ظلَّ دائمًا ذلك  الرياضي العراقي  الخلوق المتماسك العزيمة، والإنسان المؤمن الغيور. ادركته وهو يحمل كبرياءه على كتفيه ويضع هموم الوطن في قلبه. يتعامل مع الناس  بذكاءٍ وشفافية تنزف منهما طيبة كبرى نابعة من قلب كبير وخلق رفيع.
إنّنا  وعبرَ هذه الصفحات إزاء قامة رياضية رفيعة الشأن، وقيمة إنسانية عالية  القدر. هو الصديق العزيز  الكابتن سعدي توما ( أبو ريكا) تلميذ المدرب العريق والراحل الكبير عمو بابا ( أبو سامي) عليه رحمة الله.
اكتشف موهبته  المدرب العراقي داؤد العزاوي، ليقترن اسمه بالجيل الذهبي الذي خاض نهائي بطولة شباب أسيا يوم حقق الإنجاز الكروي  على ايران في قلب  العاصمة طهران عام 1977،  أمام مراى أكثر من 100 الف متفرج من مدرجات ملعب (اريا مهر)، في مباراةٍ يصعب على الذاكرة نسيانها والتي لم يسلم منها لاعبو منتخبنا من الركلِ والضرب داخل الملعب وخارجه، وكان توما أحد الذين تعرضوا للضرب حين هرع للدفاع عن علم بلاده،  بعد أن تم حرق علم العراق؛ يوم فجرَ منتخب بلادنا للشباب الذي كان يقوده حينها المدرب اليوغسلافي" ابا" مفاجأة كبرى في تغلبه على  نضيره المنتخب الايراني الذي طالما وصفوه بالمنتخب ( الذي لا يقهر) وجرده من لقب اسياد أسيا في عقر داره. بفضل ذاك الفوز التاريخي تأهل ذلك المنتخب إلى نهائيات كأس العالم  الأولى للشباب في تونس، لتكرمهم الحكومة العراقية  بسيارات " لادا" موديل 1977. ومنذ ذلك الإنجاز أصبح اسم سعدي توما الذي حمل الرقم 3 قنديلاً ينثر ضوءًا على معجبيه ولا يزال.
إنّه الكابتن العراقي القدير سعدي توما جرجيس أو (حكمت أو حكم) كما يناديه المقربون منه. تعود أصوله إلى عائلة مسيحية كلدانية من قرية باطنايا في محافظة نينوى.  أبصر نور الحياة في عروس العواصم (بغداد) بتاريخ 26/4/1955 بحي السنك الشعبي. داعب الكرة منذ نعومة أظافره في الازقة، ثم لعبَ في فريق "امجاد العلوية" أحد الفرق الشعبية المعروفة بحي البتاوين في بغداد حيث مرابع صباه.
لعب فيما بعد في فريق اعدادية النضال عام  1973 والتي تخرج منها عام 1976. لموهبته الفطرية البادية العيان دُعي عام 1973 للعب مع منتخب تربية الرصافة، ثم مثلَ منتخب العراق المدرسي رفقة الكبار نزار اشرف، ضرغام الحيدري، رعد حمودي.
في عام 1975 حصل مع منتخب تربية العراق المدرسي على المركز الأول في بطولة الدورة العربية المدرسية في القاهرة بعد تغلبهم على منتخب مصر المدرسي لكرة القدم؛ حيث مثل العراق يومذاك كلّ من: رعد حمودي، واثق أسود، شاكر علي (والد لاعب المنتخب الحالي سلام شاكر)، إبراهيم علي، سعدي توما، عادل يوسف، وميض خضر،  سليم ملاخ، نزار اشرف وحسين سعيد الذي كان في اول ظهور له بتلك البطولة؛ حيث لعب كجناح ايسر.
ولأن النجوم في السماء وضاءة، وليس يكسفها إلا الشمس، فأنَّ نجم سعدي توما لمع وزاد بريقه في تلك الأزمنة ولا يزال؛ فحيال عودته من تلك البطولة في آب 1975 تزاحمت عليه الاندية العراقية، لكنه اختار اللعب في صفوف  نادي الصناعة الرياضي في أول الأمر، ثم أنضم عام 1976 إلى نادي القوة الجوية فسطع نجمه هناك بعد تألق موهبته لتوجه له دعوة للدفاع عن الوان المنتخب الوطني  العراقي في الدورة العربية التي كان من المقرر إقامتها في سورية، لكنها الغيت لعدم رضا معظم الدول العربية على إقامتها في سورية لأسباب سياسية لا مجال هنا للولوج في تفاصيلها.
كان توما قد سُحب من نادي القوة الجوية للانضمام للمنتخب العراقي  صحبة كلّ من زملائه في النادي: سليم ملاخ، كاظم شبيب( الحارس العراقي الدولي)، كاظم وعل، اثناء فترة إعداد  المنتخب  بمعسكرهِ التدريبيٍ في محافظة الموصل، لكن البطولة  كما اسلفنا لم ترَ النور.
عام 1979 ارتبط بزواجٍ أبدي مُقدس مع رفيقة الطفولة في ذلك الحي الشعبي الذي يحمل ذكريات الزمن الجميل المحفورة في الفؤاد، فأنجب منها ثمرة حبّهما  الوحيدة (ريكا) عام  1981، وهي الآن متزوجة من السيّد ناصر باسم ولديهما ولدان فهد وشاهين. ويعزو الكابتن القدير نجاحاته إلى دعاء شريكة حياته ورفيقة دربه ونصفه الآخر السيّدة الفاضلة سُعاد اوراها، التي رافقته في السراء والضراء وصبرت على غياباته المتكررة عن العائلة بسبب اسفاره الرياضية المتعددة.
مُبكرًا لاحقته لعنة الاصابات وبشكلٍ متكرر، إذ خضع لعملية (كارت لج) في لندن عام 1982، وعملية أخرى مشابهة عام 1984 في بغداد اجراها له د. فالح فرنسيس طبيب المنتخب العراقي وقتذاك، المُقيم الآن في ولاية فكتوريا الاسترالية. مرّت الشهور ليتعرض توما  مجددًا لاصابة في الظهر، قادته إلى الوداع المُبكر للعشب الأخضر؛ حيث اعتزل كرة القدم بخفي حنين عام 1986. وظلَّ ذلك الرياضي الصبور الذي عشق سحر المستديرة بجنون، شمساً تشع بالفرح رغم أنَّ باطنه كان ليلاً من الأحزان العميقة لمغادرته السريعة للملاعب، وكان يداري أحزانه ويخفيها عن الناس، ويصنع منها ابتسامة مشرقة بالأمل والرجاء.
أرسلته الحكومة العراقية لإجراء عملية جراحية كبرى في العامود الفقري على نفقتها في كوبا تحت اشراف الدكتور الفريس كامبرس رفقة العداءة د.إيمان صبيح بطلة العراق وأسيا في ألعاب القوى سابقًا وبطل العراق السابق في 200 م العداء إسماعيل محمد علاوي، كان ذلك عام 1989، لكن العملية لم تجرَ له  لخطورتها الشديدة، سيّما بعد أن علمَ الطبيب المعالج أنَّ اللاعبَ سعدي توما قد اعتزل لعب الكرة.  العملية كانت سيفاً ذا حدين، أما تنجح بنسبة 80 بالمئة أو يصاب توما بالشلل ويكون مُقعدًا على كرسي متحرك، فتم الإتفاق على عدم اجرائها واللجوء إلى العقاقير الطبية والمسكنات.
اواخر عام 1990 أصبح مدربًا لأشبال نادي القوة الجوية، بعد أن حصل على شهادتين تدريبيتين من الإتحاد العراقي لكرة القدم، ثم نال شهادة أُخرى بأشراف المدرب الانكليزي " جان كاليكر" في دورة  تدريبية مطولة أقامتها التربية الرياضية.
 صيف عام 1991  أختاره شيخ المدربين العراقيين " عمو بابا" رحمه الله ليكون مدربًا مساعدًا له. قضى خلالها  ذلك المدرب الخلوق خمسة اعوام متتالية يتتلمذ تحت يد ثعلب الكرة العراقية واسطورتها، فنال ارفع الشهادات التدريبة ( العملية)من  مدربٍ يُعد من عباقرة المدربين ألا وهو عمو بابا. ولا يخفى على أحد من هو عمّانوئيل بابا، إنّه قاهر المدربين العالميين  أبتداءً من زاكالو وكارلوس البرتو، وصولاً إلى البرتو باريرا؛ حيث كان سببًا في انهاء عقودهم الخليجية بعد أن ألحق منتخبنا تحت قيادته هزائم ثقيلة بالمنتخبات التي كانت تحت اشرافهم في ثمانينيات القرن الماضي. ومن منّا لا يتذكر الفوز على السعودية 4-0 في خليجي7 عام 1984 والتي تسببت نتيجتها في انهاء عقد زاكالو واقصائه من تدريب المنتخب السعودي.
انتقل الكابتن سعدي توما مع أبيه الروحي واستاذه الجليل لتدريب أندية الجوية، الكرخ، الرمادي. وكانت النتائج يومها مُبهرة عالية المستوى، خاصّة تلك التي حصداها مع نادي الرمادي، الذي تصدر الدوري العراقي لمعظم مراحل بطولة الدوري محققًا مُفاجأة مدوية، متغلبًا على اندية عريقة تتمتع بقاعدة جماهرية واسعة كالزوراء، الجوية والشرطة.
ولازلت اتذكر جيدًا كيف أنَّ الرجلَ اغروقت عيناه بالدموع  يوم فتح لي صندوق الذاكرة المُتخم بالذكريات ليحدثني عن ذكريات عالقة  بالاذهان مع الراحل عمو بابا؛ وعن مدى استفادته الجمة من تلك المرحلة الثرية، وكيف عاصره واقترب منه وأصبح له كالأبن. وإلى يومنا هذا يحتفظ الكابتن الأمين سعدي توما في خزانته الرياضية بقصاصاتٍ ورقيةٍ كان قد دوّن فيها خطط وملاحظات شيخ المدربين عمو بابا في المباريات المهمة، يعود إليها كلّما دعت الحاجة.
ولأن المُحب يعود دومًا إلى الأماكن التي عايشت حبّه العتيق الكبير، يُلمم عن ارصفتها بقايا الذكريات الجميلة، هكذا كانت الحال مع الكابتن سعدي توما يوم عاد في الموسم الكروي 1996- 1997 إلى ناديه الأم وبيته الثاني ( القوة الجوية)، ليشكل ثنائيًا متناغمًا مع الكابتن ايوب اوديشو، فحصدا  معًا وبتوفيقٍ من الله وبجهودهما ومثابرة اللاعبين البطولات التالية: الدوري العراقي، الكأس، المثابرة، أمُّ المعارك. وقد لا ينسى جمهورنا الرياضي العراقي ذلك الموسم التاريخي لنادي القوة الجوية الذي ربّما لن يتكرر ثانية بسهولة.
كلّفه الإتحاد العراقي لكرة القدم عام 1998 للذهاب إلى اليمن لتدريب نادي الطليعة في مدينة تعز اليمنية والتي تبعد عن العاصمة صنعاء زهاء 3 ساعات سيرًا بالسيارة، وهنالك حقق إنجازات مُبهرة أيضًا، فإنَّ إتكال الرجل على الرب جعلهُ يمضي والتوفيق مع خطاه. يحالفه الحظ دائمًا ويمشي النجاح في ركابه أينما حلّت قدماه، إذ قاد النادي من مؤخرة الترتيب إلى المركز الرابع في تصنيف أندية الدوري اليمني، ليُمثلَ بلاده افضل تمثيل، تاركًا الأثر الحسن في نفوس اللاعبين والذكر الطيب لدى الإداريين ناشرًا عطر المحبة في صفوف انصار النادي، إلى حدٍ جعل اسمه ومنجزه خالدين في النفوس، إذ بعد مضي السنين تلقى الكابتن سعدي توما في ليلةٍ من ليالي استديو التحليل عام 2005 بقناة العراقية، تحية من اهالي تلك المدينة، أُسجلها هنا كما ذكرها الكابتن الذي يتحلى بذاكرة خصبة:" ابناء مدينة تعز وجماهير نادي الطليعة يحيون الكابتن القدير سعدي توما".
اشرف مع الكابتن ايوب اديشو في الموسم الرياضي 1999- 2000 على تدريب نادي الاخاء الأهلي اللبناني واستمرا إلى عام 2003. وفي اواخر عام 2003 عاد من لبنان إلى الشام لمشاهدة مباراة نادي القوة الجوية الذي كان يخوض مباراة  ضد نادي السد القطري في بطولة اندية اسيا. وفور عودته مع النادي إلى محبوبته بغداد أنيطت به مهمة المدير الفني للفريق بتكليفٍ من رئيس النادي حينها الكابتن سمير كاظم، فشارك في بطولاتٍ محلية في اربيل وبغداد من أجلِ الحفاظ على وهج الكرة العراقية  التي تعطلت مفاصلها بسبب الأحداث الاليمة التي آلمت بالعراق بعد سقوط بغداد.
عام 2004 اشرف على تدريب نادي القرداحة السوري، فقضى معه موسمًا رائعًا. وفي عام 2005 أستلم مسؤولية تدريب المنتخب الاولمبي العراقي بعد أن تمت تسميته من قبل الإتحاد  العراقي مدربًا ضمن الجهاز الفني للمنتخب الاولمبي بقيادة المدير الفني وقتذاك يحيى علوان. في تلك الاوقات تلقى الكابتن علوان تهديدًا في عقر داره من جماعات ارهابية، ففر بجلده هو وعائلته إلى الأردن، فتحمل توما  ذلك المدرب الشجاع مسؤولية التدريب بمفرده، في ظروف عصيبة عصفت بالعراقيين جميعًا يعرفها الصغير قبل الكبير ويدركها البعيد قبل القريب. في تلك الازمنة الحرجة والأوقات العصيبة كان الكابتن الغيور  ينتقل بين احياء الكرخ والرصافة ببغداد للاشراف على تدريب اللاعبين كلّ حسب منطقته السكنية بعد أنْ وضع برامج خاصة وتمارين معينة بغية ردم الهوة في المنسوب اللياقي بسبب توقف الدوري، يوم كان القتل على هوية الفرد العراقي!
وذات ليلة من ليالي الشام العالقة في الاذهان اسرني الرجل بموضوعية وأمانة عن تلك المرحلة الخطرة التي عاصرها، والتهديدات التي تلقاها، فيوم  بلغت الأمور أوج خطورتها هرّب ابنته وعائلتها إلى لبنان في تموز 2006، ثم ارسل زوجته إلى الشام في نهاية تشرين الاول 2006، وكان يتنقل بين بغداد واربيل وعمان مع المنتخب وبين بيروت والشام لتفقد عائلته. ولعليّ هنا لا افشي سرًا: بأنّ الكابتن في تلك الظروف الدموية كان يتقاضى اجرًا قدره 500 دولادر امريكي فقط! وكان يتوجب عليه التكفل بتكلفة معيشته وتنقلاته واسفاره وتأمين عيش كريم لعائلته! وظلّ صاحبنا الصبور مُطاردًا  في بغداد، تارة نلقاه  متنقلاً في بيوت العراقيين الشرفاء مسيحيين ومسلمين، وتارة أخرى مُهددًا سيّما عند عودته لمسكنه  في حي الصالحية ببغداد. كان يتلقى التهديدات اليومية عبرَ الهاتف الارضي في الساعة 11 صباحًا و 7 مساءً كما وارغم على دفع مبالغ مالية طائلة حفاظًا على حياته، ممّا دفعه لترك مسكنه لفترة طويلة. ورغم تلك الاجواء العصيبة كان لا يتوانىء من الذهاب إلى قناة العراقية التي عمل فيها محللاً رياضيًا مذ عام 2004 إلى عام 2007 لتحليل مباريات منتخبنا الوطني والمنتخبات والأندية العربية والاوربية، وكان يطلّ على الجماهير التي أحبته لاعبًا ومدربًا ومحللاً؛ حيث  ظهر للناسِ في برامجٍ رياضية تحليلية بوجهه المُبتسم  كلّما  تواجد في بغداد، زارعًا الفرح والأمل رغم ظروفه التراجيدية واحوال البلد المنكوب والتهديد المتواصل. وكان السيّد حبيب الصدر مدير التلفزيون وقتذاك وسفير جمهورية العراقية لدى دولة الفاتيكان فيما بعد  يؤمن له الخروج ليلاً من التلفاز لحين الوصول سالمًا  إلى بيت أحد العراقيين أو اللاعبين في الأحياء السكنية الامنة.
حياة قاسية عايشها الكابتن سعدي توما في تلك الفترة الدموية من تاريخ العراق المُعاصر، لكنها كانت سبب إلهامه ووحيه في زرع الفرحة في نفوس العراقيين من خلال انتصارات المنتخب الاولمبي وتحقيق الإنجازات الرياضية.
ولا زلت احتفظ للرجل بذكريات جميلة له ولعائلته الفاضلة في الشام وسيدني؛ حيث كنتُ قد منحت سرّ العماذ المُقدس  لحفيده الأصغر شاهين  صيف عام 2007. واذكر للرجل أيضًا ايمانه القويم وحضوره قدّاس الاحد المسائي في الشام أثناء تواجده في زيارات قصيرة لعائلته ولا يزال مواظبًا على تلك الروحية في سيدني. كما وجمعتني بصحبته لقاءات عديدة مع الكابتن الراحل عمو بابا في مكتبي بكنيسة القديسة ترازيا في الشام؛ حيث كنا نتجاذب اطراف الحديث ونتناول هموم الوطن والظروف القاسية التي هجرت العباد ومزقت البلاد. وإنْ نسيت فلا أنسى ذلك والأطراء الذي اغدقه عليه شيخ المدربين عمو بابا يوم قال له بحضوري وحضور الآخرين:" أنت بطل كابتن سعدي، استمر بالحرص والمثابرة والتعلم والحزم، تاريخك يشهد لك، أستمر  هكذا حتّى تصبح خليفة عمو بابا". فرد الكابتن سعدي قائلاً:" انا تلميذك، وانت صاحب فضل على الجميع".
ولازلت  اتذكر أيضًا في تضاعيف الذاكرة، كيف أن الكابتن القدير كان يلجأ إلي في مكتبي بكنيسة القديسة ترازيا، ويسرني اسراره في  ظلّ ظروف  كان شبح الموت يطارد ذلك الرجل الذي أحب وطنه إلى حد المخاطرة بحياته. وذات يوم حدثني الرجل ببحة صوت تخنقه غصة أليمة كيف كان يُدرب المنتخب الاولمبي وحال الإنتهاء من الوحدة التدريبية يتجه مباشرة لمشاركة المدرب أكرم سلمان في تدريبات المنتخب الوطني على عشب الملعب ذاته، بعد أن طلبه اكرم سلمان للعمل معه، ووصل الأمر بأنَّ لائحة الأسماء  كانت قد صدرت من الإتحاد العراقي ويتضمنها أسم  الكابتن سعدي توما كمساعد اول معية رحيم حميد، إلا أنَّ رئيس الإتحاد العراقي لكرة القدم وقتذاك الكابتن حسين سعيد امتنع بحجة أنَّ المنتخب الاولمبي سوف يفقد جودته إذا إلتحق الكابتن سعدي توما بالمنتخب الوطني. وكان المنتخب العراقي وكادره المذكور اعلاه  قد كرموا من قبل الحكومة العراقية بعد حصولهم على المركز الأول في بطولة غرب أسيا التي أقيمت في قطر نهاية عام 2005  ما خلا الكابتن سعدي توما الذي ساهم في إعداد المنتخب لكنه خرج خالي الوفاض!.
واحتفظُ إلى اليوم بزي المنتخب الاولمبي الذي كان قد اهداه لي الكابتن القدير سعدي توما في الشام يوم عانقني في لقاء وداع قائلاً: "سوف نلتقي بعد عودتي من مباراة استراليا". طالبًا مني الدعاء له ولمنتخب العراق لبلوغ اولمبيات بكين 2008 .
في هولندا كنت اتواصل مع الكابتن سعدي توما عبر الأحاديث الهاتفية يوم كان يُقيم في بيت شقيقته بسيدني بعد أن قرر البقاء هُناك. ويوم وطأت قدماي أرض سيدني التقيته في كنيسة مار توما الكلدانية في إحدى الزواجات، ثم غدا مواظبًا على حضور القداديس والمحاضرات التي اقيمها بعد القداس ايام الآحاد. ولا يسقط من  ذاكرتي يوم سحبني الرجل في حديث جانبي إلى مؤخرة الكنيسة قائلاً لي: " اخشى عليك من الغيرة، لأنهم لا يريدون كاهنًا  مثقفًا، نشيطًا، حيويًا يلتف حوله الناس ويثقف الشباب". قلت له مَن؟ قال:" سوف تكشف لك الشهور صحة كلامي". وبعد مُضيء الشهور وحصول ما لم يكن في الحسبان اتصلت بالكابتن الذي لا يتمتع فقط بدهاءٍ رياضي، بل وحياتي أيضًا في قراءة الأحداث، لكي أشيد بحدسه الذي قلما يخيب!
وأعود إلى صلب الموضوع لاقول، اثناء تواجد الكابتن سعدي توما في الشام عرضت عليه 3 عروض من قبل اندية كرة القدم السورية وعروض أُخرى من أندية الخليج وعمان ولبنان، وكنت عارفًا برغبة  نادي الجيش السوري في التعاقد معه، الذي تكفل بمنح الكابتن العراقي راتبًا شهريًا قدره2500  دولار امريكي، وشقة سكنية لائقة وإقامة طويلة الامد له ولعائلته، لكنه بكياسته المعهودة ولطفه المعروف اعتذر  بخلقٍ عالٍ وفضل مصلحة  المنتخب الاولمبي العراقي، فرشح لإدارة النادي  الكابتن ايوب اوديشو لينوب عنه في تلك المهمة، والذي اشرف على الفريق فيما بعد وحصد معه بطولة الدوري السوري.
في عام 2007 وبعد أخر مباراة للمنتخب الاولمبي مع استراليا والذي كان يحتاج الى التعادل فقط للتأهل، لتكون تلك المباراة محطة انطلاق نحو عودة التفوق القاري الذي افتقدناه لسنوات، وليس خطوة جديدة في العودة إلى الخلف، لكن العراق خسر لصالح استراليا 2-0 في تصفيات دورة الالعاب الاولمبية؛ فقرر الكابتن البقاء في استراليا مُجبرًا بسبب التهديدات المتواصلة بالقتل، سيّما بعد أن ادرك أنَّ العراق تفشت فيه روح الأرهاب وتفاقمت الإقتتالات الطائفية والدينية وشاعت فيه جريمة القتل، فانعدمت ملامح تدلّ على أنَّ هناكَ اتجاهًا يسير به البلد نحو الامان والعيش بسلام.
بعد نيله الإقامة في بلاد الكنغر طالت ذلك الرجل الوقور والرياضي المُحب لبلده وشعبه شائعات مغرضة وقصص صفراء بغية النيل من تاريخه الرياضي الذي لا يشق له غبار، وهدم أُسس حياته العائلية، والمصادر كانت دومًا تذهب إلى:" يقولون"! ويا لكثرة الذين يقولون، ولكن ليس كلّ ما يقال صحيح.  إنَّ تلك القصص الصفراء تبخرت مع الزمن بعد أن اثبتت الأيام زيف احداثها، وأنجلت الحقيقة السوداء لمروجيها، ففي النهاية لن يصح إلا الصحيح. وكان سعدي توما قد صرح لبرنامج استوديو الملاعب الذي يقدم من قناة البغدادية حين وصوله اربيل: "إنَّ سر هروبي من العراق وبقائي في استراليا بعد المباراة التي خسرها منتخبنا الاولمبي امام استراليا خلال التصفيات المؤهلة الى اولمبياد بكين 2008 كانت لسبب اني تلقيت عدة تهديدات من اشخاص في بغداد بالقتل ومع ذلك كنت أعمل بجد وتفان من اجل العراق في اصعب مرحلة عاشها جميع العراقيين عام 2007 التي شهدت قتل وتهجير طال العديد من المواطنين". مشيرًا إلى:" اني كنت ادرب لاعبي المنتخب الاولمبي الذين يسكنون منطقة الكرخ على ملعب نادي الكرخ ولاعبي منطقة الرصافة على ملعب الشعب كونهم لا يستطيعون الحضور جميعهم إلى ملعب واحد". مبينًا في الوقت ذاته:" كنتُ اسكن في شقة بمنطقة الصالحية وكان الحارس محمد كاصد والمدافع محمد علي كريم هما من يتكفلان بنقلي من الشقة الى الملعب خوفا من تلك التهديدات".
عام 2011 طلبته إدارة نادي زاخو ليتولى تدريب ناديها الرياضي لكرة القدم، فلبى الطلب وعاود مهنة التدريب، وقد أثنى  الجميع على تلك الخطوة، بعد  أن أشادوا بقدرات الرجل ومهارته في التدريب، حيث تصدر المراحل الـ 14 من الدوري العراقي، لكن يبدو أن المصائب لا تأتي فرادى على هذا المدرب الذي لازمه النحس لاعبًا ومدربًا؛ ففي هذه المرة لم تمنعه الاصابة من مواصله مشواره الرياضي، بل تدهور حالته الصحية اجبرته على ترك مهمته التدريبية في النادي، خاصّة بعد أن سقط  أكثر من مرّة على عشب الملعب. وأنقل هنا ما اوردته جريدة الإتحاد الصادرة في كردستان العراق عمّا حصل: " تعرض مدرب زاخو الكابتن سعدي توما الى حالة اغماء قبل المباراة الودية التي خاضها فريقه مع نظيره بغداد أول أمس السبت بساعات وتم نقله الى قسم الطوارئ في مستشفى زاخو . ويعاني الكابتن توما من اصابة في الفقرات كان من المفروض أن يلتزم الراحة التامة ويبتعد عن أي اجهاد ، الا انه فضل العمل ما اثر عليه واصابته بهذه الازمة". .
على أثر ما حصل قرر السيّد عبد الوهاب البارزاني رئيس الهئية الإدارية لنادي زاخو ارسله للعلاج في تركيا واجراء عملية عاجلة له في الفقرات العنقية على نفقته الخاصّة. وأيضًا عرض عليه الكابتن عدنان حمد العلاج في المشفى الامريكي في عمان، بعد أن تعهد الرجل بالتكفل بكلِّ تكاليف العلاج،لكن الكابتن سعدي استجاب لنصيحة الدكتور داؤد حدّاد  طبيب العائلة في استراليا الذي نصحة بالعودة فورًا إلى سيدني لتلقي العلاج، وهكذا سارت الأمور، وقفل أبو ريكا عائدًا إلى سيدني بعد أن تم تخديره في الطائرة التي اقلته إلى سيدني. وحال وصوله تلقى العلاج المناسب، لكنه ظلَّ طريح الفراش لشهورٍ طوال، إلى أن استجابت حالته للعلاج بواسطة الحقن بالابر والمسكنات.
عام 2013 تلقى مكالمة هاتفية من الكابتن ايوب اوديشو والدكتور عبد الله مجيد رئيس نادي اربيل ثم من السيّد عبد الخالق المسعود نائب رئيس النادي وقتذاك، والذي يشغل الآن منصبَ رئيس إتحاد كرة القدم العراقي، لتدريب نادي اربيل رفقة الكابتن ايوب. وكعادته لم يقل لا، دون الخوض في تفاصيل العقد أو المهمة الجديدة، إذ لم تهمه الصفة والتسميات يومًا، بقدر ما ركز على نوعية المكان الذي سيعمل فيه. ترك سيدني متجهًا إلى اربيل مُلتحقًا بصفوف النادي، فعمل بكلّ غيرة ومهنية واثبت كفاءته، فهو من القائلين بأنَّ كرة القدم لا تلعب فقط بالرجل، فهي قبل أيّ شيء جهد ذهني وعمل يستلزم الكثير من الطاقات العقلية، فسعدي توما أسم مرادف لكلمة "العقل " ، فهو العقل المدبر وإن كان يبدو ظاهريًا الرجل الثاني في الفريق، لكنك تراه يُغير وجه اللقاء بذهنيته الفذة  وبرؤيته الثاقبة، فهو وبعيدًا عن المغالاة  كالمنجم يستطيع قراءة المباراة قبل أن تبدأ  ويحلل مجرياتها منذ إنطلاق صافرة الحكم، ليتدارك الأخطاء ويشخص مواطن الضعف في الفريق الخصم إلى حدٍ جعله يحصد معية الكابتن ايوب اوديشو المركز الأول في الدوري العراقي مناصفة مع نادي الشرطة بعد ان تم إلغاء الدوري بسبب الاحداث الأمنية، والوصول بالفريق إلى المباراة شبه النهائي في كأس الإتحاد الأسيوي، الذي لم يتسنَ له حضورها بسبب تدهور الوضع الأمني، علاوة لبعد توقيت تلك المباراة، ووجوب عودته إلى سيدني. 
في سيدني يُقلب  اليوم مدربنا الجميل  ارشيف الصور ويتفحص سجلات الماضي ويلوك ذكريات الزمن الذي مضى  بعد أن سرح ومرح وفعل ما شاء بالفرق المنافسة في عالم الرياضة، لقد جعل الكرة تبدو أسمى بكثير من جلد مدور تتناقله الأقدام !.
حبّرَ بعض المقالات الرياضية عن ذكرياته في صحيفة الزمان، وفي صحيفتي العراقيّة وبانوراما الأستراليتين، ثم استعرض شذرات من مسيرته الرياضية عبرَ تلفاز الغربة الاسترالي. وهو اليوم أحد أعضاء مؤسسة آفاق للثقافة والفنون والشؤون الرياضية في سيدني. وقد أُختير مؤخرًا  من قبل الإتحاد الإسترالي لكرة القدم ليكون سفيرًا لبطولة كأس أسيا  2015  التي اختتمت فعاليتها في سيدني يوم 31/1/2015.
ادركتهُ متعدد المعارف، نادر الأصدقاء، قليل الإختلاط، مقل في الخروج من البيت ( بيتوتي). وقد لا أكون واهمًا إن قلت: إنّني بتُ الحظ كيف أنَّ الكسل لون حياته والتقاعس غلب عليه، وساعات النوم الطويلة طابت له بعد اتعاب خبرة اربعين عامًا لاعبًا ومدربًا ومحللاً امست بادية للعيان في قسمات وجهه اللمّاح.  سعدي توما أو حكمت كما يناديه أهل الدار لم يتحصل عبرَ مدارات مشواره الرياضي الطويل على أيّة بطاقة صفراء أو حمراء، ولم يشاكس أحدًا في المستطيل الأخضر، كما أنَّ حكمت أو حكم لم يجادل حكمًا طيلة رحلته الرياضية!
 إعتاد في كلّ ليلة قبل أن يخلد للنوم والشروع بالصلاة، النظر في المرايا. ليس بهدفٍ تجميليّ، بل لأنها ساحة المحاكمة، لتقييم ما مضى والتطلع لما هو قادم، ولأنه يخشى  من تأنيب المرايا، نلقاه يفكر  كثيرًا قبل الإقدام على أية إساءة بحق الآخرين، إساءة من شأنها أن تقضُّ ليلته حين يطالع  قبل نومه وجهًا لا يحبُّ مرآه، لذلك فالجميع يشهد له بعفة اللسان، وحسن السيرة، ونقاء القلب، ودماثة الخلق، وحلو الكلام؛ رغم  تقلبات مزاجه الحاد أحيانًا، وتكاسله المعهود، وحساسيته المفرطة التي تجعله سريع الإنفعال، كما وعهدت فيه حرصه المبالغ على الصغيرة كما الكبيرة، لكن الرجل اعتاد أن يترك له بصمة مؤثرة وحسن الأثر البليغ في الأماكن والأزمنة التي يكون حاضرًا بها.
سجلتُ هُنا لمحات صادقة عن رياضي عراقي مرموق كما عرفته وسمعت منه، فمرحى بذلك المدرب الذي صنع نفسه بنفسه واثبت موهبته في الساحة الرياضية  العراقية ، ناقشًا أسمه في نبراس الذاكرة، زارعًا محبته بقلوب الجماهير العراقية، التي عرف عنها الصعوبة في عشق أيّ مدرب أو لاعبٍ، لكنه نجح وبتفوق في أسر العقول والقلوب، ليصبح واحدًا من أولئك المدربين الذين يتمتعون بشعبية واسعة وغدا من الأسماء الرياضية  الخالدة في العراق. هذا ما تسنى لي تسجيله عن حياة الكابتن القدير والصديق الوفي وأبن رعيتي الكابتن سعدي توما يوم باح لي عمّا في القلب لكي أُدوّن ما احتفظت به ذاكرته عبرَ الزمان، وقليلون هم الذين يفتحون أبواب الذاكرة أو نوافذها، ويقولون الحقيقة كما هي بنزاهةٍ وموضوعية، بما لهم وما عليهم.
ختامًا
إنّه الكابتن سعدي توما  رفيق غربتي في أكثر من بلد، الذي اتمنى له مواصلة العطاء، وانا أمني النفس بأن يمنحه الإتحاد العراقي لكرة القدم فرصة لتدريب أحد المنتخبات الوطنية، لأنه من أصحاب الخبرة والكفاءة، فمن غير المعقول ولا المقبول  ان يتلقف الأشقاء في البلدان العربية مدربينا للتعاقد معهم في حين يتم التعامل معهم محليًا بدونية ملحوظة ونعني بها من الناحية المادية على وجه الخصوص، أو من غير المنطقي أن تكون للطائفية جذور  في كرة القدم!  فهناك مدربون عراقيون الهوية والإنتماء،  لهم الكفاءة والتاريخ بالنهوض بالكرة العراقية  كما ويتحلون بالقدرة على قراءة الأخطاء في الملعب  وتداركها سريعا. سعدي توما من تلك الطينة، فهو والحق يقال  كالجوهرة التي تُكمل التاج.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق