الأستاذ د. الحارث عبد الحميد.. الذي حرث المحبة والمعرفة في أرض العراق/ الأب يوسف جزراوي

رّجل قصير القامة ممتلىء الجسم، تحلى برؤية عميقة ونطرة بعيدة واحلام كثيرة، لكنها وللأسف دارت في زمن بخيل وظرف رديء. يرجع له الفضل في النهوض بعلم الباراسايكولوجي بعد أن ابحر بتجاربه واجتهد بكتاباته ومحاضراته لنقله من الاساطير الشعبية إلى مستوى الحقائق العلمية.
هو سليل عائلة عراقية معروفة، فوالده هو المرحوم  عبد الحميد حسن السلمان الذي تعود اصوله إلى مدينة العمارة العراقيّة وينتسب الى قبيلة بني أسد إحدى أشهر قبائل العرب، أما والدته فهي قيسية الجذر، ولعلّ التشابك والتصاهر النسبي والدراسة في بريطانيا ولدا فيه إنفتاحًا إنسانيًا عرف به.
ولد الحارث في مدينة الاعظيمة البغدادية بتاريخ 26/2/ 1950 وفيها نشأ واشتد عوده، وبعد أن قوى صلبه تماهى بوالده الذي اعتبره نموذجًا في الصبر والإبداع. كَفَّ والده البصر وعمَى بعمر الطفولة، فشدَّ الرحال إلى بغداد قادمًا من العمارة مع عائلته وهو في الثانية عشر من عمره  لغرض العلاج والتعليم، فتعلم بطريقته الخاصة وتحدى المستحيل عندما كتب النثر والشعر بواسطة آله مكفوفي البصر، ولابداعه المميز خصصت له الحكومة  العراقيّة وقتذاك راتبًا خاصًا لغرض مواصلة التعليم، فتخرج من دار المعلمين العالي عام 1942 ثَمّ تزوج من والدة الحارث التي كانت تلميذة له في دار المعلمات. اجاد والده النحو والبلاغة والبيان، وكان رفيقًا لمحمد رضا الشبيبي الشاعر النابغة الذي توفاه الله عام 1965، وملازمًا للشاعرين محمد مهدي البصير وعبد الرزاق محيي الدين، وكان يسهم في مجالسهم الادبية. أما  الحارث فكان طفلاً يرافق والده، يلهو بالجلسات ويحفظ  الكلمات والاشعار، يتعلم المحبة والايثار والحوار وأسس التعددية.
أكمل الحارث دراسته الثانوية وانتمى إلى كلّية الطب، لكنه أنتقل للقاهرة لغرض الدراسة في جامعة الازهر، وهناك حصل على ليسانس في الدراسات الاسلامية 1970 وفي العام نفسه عاد إلى بغداد ليكمل دراسته في كلّية الطب/ جامعة بغداد التي تخرج فيها عام 1973 . درسَ الموسيقى في معهد الفنون الجميلة/ قسم الدراسات المسائية. رحل إلى بريطانيا عام 1977 ليحصل بعد سنتين من الجدّ والكدّ الدراسي على دبلوم في الطب النفسي من جامعتي لندن ودبلن عام 1979 ،   نال أيضًا دبلوم عالي في الامراض العصبية / جامعة دبلن/ايرلندا 1980 . ثَمّ حاز على شهادة   ماجستير  فلسفة في الطب النفسي/جامعة ادنبرة /بريطانيا 1980  واصبح عضوًا في كلّية الاطباء النفسانيين الملكية البريطانية بعد حصوله على شهادة الدكتوراه في الطب النفسي من جامعة لندن عام 1982.وكان عن طريق المراسلة  قد درس القانون ثلاث سنوات في الجامعة المفتوحة في بريطانيا. كما حاز الحارث على   شهادة تدريبية من جامعة مينونايت الشرقية في الولايات المتحدة الامريكية عن الوعي بالصدمة وافاق العلاج  2004، فضلاً عن شهادات تدريبية أخرى من الجامعة نفسها حول بناء السلام 2004.
حُظيَ الحارث بالعديد من الالقاب العلمية ابرزها: باحث علمي اقدم – مجلس البحث العلمي 1987، رئيس باحثين – مجلس البحث العلمي 1989، استاذ مساعد 1991 ،   أستاذ  1996، إستشاري في الطب النفسي 1998. مدير عام مركز البحوث النفسية (الباراسايكولوجي ) (عميد المركز) في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي 1994 إلى عام 2003. رئيس جمعية الباراسايكولوجي العراقية منذ عام 1993 إلى يوم اغتياله والتي بجهوده غدت منظمة غير حكومية  عام 2004.   عضو الفريق الاستشاري لقسم الفلسفة في بيت الحكمة العراقي في حي الميدان ببغداد/ قرب الحيدر خانة للاعوام 1999-2003.   
هو أحد مظاليم وضحايا عراق ما بعد 2003، الذي دفع ثمن اتهامه بأنه من المحسوبين على النظام السابق، رغم أنه لم يحصل على منصب سياسي أو وزاري بل تولى مناصب ثقافية وتعليمية، لأن عروق الوطنية كانت تجري في شرايينه، وتمنى لبلده أن يكون أفضل. كانت تصريحاته مباشرة وقوية وكتاباته واضحة وجلية، وقد دفع الفاتورة غاليًا، سيّما عندما تحدث عن اغتيال العلماء والأطباء في العراق عبرَ فضائيّة "الجزيرة" الناطقة بالإنكليزية؛ حيث وصف المشهد: "جثث القتلى المشوهة تطفو في نهر دجلة الجميل، العصافير فرَّت، وطيور الحمام ميتة، والحرم الجامعي تتحكم فيه غابةٌ من ....".
إنَّ د. الحارث لم يكن له أعداء وخصوم، بل إن له منهم الكثيرين ممن اختلفوا معه وضاقوا به وحمّلوه ما لا يجب أن يحمل، ومنهم من رماه بالإنتماء لنظام حكم 35 عامًا بطوله وعرضه بما له وما عليه، فكيف لا يكون تحت مظلته وهو علم من اعلام العراق! ومنهم من وصفه بالعداء للتغيير الجديد، ومنهم من زاد على ذلك تجريحًا واتهامًا ومضايقة، ولكن الرَّجل ظلَّ متمسكًا بمبادئه وأفكاره ووطنه ولم يغادر البلد، فلم يضعف أمام ضغط ولم يستهوه إغراء إلى أن احتضنه القبر يوم اغتالته خفافيش الظلام في وضوح النهار بتاريخ 6/12/2006.
كان اسمه يطرق مسامعي واشاهد صورته واستمع إلى احاديثه في تلفزيون العراق وقناة الشباب، وحين رأيته في قاعة المحاضرات في كلّية بابل بكيت فرحًا في داخلي وهللت وقفزت كطفلٍ في الهواء، وحدثته باستحياء: شكرًا لله لأنك معنا. كنت استعذب اسلوبه في الكتابة وبلاغته في الحديث، فهو صورة للمثقف المهموم بهموم الإنسان في الوطن، وكنتُ شديد الحرص أن لا اضيع فرصة حضور محاضراته، بعد أن وجدت فيه نموذجًا للمفكر الموسوعي، والعالم الروحاني الذي امتاز بالذكاء الشديد والاطلاع الكثير والمعارف الواسعة، فضلاً عن أنه كان يُردد أحداثًا بعيدة وتفاصيل كثيرة عن دراسته، وكأني به ارشيفًا متحركًا. وكان يبدو ضاحكًا مرحًا قريبًا من القلوب في المناسبات الثقافية وساعات التعليم المختلفة، وما أكثر ما التقيت بالاستاذ الجليل طوال ايام الدراسة وبعدها، فكان قدوة في العطاء ومثالاً في السخاء، وكنت في كلّ مرّة ألتقيه أجد لديه فكرًا جديدًا ومشروعًا حديثًا ورؤية معاصرة و ثقافةً جذابة، فالرّجل كان ودودًا كعادته في جميع الظروف، يعرف كيف يكرّم تلامذته واصدقاءه، وكيف يغرس حضوره الجميل في النفوس.
ولن أنسى ما حييت صدمة الخبر المؤلم الذي تلقيته وأنا اخدم النفوس في كنيسة القديسة ترازيا بالشام عندما نعى العراق أحد نجومه الباهرة بالرحيل المفاجئ للدكتور حارث عبد الحميد يوم كان وطنه ينتظر منه الكثير، حيث كان يبشر بعلم الباراسايكولوجي،فهو صاحب مقولة: "نستطيع أن نقول بأنَّ علم الباراسايكولوجي هو دين القرن الواحد والعشرين" ..
ويومها بكيت بلوعة وكأني لم أبكِ في حياتي قط، بعد أن شعرت بفداحة الخسارة وأدركت أننا قد فقدنا كوكبًا يشع بالعلم والمعرفة والفضيلة؛ حيث اغتالته يد الغدر والتآمر والظلام من أولئك الذين لم يروا فيه إلّا مستودعًا للمعلومات وليس مصنعًا للأفكار والرؤى والمبادرات. إذ كان للرَّجل ملاحظات ثاقبة ومساجلات واقعية وتصريحات صريحة على امتداد سنوات ثلاث لم يتحدث خلالها إلّا عن نكبة وطنه وتصفية العلماء وتهجير العقول واغتيال الكفاءات. فاغتالته قوى الاجرام صباح يوم الاربعاء 6 /12 /2006 أمام مرأى زوجته في مدخل جامعة بغداد، فنقل إلى مستشفى اليرموك لاتمام ما يقال عنه فحص الطب العدلي. ثَمَّ دفن في صباح اليوم التالي في مقبرة الكرخ ( أبو غريب)، ولم يشارك بمراسيم دفنه سوى 5 اشخاص!.
ذلك هو النجم الذي هوى، والفارس الذي ترجّل دون سابق انذار، بعد أن كان درة جلساتنا ومصدر بهجتنا على امتداد سنوات الدراسة لجيل من الأساتذة يزهو بأسماء لامعة أخرى قدموا لنا لقمة المعرفة سائغة، وبرحيله فقدَ العراق واحدًا من رجالات العلم والإنسانيّة الكبار في وقت عز فيه وجودهم وتوارت أسماؤهم، لكن العراق سوف يبقى أكبر من أن يحكمه ثلّة من القتلة والسراق تُشرد المثقفين وتغتال العلماء.
إنّها ذكريات أكاديمية ألوكها عن الزمن الجميل عندما كانت ترفرف اعلام المحبة والآخاء والتعايش السلمي بين العراقيين، ألوكها كلّما ساءت الأمور في الوطن وتراجع الفكر وانحسر المثقفون و تدهورت الثقافة. ذكريات عن رّجل كان معتزًا بوطنيته متغنيًا بقيمة وطنه؛ حيث كان أحد المهمومين بالإنسان العراقي والعراق، والمهمومون بمثل هذه القضايا مبدعون لكنهم مُتعبون، والمتعبون هم العلماء والشعراء والأدباء والمصلحون، لأنهم يفكّرون في كلّ شيء يهمّ الإنسان ويدور في صالح الوطن. 
رحلَ الحارث إلى دار البقاء قبل اوانه، غير أن ابداعه لا يزال يقيم بيننا، بعد أن حرث في القلوب أرضية طيبة وبذر في العقول شذرات المعرفة وغرس في الاعماق رسالة المحبة، وها هي رائحة ذكراه العطرة تفوح من ذاكرة ووجدان كلّ من عرفه، إذ ليس بوسع كائن من يكون أن يذكُر علم الباراسايكولوجي في العراق دون ذكر الفقيد العلاّمة الحارث عبد الحميد. عليه رحمه الله الذي ربطته بربه علاقة صوفية يوم باح بها في مؤتمر وجه الله في كنيسة الرسولين مار بطرس وبولس ببغداد في السادس من ايار عام 2000:" الله موجود في كلّ مكان، ليس أمام ناظريَّ فقط، إنّهُ في دمي وفي قلبي وكياني. تلك صورة الله في جوّانيّتي".
رحم الله  الأستاذ الحارث واسكنه ملكوته البهي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق