رواية راكوشا لنهى محمود: حكاية حب ما بين الطيف والحلم/ عبد القادر كعبان

إن المبدعة نهى محمود وهي تبحث عن أفق جديد في كتابة الرواية، عادت إلى حكايا شهرزاد في ألف ليلة وليلة لتجعلها تكنيكا في سرد روايتها القصيرة "راكوشا" (2009)، وهي حكاية حب ما بين الطيف والحلم، تدور في فلكها جملة من الشخصيات التي لا تحمل أسماء من باب التجريب، على غرار ما هو متداول في الأعمال الروائية بشكل عام.
إذا ولينا وجوهنا شطر رواية "راكوشا" سنجدها تحكي لنا عن قصة بطلين وهما فتاة الورد والولد الحزين، حيث يقوم كلاهما بالبوح للآخر عن الألم والوجع منذ الصفحات الأولى، كما جاء ذلك على لسان السارد: "في الأيام التالية فتحت للولد الحزين قلبها لأنه حزين مثلها. هكذا يبدو الأمر محتملا عندما نتقاسم الحزن فيتفتت. الولد الحزين يقتسم معها الأشياء قسمة غير عادلة.. يمتص حزنها وأرقها ومخاوفها ويمرر لها بعضا من قلقه وتساؤلاته." (ص 14).
سيقف القارئ منذ الوهلة الأولى على دور الكاتبة في استخدام فن الحكي ببراعة، فيتعرف على تلك الشخصيات التي قد يقابلها في يومياته كحكاية الولد الذي يأكل العدس على الرصيف والذي تحمله أمواج الجرأة ليسأل فتاة الورد عن سر علاقتها بالولد الحزين: "يسألها إن كانت تحب الولد الحزين.. تستغرب جرأته وتعاتبه أن يظن ذلك.. تؤكد له أنها ترهب الحب وأنها لن تقع فيه أبدا. يقول لها إنها لو أحبت الولد الحزين ستكون محظوظة.." (ص 16).
تحدثنا الكاتبة أيضا عن حكاية طفلة صغيرة تشبه بطلتها - فتاة الورد- وكيف تصبح صديقتها، وهي ابنة فتاة الشيشة والولد العصبي الذي فارق الحياة في المستشفى، أين تبوح لنا بتلك النقاط المشتركة بينهما كما في هذا المقطع: "تلعبان معا بالحمار الأزرق الصغير الذي يخص الفتاة التي تحب الورد. تقلد الطفلة صديقتها التي تحب الورد في كل شيء، وتفاجأ فتاة الورد أنها هي الأخرى تتصرف كالطفلة وأن لها نفس انفعالاتها.." (ص 19).
تستحضر البطلة صورا من الماضي الذي يعود إلى عالم الطفولة الجميلة والبريئة، وكأنها تبحث عن الخلاص من صمتها الحزين، أين تتذكر تلك العلاقة الوطيدة بالحب التي جمعت بين والديها، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الموالي: "تراقب علاقة أبويها منذ الصغر.. يعامل هو أمها على أنها ملكة في البيت الصغير الدافئ. يتأزم الأب إذا ما أرهقت الأم نفسها في أعمال البيت. يساعدها في المطبخ ويدللها ويراقصها وتحكي له كل ليلة كل ما قرأت وشاهدت وهو يسمع. يحكي لها هو كل ما واجه في يومه وعن كل من قابل من بشر. يقتسمان النكات والأسرار والحكايا." (ص 20).
ما نلاحظه هو أن الكاتبة تسافر عبر حكايا بطلتها لتضيء فوانيس الحب الذي يظل يلاحقه الحزن، غير أن هذا النص يتلاحم مع الحلم الذي يراود بدوره فتاة الورد، وهذا ما غذى عملية السرد بديمومة حركته وتحوله: "تفكر كثيرا في الولد الحزين. تفكر أن تصنع بينهما عالما افتراضيا أكثر بهجة. تشتري فنجانين من القهوة تتقاسم معه القهوة في الصباح في شرفة حجرتها، رغم عدم حضوره للمشهد. تتركه يصفف لها شعرها الغجري المتكسر... تتشاجر معه لأنه يعتبر الوزة كائنا لطيفا.. تصر أن البطة هي الكائن اللطيف. يهمس لها بأن البطة تأكل الذباب.. تغضب منه.. تكذبه تماما وتصر أن الوزة هي التي تفعل ذلك. لا يصلان لنهاية ولا لحل.. تقاطعه وتخبره أنها تحبه." (ص 26).
تدخل نهى محمود ببطلتها إلى عالم الأنثى وخباياه، حيث تجعل الجسد موقعا للتأسيس الذي يمثل نواته الحكائية والدلالية، كما جاء ذلك في المقطع السردي الآتي: "لم يعد هناك من يصنع لها قطع السكر تلك. تستخدم صديقاتها ماكينة الكهرباء.. سريعة، نظيفة وآمنة. عندها فوبيا من استخدام الكهرباء. لا تتخيل نفسها تضع آلة على جسدها وطرفها الآخر 'فيشة' توصل الكهرباء. ترفض تماما ذلك الاختراع. تحب قطع السكر. تشتريها الآن من الصيدليات.. علبة بلاستيكية حمراء برائحة ماء الورد –النوع الذي تفضله. هكذا يمكنها أن تسحب منه قطعه في ليالي الصيف الحارة الهادئة.." (ص 30).
تبقى حكاية فتاة الورد المغرمة بالحب، في هذه الرواية، هي القابضة على خيال المتلقي وفكره، وتبقى اللغة التي تعمل على تفجير الحلم هي السائدة، كما هو شأن تلك الكاميرا التي اشترتها بطلة الكاتبة المولعة بالتصوير سعيا منها في التقاط صور مع الفتى الحزين: "يختار أيام الإجازات للتسكع في الشوارع والتقاط الصور الولد يطبق على أناملها وهو يعبر بهم الأرصفة والطرق. يشتري لها قطع الحلوى بنكهة الفراولة.." (ص 45).
تستوقفنا الأحلام التي تراها فتاة الورد في منامها، والتي تتمثل في صورة لذاتها وصورة للآخر، كما هو شأن ما جمع بينها وبين عجوز المقهى، وكأننا أمام رسالة مشفرة تستدعي التأويل: "من وقت لآخر كان عجوز المقهى يزور البنت التي تحب الورد في منامها. تراه يرتدي ملابس رواد فضاء يحمل سلة فضية يوزع منها فطائر المخبز ويبتسم." (ص 32).
تضيء عملية السرد أبعادا رمزية حيث تعكس تلك العلاقة الحالمة بين ال "هي" –فتاة الورد- وال "هو" –الفتى الحزين- لكن سرعان ما تنجلي بمحاولة البطلة التخلص من تلك المشاعر حيث تستعين بجلسة الزار: "يرتج جسد سيدة الزار وهي توزع البخور في مخبرتها.. تقف أمام فتاة الورد وتنفخ في المخبرة تستنشق الفتاة بخورها. صوت السيدة السمراء التي تحتفي ببنات الحبشة في أغانيها يرج المكان 'حي، صلي على النبي، يا حزينة القلب.. يا مجروحة الروح.. صلي على النبي." (ص 54).
تكسر المبدعة نهى محمود نمطية الخطاب السردي، أين تعتمد على المجاز لسرد حكاية البطلة التي أشارت إليها من خلال قصة راكوشا التي يعلن عنها عنوان هذه الرواية بشكل غير مباشر، ليكون لهذا العمل الأدبي بعده المغاير ونكهته المميزة، كما نقرأ ذلك في المشهد السردي الموالي: "هكذا تقول الحكاية إن ورابية فتى بقلب يحمل الحزن دون الحب وإن راكوشا فتاة رقيقة تنتظر الحب. تنادي هي ومن معها في القبيلة كل ليلة 14 يوما حتى اكتمال القمر. ينادون الفتى 'ورابيه'. يجملون راكوشا وينتظرون. يطلقون البخور والغناء والنداء.. 'آه يا ورابيه يا اسمر يا جميل  تعالى نلعب مع العروسة." (ص 55).
وعلى الرغم من ذلك، تفشل فتاة الورد في كل محاولاتها لنسيان الولد الحزين، حيث ظلت تقابله وتحبه حتى أنها أصبحت تقاسمه ذكرياتها، كما يقول السارد: "البنت تحكي له عن مدرستها الثانوية.. وعن المكان الذي شجت فيه دماغ ذلك الولد الذي عاكسها ومشى خلفها شارعين كاملين حتى اضطرت لالتقاط طوبة من الأرض ورميه بها." (ص 68). 
على العموم، هناك تزاوج بين العالم الخارجي والعالم الداخلي في حكايا بطلة "راكوشا"، وهو الذي يخلق عالما حميميا مع المتلقي ليرتبط بنفسية فتاة الورد، والتي نجدها ساردة وفاعلة على حد سواء في أحداث هذا العمل الروائي.
في الختام، يظل الحب هاجس بطلة المبدعة نهى محمود ومرجع حكاياتها، التي تحمل بين ثناياها العديد من المعاني والرموز، قد تعيد إلى أذهاننا  أسلوب الأديبة إيزابيل الليندي في سرد حكايات "إيفا لونا" بشكل غير مباشر، ربما لأن كاتبة "راكوشا" قد تأثرت كغيرها بأعمال هذه الساحرة التشيلية التي لا تغيب. 

المصدر
(1) نهى محمود: راكوشا، دار ميريت، القاهرة،2009.
*كاتب وناقد جزائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق