تغييرُ حكمِ مصر.. هو تغييرٌ لواقع العرب/ صبحي غندور


تتعرّض الثورة الشعبية المصرية الجارية الآن لتساؤلاتٍ كثيرة عن المدى الذي يمكن أن تصل اليه في المستقبل القريب، وعن جذور الماضي الذي ستتواصل في مستقرّها الأخير معه. فكثيرون يأملون أن تتعدّى الثورة حدود تغيير الأشخاص أو بعض الهيكلية الدستورية للنظام. في المقابل، هناك من يحاولون جعل هذه الثورة وكأنّها ثورة على كل الماضي المصري، وليس فقط على نظام الحقبة المباركية/الساداتية التي شرّعت أبواب مصر أمام النهب والفساد وحكم رجال المال والأعمال، وأخرجت مصر من دورها الريادي في الدوائر العربية والأفريقية والإسلامية لتجعلها وسيطاً بين الإسرائيليين والعرب. فمن يمارس السمسرة في الحكم والاقتصاد يمارسها أيضاً في السياسة الخارجية ويجعل مصر وشعبها يدفعان الثمن الباهظ بمختلف المجالات.

من الخطأ الكبير تحميل حقبة حسني مبارك فقط مسؤولية ما وصلت اليه أوضاع مصر، كما هو أيضاً خطيئة كبرى بحقِّ الشعب المصري ربط نظام مبارك بثورة 23 يوليو. فنظام مبارك هو امتداد دستوري وسياسي (داخلي وخارجي) لحقبة أنور السادات فقط، هذه الحقبة التي تبرّأت من ثورة يوليو وقائدها جمال عبد الناصر وسارت بمصر سياسياً واقتصادياً، عربياً ودولياً، في اتّجاه معاكس لما كانت عليه الحقبة الناصرية.

إذن، هي الآن ثورة على الحاضر بكل مسبّباته وبكل نتائجه، ونأمل أن تكون أيضاً استكمالاً وتطويراً لثورة 23 يوليو في مجال الحياة السياسية الديمقراطية، وهي المنشودة حالياً في حركة التغيير التي أطلقها شباب مصر الشجعان.

***



اليومَ تنشَدُّ ذاكرة العرب إلى مصر 23 يوليو، مصر جمال عبد الناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية.

فثورة 23 يوليو "المصرية" أخرجت مصر في العام 1952 من حالة العزلة التي فُرضت عليها بعد سقوط "دولة محمد علي"، ثمّ بسبب الهيمنة البريطانية والأجنبية على شؤونها السياسية ومقدراتها الاقتصادية، وبالتعاون مع شبكة مستفيدين من طبقة سياسية واجتماعية مصرية كانت تشكّل نصفاً بالمائة من عدد سكان مصر.

لقد كان ذلك هو أيضاً حال معظم البلاد العربية في منتصف القرن العشرين: فساد سياسي واجتماعي في الداخل، قائم على الاحتكار والإقطاع والاستغلال، في ظلّ هيمنةٍ أجنبية واحتلال. وتزامن هذا الواقع مع بدء التنفيذ الصهيوني والأجنبي لمشروع "دولة إسرائيل" في القلب الفاصل بين مشرق الأمّة العربية ومغربها.

فالأمّة العربية كلّها كانت تعيش هذا الحال رغم التجزئة التي حدثت لها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى واتفاقيات "سايكس بيكو" البريطانية/الفرنسية بعد أن ورثت لندن وباريس ما كان تحت هيمنة الدولة العثمانية.

ثورة 23 يوليو في مصر عام 1952 لم تكن حدثاً عادياً في بلد عربي صغير، بل كانت نموذجاً رائداً لحركة تحرّر وطني عام، ولتغيير اجتماعي وسياسي شمل المنطقة العربية، وترك آثاراً هامّة على شعوب أفريقيا وأميركا اللاتينية وعلى معظم دول "العالم الثالث" التي كانت تعيش أيضاً ظروفاً مشابهة لأوضاع البلاد العربية.

ولم يحدث هذا الاهتمام العربي والتأثّر الدولي بثورة 23 يوليو بمجرّد قيامها في العام 1952، لكنّه حدث من خلال قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس ومواجهة العدوان الثلاثي: البريطاني، الفرنسي، والإسرائيلي على مصر في العام 1956. فهذه كانت معركة الإرادة الوطنية ضدّ الهيمنة الأجنبية، ومعركة التحرّر من الاستعمار والاحتلال، وتلك آنذاك كانت قضيّة دول "العالم الثالث" كلّه.

كذلك كان تجاوب الشعوب العربية مع قيادة ثورة 23 يوليو حينما أطلق قائد الثورة جمال عبد الناصر الدعوات لتضامن الأمّة العربية ولوحدة شعوبها، ولتصحيح واقع فرضه المستعمر لكي تسهل هيمنته على ثروات ومقدّرات الأمّة العربية وعلى موقعها الجغرافي الهام.

إنّ ثورة 23 يوليو كانت "مصرية" المنطلق، لكنّها كانت "عربية" في قضاياها ومعاركها وآثارها السياسية والفكرية والاجتماعية، وهذا بحدّ ذاته كان كافياً لكي يتمّ التآمر عليها وعلى قيادتها من أجل إعادة "مصر المارد" إلى "زجاجة العزلة" عن محيطها الجغرافي، الأمر الذي حصل بعد وفاة جمال عبد الناصر وبعد معاهدات كامب ديفيد، والذي هو الآن واقعٌ مؤلم تعيشه مصر والأمّة العربية.

صحيحٌ أنّ تجربة ثورة 23 يوليو تحت قيادة ناصر كانت لمدّة 18 عاماً فقط، لكنّ هذه التجربة خاضت الكثير من المعارك، وحقّقت الكثير من الإنجازات المصرية والعربية والدولية، وهي كغيرها من الثورات والتجارب الكبرى نجحت في أمور وتعثّرت في أخرى، لكن قيمتها الأهم كانت فيما افتقده العرب خلال العقود الثلاثة الماضية من حيويّة وثقل الدور المصري في القضايا العربية الكبرى، وفي مقدّمتها قضيّة الصراع العربي/الصهيوني.

فمصر عبد الناصر رفضت، رغم هزيمة العام 1967، استعادة سيناء مقابل تخلّي مصر عن دورها العربي في الصراع مع إسرائيل. وخاضت مصر عبد الناصر "حرب الاستنزاف" على جبهة قناة السويس لمدّة عامين، وهيّأت الجيش المصري لمعركة العبور التي حدثت في العام 1973، وحقّقت تضامناً عربياً فاعلاً على قاعدة قرارات قمّة الخرطوم في العام 1967، ممّا أدّى إلى تماسك الأمّة العربية وانتصارها العسكري في حرب أكتوبر 1973.

كان ناصر يردّد "القدس قبل سيناء، والجولان قبل سيناء"، و"لا صلح ولا اعتراف بإسرائيل ما لم تتحرّر كلّ الأراضي العربية المحتلّة عام 1967، وما لم يحصل الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة".

لقد حرص جمال عبد الناصر، كردٍّ على هزيمة عام 1967، على أن يوقف أيّة صراعات عربية/عربية وعلى أن يبني تضامناً عربياً فعالاً، فسحَب القوات المصرية من اليمن، وصالح كلَّ من عاداه من العرب، وأكّد على أهميّة إعطاء الأولويّة الكاملة للصراع مع إسرائيل، وبأنّ هذا الصراع يقتضي بناء تضامنٍ عربيٍّ فعّال يضع الخطوط الحمراء من جهة (كمجموعة لاءات قمة الخرطوم) حتى لا ينزلق أيّ طرفٍ عربي في اتفاقيات منفردة، ويوقف كلّ الصراعات العربية/العربية والمعارك الهامشية داخل المجتمع العربي.

فأين كان دور مصر خلال الثلاثين سنة الماضية من ذلك كلّه، وأين كانت الأمّة العربية معها؟.

لقد حدث الانقلاب على دور مصر التاريخي يوم جرت معاهدة السلام مع إسرائيل واتفاقيات كامب ديفيد فكان ذلك بداية عصر الانحطاط العربي المعاصر، وما جرى فيه من حروب أهلية عربية وصراعات على الحدود بين العرب، رافقها تسويات وتطبيع مع إسرائيل وتعزيز للتواجد العسكري الأجنبي في المنطقة.

اجتاحت إسرائيل معظم لبنان عام 1982 واحتلّت أوَّل عاصمة عربية بيروت، ثم دمّرت بعد ذلك الكثير في لبنان وفلسطين وقتلت الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين في أكثر من حرب وعدوان طيلة الثلاثين سنة الماضية، ولم يدفع ذلك كلّه أو أيٌّ منه مصر كامب ديفيد حتّى إلى إلغاء العلاقات مع إسرائيل!!

في ظلِّ قيادة مصر 23 يوليو، كانت المنطقة العربية تشهد تحرّراً من استعمار بريطاني وفرنسي امتدَّ من عدن إلى الجزائر، بينما حقبة "كامب ديفيد" وما بعدها استعادت الهيمنة الأجنبية بمختلف أشكالها.

في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي كانت الانقسامات والصراعات في المنطقة العربية تدور حول الأفكار والسياسات، أمّا ما بعد ذلك فقد تحوّلت إلى صراعاتٍ وانقسامات على معايير طائفية ومذهبية وأثنية تعيشها المنطقة العربية بأسرها دون مرجعية سليمة واحدة للأمّة.

***

هذه هي أسباب انشداد كلّ العرب إلى ما يحدث في مصر الآن. ففي مصر كانت بداية الانهيار العربي المتواصل منذ زيارة السادات لإسرائيل، ومن مصر ستكون بداية النهضة العربية المنشودة.

شباب مصر يثورون لتغيير أوضاع دستورية واجتماعية مصرية، لكن في ذلك أمل كبير لكلِّ العرب بتغيير واقعهم أيضاً.

فلقد تحطّم جدار الخوف النفسي الذي كان يفصل بين المواطن وحقوقه في الوطن، وجرى إعادة الاعتبار لدور الناس في عمليات التغيير المطلوبة بالمجتمعات بعد أن كانت حكراً في السابق إمّا على المؤسسات العسكرية أو بالمراهنة على التدخّل الخارجي.

إنّ أهمّية ما يحدث الآن هو إحياء الأمل لدى عامّة العرب بإمكان التغيير وبعدم الاستسلام لليأس القاتل لإرادة وأحلام الشعوب بمستقبل أفضل.

إنّ العرب اليوم يستذكرون مصر 23 يوليو، مصر جمال عبد الناصر، مصر الرائدة والقائدة، مصر العروبة والتحرّر والكرامة الوطنية والقومية، وهم كلهم أمل أن تعود مصر إلى موقعها الطبيعي ودورها الطليعي الإيجابي في الأمة العربية وقضاياها العادلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق