ذهاب "الرئيس" محمود عباس إلى غزة هو استحقاق تأخر أكثر من اللازم لاثبات حسن النية في إنجاز المصالحة الوطنية الفلسطينية. وبافتراض حسن النوايا، فأن يذهب عباس إلى غزة متأخرا خير من ألا يذهب على الإطلاق، وأن يعلن استعداده لزيارتها "غدا" يخلق أجواء إيجابية تخفف من حدة الانقسام والاستقطاب حتى لو لم يقرن قوله بالفعل.
واليوم، تبدو الزيارة في ظاهرها قد استكملت كل الشروط الشكلية من دعوة وإيجاب وقبول، لا بل إن طرفيها يتحدثان عن "ترتيبات" لها، لكن هذه الزيارة التي رحب بها حتى المبعوث الخاص للأمم المتحدة روبرت سري، ما زالت، كما قال الكاتب الفلسطيني طلال عوكل، ليست "أكثر من استعدادات وحسن نوايا".
وهي حتى لو تمت فعلا ما زالت تفتقد الشروط الموضوعية ل"فتح صفحة جديدة" كما قال عباس في افتتاح دورة "استحقاق أيلول/سبتمبر" للمجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية برام الله يوم الأربعاء الماضي.
فهي زيارة بلا مقدمات، للقاء بلا حوار مع رئيس حكومة حماس في غزة اسماعيل هنية، من أجل تاليف حكومة وطنية بلا برنامج، مهمتها الأساسية إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وبلدية بلا ضمانات لنزاهتها، ترتب البيت الداخلي الفلسطيني قبل "استحقاق أيلول" الذي اعتمده عباس من جانب واحد دون اي اتفاق مع القطب الآخر في الانقسام الوطني. وهذه وصفة مثلى لاجهاض الزيارة قبل ان تتم أو لإفشالها إن تمت.
فالمصالحة شرط مسبق لانجاح الانتخابات، والحوار شرط مسبق لانجاح المصالحة، والالتزام بالاتفاقيات الوطنية (اتفاق القاهرة ووثيقة الأسرى واتفاق مكة وبرنامج حكومة الوحدة الوطنية والمبادرة اليمنية، إلخ.)، لا بشروط دولة الاحتلال التي تبنتها اللجنة الرباعية الدولية (الاتحادان الأوروبي والروسي والولايات المتحدة والأمم المتحدة)، شرط مسبق لانجاح الحوار الذي انهارت كل جولاته السابقة والاتفاقيات الوطنية المنبثقة عنه بسبب منح الأولوية لشروط "الرباعية" والتنسيق الأمني المنبثق عنها مع دولة الاحتلال.
فمن أجل دعم حسن النية بمقدمات تترجمه إلى إجراءات ملموسة لاثباته، كان ينبغي أن تكون دورة المجلس المركزي للمنظمة هي "دورة المصالحة الوطنية"، لا "دورة استحقاق أيلول"، وكان ينبغي عقدها خارج سيطرة الاحتلال لا بموافقته، في عاصمة عربية إن لم يكن في مخيم للاجئين الفلسطينيين، يسبقها لقاء تفاداه عباس حتى الآن مع المكتب السياسي لحركة حماس ورئيسه خالد مشعل، والأفضل طبعا عقد هذه الدورة بحضورهم وغيرهم من الفصائل والقوى الوطنية الفلسطينية غير الأعضاء في المنظمة، في الأقل لابعاد شبهة المناورة من أجل دق الأسافين بين قيادات الحركة داخل الوطن الفلسطيني المحتل وخارجه.
ومن أجل دعم حسن النية بمقدمات تؤكده، كان ينبغي أن يستعد عباس لزيارة غزة مسلحا بإلغاء حالة الطوارئ التي أعلنت أصلا في مواجهة حركة حماس فعمقت الانقسام وجعلت الاستقطاب يستفحل في الشارع الفلسطيني، ومسلحا ب"تبييض" سجون سلطة الحكم الذاتي في الضفة الغربية من المقاومين المحتجزين فيها في إطار التنسيق الأمني مع دولة الاحتلال، وبإعلان وقف الملاحقة لهم ومطاردتهم، ومسلحا بإعلان وقف التوظيف على أساس الانتماء السياسي وبقرار إعادة كل المفصولين من وظائفهم بسبب الانتماء السياسي، في الأقل لإعطاء صدقية لقول عضو مركزية فتح محمود العالول"إننا شعب واحد" و"نريد الوحدة حتى نستطيع أن نواجه الاحتلال معا" عندما عانق القيادي في حركة حماس حسين أبو كويك في ساحة المنارة برام الله يوم الثلاثاء الماضي أمام جماهير شابة تطالب بإنهاء الانقسام. فهذه مجرد إجراءات حد أدنى لاثبات حسن النية لا تمس بالتزام عباس بالتنسيق الأمني مع دولة الاحتلال ولا باستمرار التزامه بالتفاوض دون مقاومة معها.
ففي مقال له مؤخرا في مجلة "فورين بوليسي" قال آيسلينغ بايرن إن "المؤسسات المدنية الفلسطينية قد أفرغت من كل الموظفين المنتمين لحماس – مهما كانت الصلة بهم بعيدة .. بهدف تأمين استمرار نخبة فلسطينية تستطيع واشنطن الاعتماد على تعاونها الكامل مع إسرائيل" وهو ما دفع المفوض العام للهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق الانسان د.ممدوح العكر إلى التهديد برفع قضية أمام محكمة العدل العليا لوقف هذه العملية المتواصلة التي سماها "المسح الأمني".
وكشفت وثيقة نشرتها قناة الجزيرة الفضائية وصحيفة الغارديان البريطانية، هي عبارة عن مذكرة سرية رفعها مفاوض منظمة التحرير إلى المبعوث الرئاسي الأميركي جورج ميتشل في حزيران / يونيو 2009 لاثبات مدى "تعاون" السلطة مع دولة الاحتلال، كشفت أن السلطة اعتقلت تقريبا (3700) عضو في منظمات المقاومة الفلسطينية، واستدعت حوالي (4700) شخصا للتحقيق بتهمة الانتماء لهذه المنظمات، وصادرت (1100) قطعة سلاح منهم، واستولت على مليونين ونصف المليون شيقل إسرائيلي تعود لهذه المنظمات، وصادرت مواد عديدة تحث على المقاومة بحجة أنها تحرض على "العنف".
وفي هذا السياق، لا يسع المراقب إلا أن يتساءل كيف يمكن أن يسهل المصالحة وينجح زيارة عباس المنوية لغزة قوله لإذاعة دولة الاحتلال الرسمية يوم الاثنين الماضي إنه لن يوقف "التنسيق الأمني" وقوله "سامنع قيام انتفاضة فلسطينية بالقوة" طالما هو رئيس للسلطة، مما يقود إلى التساؤل عن البرنامج السياسي للحكومة الوطنية التي أعلن أن تأليفها هو الهدف الرئيسي من إعلان زيارته لغزة "غدا". إن تصريحات عباس هذه وغيرها تؤكد وجود جدولي أعمال مختلفين تماما للقاء عباس – هنية، وهذا اختلاف لا يبشر أبدا بنجاح أي لقاء كهذا.
وقول عباس إنه لم "يتشاور مع أحد" في الإعلان عن مبادرته لزيارة غزة يقدر ما يوحي بنية حسنة بقدر ما ينم عن تسرع، فالشعب الفلسطيني الذي أرهقه الانقسام يعلق قدرا كبيرا من الأهمية على زيارة كهذه وكان ينبغي الإعداد الجيد لها لضمان الحد الأدنى من أسباب إنجاحها، وبالتالي كان ينبغي التشاور الموسع قبل إعلانها. ولو كان هناك تشاور لما حدث التضارب بين عباس وبين قياديين في حركة فتح التي يقودها، مثل رئيس كتلة الحركة في المجلس التشريعي عزام الأحمد. فقد أعلن عباس "مبادرته الجديدة لإنهاء الانقسام" في اليوم التالي للدعوة التي وجهها هنية يوم الثلاثاء الماضي للقاء عاجل في غزة أو في غيرها مع عباس وفتح كليهما.
ومع أن عباس اعتبر نفسه هو "المبادر" لاقتراح لقاء كهذا فإن مبادرته تعتبر عمليا استجابة لدعوة هنية التي رفضتها فتح واللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير. فالأحمد اعتبر دعوة هنية "لا تستحق المناقشة إطلاقا" بينما اعتبر بيان تلاه ياسر عبد ربه باسم تنفيذية المنظمة دعوة هنية ل"حوار شامل" محاولة ل"احتواء التحرك الشبابي والشعبي" الذي قال الأحمد إن حركته "مشغولة الآن" به. وبينما كان عباس يعلن نيته زيارة غزة للقاء هنية كان نائب الأمين العام للجبهة الشعبية عبد الرحيم ملوح يصف هذه الدعوات بأنها "إعلامية" لأن من "يريد أن يصل لنتيجة معينة لا يخاطب الإعلام" بعد أن وصف أي لقاء ثنائي بين حماس وبين فتح بأنه "استكمال لمنهج تفكير المحاصصة".
وتزداد الشكوك في جدية الاعلان عن زيارة غزة بقول عباس بلسان الناطق باسمه نبيل أبو ردينة إنه "لا يذهب إلى غزة من أجل الحوار"، وقول عضو مركزية فتح جمال محيسن إن زيارة عباس لغزة "لا تهدف إلى إجراء حوار مع حركة حماس"، بينما دعا هنية إلى الشروع في "حوار وطني شامل مباشر نبحث فيه كافة الملفات لانجاز المصالحة"، ودعا حزب الشعب بلسان أمينه العام بسام الصالحي إلى "عقد اجتماع عاجل للجنة العليا للحوار الوطني التي تألفت في القاهرة عام 2009"، وكررت الجبهة الديموقراطية الطلب ذاته في مذكرتها المقدمة لدورة المجلس المركزي الأخيرة.
إن هذه النتائج المتضاربة في إطار منظمة التحرير ل"عدم التشاور" المسبق لزيارة هامة طال انتظاهرها تدفع بالشك إلى حد التشكيك حتى في "حسن النية".
فأي زيارة لغزة بلا حوار، واقتصار الزيارة على إبلاغ حكومة حماس ببرنامج أقرته قيادة منظمة التحرير من جانب واحد وتخييرهنية وحماس بين قبوله وبين رفضه يرقى إلى محاولة لفرض أمر واقع محكوم عليها مسبقا بالفشل. وحسب نبيل أبو ردينة، يستهدف لقاء عباس – هنية "إنجاز اتفاق على تشكيل حكومة شخصيات وطنية محايدة .. لاجراء انتخابات رئاسية وتشريعية وللمجلس الوطني الفلسطيني خلال ستة اشهر"، طبعا قبل "استحقاق أيلول" الذي لا يدري أحد كنهه. ومن المؤكد أن مثل هذا الحل "الاجرائي" ليس حلا لمأزق الانقسام السياسي، فسبب الانقسام لم يكن إجرائيا بل كان دائما سياسيا واختلافا حول الاستراتيجية الوطنية.
فدون إجراء حوار يعالج السبب السياسي للانقسام الذي قاد في المقام الأول إلى الأزمة الدستورية التي قادت إلى الانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية عام 2006 مما قاد بدوره إلى الحسم العسكري بقطاع غزة في العام التالي سوف تظل أي مبادرات تتسم في ظاهرها بحسن النية للمصالحة الوطنية فاقدة لأي نية جادة في إنهاء الانقسام.
* كاتب عربي من فلسطين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق