قد يستمر كل زعيم دولة عربية، في التغني بأنه ارفع شأناً في كل أمر هام، من سائر الزعماء العرب الآخرين، الذين سقطوا تحت شعار"إرحل". ويخدع الزعيم نفسه ومن حوله، بأنه باق في السلطة إلى ما شاء الله. ولكن، عندما يتحرك الشارع من اجل التحرر من قيد هؤلاء، يضطر الزعماء أن يضبطوا أنفسهم، ويمتنعوا عن التعبير العام عن شعورهم بالتفوق والسمو، وينوب عنهم المستشارون في تهدئة خواطر الجماهير المختنقة، ولن يكون ضبط النفس هذا سهلاً أو يسيراً، إذا استمرت المشاعر العدائية بين النظام وقوى الشباب على ما هي عليه من حدة وحماس، مطالبة بالإصلاح والتطوير .
ومما يؤسف له أن القيادات العربية المهترئة، التي ما تزال جاثمة على صدور شعوبها، تدعي بأنها ضرورية في الحكم من أجل السلام العالمي، وأن زوالها يهدد بظهور خطر جديد يتمثل بالاستبداد العسكري، أو استبداد القوى الإسلامية المعادية للنظام الغربي، وهو اعتقاد شائع لم تعد الولايات المتحدة وأوربا، تقتنعان به، وبالتالي نكتشف بأن هذه القيادات وحدها، هي التي تقوم بالاعتداء على المواطنين الآمنين، العزل من السلاح، وكأنها ادخرت المؤسسة العسكرية لمثل هذه الوظيفة القمعية غير المشروعة، وهي جيوش لم تدخل حربا وخرجت فيها منتصرة، وأنا أعتقد أن هذا هو سر اهتمام الزعماء العرب بالجيش، ليس من أجل الحرب واستعادة الأرض وتحرير الإنسان، ولكن من أجل الاستمرار بالسلطة رغم أنف الشعوب المقهورة .
إن الفساد السياسي والفساد الخلقي والاجتماعي متلازمان، كيف يمكن لبلد يحكم بهذا النفاق السياسي وهذا التجبر والغفلة، في أن لا يؤدي في حياة الأفراد إلى هذا الانحلال المأسوي الذي تنتهي إليه حياة الأبطال؟ وهل يمكن أن تكون السياسة فاجرة بهذه الجرأة؟! ودواوين العمل الحكومي تتكرر بكل ما يضطرب فيها من حياة وما يمكن لهذه الحياة أن توحي به من الضياع والحيرة. في المقهى الذي يقود إلى اللجوء إلى الغياب عن الواقع. في الخدر أو ما يشابهه أو توحي به من انهيار القيم وفساد الموازين والذمم، في جو العمل حيث يسود الظلم والتملق والمحسوبية، وكل الأدوار التي تنخر في كيان الجهاز كله، نتيجة ضياع المجتمع بأسره في ألوان من البطش والقهر، الذي يجعل الناس يضطربون كالقرود، ويتعذبون كالإنسان، ويموتون كالحيوان. إن ثورة الشباب في الشارع العربي، قالت كلمتها في روعة ووضوح، ونبشت فينا أعماق القلوب لتستثير الإنسان ثورة رافضة عارمة مدوية، تمثل أبشع ما يمكن أن يتردى إليه البشر إذا استشرى فيهم داء الفقر، ونام الناس عن بعضهم البعض، ولهى الحكام في فسادهم، وتخلى عن المحرومين الأخوان والحكام على حد سواء. هذه الثورة، تبرز لنا بطولة الجماعة التي تصرخ غاضبة بمأساة الفقراء وتردي مصير الشعب بأكمله.
لقد صار من الضروري أن نتوجه بالخطابات إلى القادة والزعماء العرب، وليس إلى الجماهير التي ثبت أنها تتحلى بوعي أوسع من كل ما يتمتع به هؤلاء الزعماء. لقد حان الوقت للاعتراف بتواضع معرفة هؤلاء وجهلهم بالقيادة وشؤون الحكم. فما يجري الآن يفضحهم، ويتجلى للعالم أجمع ما هنالك من تناقض بين الدعوى الإنسانية التي يدعيها هؤلاء الزعماء، وبين جرائمهم في حق شعوبهم. إننا لا نطمع الآن أن نحاور هؤلاء، وأن نخجلهم من أنفسهم، ونعري كذبهم، ولكن نريد اقتلاعهم بالطرق السلمية، ويبدو أنهم مثلهم مثل الاستعمار، لا يمكن التحرر منهم إلا بالعنف. لقد يئسنا من أن يثوب هؤلاء إلى رشدهم، وبالتالي لا حوار معهم ولا تقارب ويجب أن نتوجه بالدعوة إلى الشباب الذين سيطردون هؤلاء بالشعار الأكثر شعبية، ولسوف ينسحبون بخطوات خجولة تزداد سرعة لكي لا تنكشف عيوبهم أكثر. لقد ضحك الحكام علينا بما أرادوه لشعوبهم من جهل وتخلف، وأقنعوا أنفسهم بأنهم الأفضل في تاريخ هذه الشعوب. وإذا كان الاستعمار قد خرج من الباب، فقد عاد هؤلاء إلينا من النافذة، ولكن بثوب عربي جديد، مبدلين ملامح وجوههم، ومغيرين معالم هيئتهم، فيجب إسقاط الأقنعة الزائفة عن هذه الوجوه، وتسليمهم إلى جماهير الشباب التي قاست الأمرين بسبب سوء حكمهم، يجب فضحهم، لأنهم لم يشاركوا الشعب مشاركة صادقة في همومه وتطلعاته ولم يهيبوا بالجماهير يوماً إلى النضال من أجل الحرية وكل ما فعلوه في تاريخ حكمهم الطويل، لا يزيد على مناورات سياسية، من أجل أن يتصدق عليهم الغربيون ببعض الامتيازات، وها هم الآن يسرقون مرة ثانية ثورة الشعب في لحظة التحرر والانتصار، وينسبونها إليهم بوعود كاذبة لن تتحقق، فيجب أن تتسلم الجماهير مقاليد السلطة من يد هؤلاء، بعد أن نابوا عن الاستعمار في استغلال الشعب واستثماره واضطهاده، وكلاء عن الاحتكارات الاستعمارية، عميلة لها، شريكة معها في الغنائم، يجب أن نفرق بين الاستقلال الحقيقي والاستقلال الكاذب، وإن بات من الضروري الاستغناء عن هؤلاء، والانتقال إلى مرحلة جديدة، لتظفر الشعوب باستقلالها، أو تبقى الحناجر تردد.. "إرحل".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق