تتوالى الأحداث في المنطقة العربية وتتداخل فيما بينها، وأصبح المشهد ضبابي وغير واضح المعالم يتخبط ما بين الثورة ونظرية المؤامرة، وما بين القطبين مسافات من الدلائل والمؤشرات منها من يستند لمرتكزات الوعي الاستراتيجي، ومنها من يستند لنبضات العاطفة اللحظية، وجزء منها يعتمد في إسناده على جملة المتغيرات الاجتماعية والسياسية المستوحاه من دثر حالة الإستلاب الجماهيري خلال العقود المنصرمة.
فالثورة التونسية ينطبق عليها المثل القائل" إجت الحزينة تفرح...إلخ" وهو ما ينطبق كذلك على الثورة المصرية، نتاج عدم إستكمال كتابة الفصول النهائية بعد، أما في ليبيا فهناك ثورة إختتمت فصولها بالتدخل الإمبريالي الأمريكي – الغربي، فتحولت من ثورة لثروة بيد مستثمريها، وكل المؤشرات تؤكد إنها في الطريق " لعرقنة" أو " لصوملة"، فيما هناك رؤية مستحدثة تنظر لثورة اليمن التي لا زالت في مهدها تحبو صوب النضوج أو الإستكمال كنموذج خاص يحافظ على الهوية اليمنية، في حين أن أحداث البحرين وسوريا ينبعث منهما رائحة طائفية تزكم النفوس بإشمئزاز لغة الاستعمار التي طبقها في العراق، ورغم ذلك فمطاليب هاتين البلدين عادلة وشرعية، وهو ما يقودنا للعودة للخلف قليلاً وتتبع الأحداث وتسلسلها في عمليات التغيير التي تسير حتى راهن اللحظة بلا تفجير، سوى ليبيا التي شهدت تغيير وتفجير معاً، وعودتنا تتناول العراق وفلسطين، والأخيرة تميزت بتصريحات خاصة من قادة ونشطاء حماس بأن الحركة قامت بالتغيير قبل تونس، وإنها استبقت كل العرب بالتغيير والثورة، وهنا لا أعلم أي تغيير وأي ثورة يقصد بهذه التصريحات، هل الإنقسام ثورة؟ وهل تقسيم فلسطين بين فتح وحماس (ثورة)؟ فإن كانت كذلك فهي ثورة لونها أسود، ورائحتها عفنة، وطعمها علقم، وأهدافها خبيثة.
ولكي لا أستفيض في التقديم والاستعراض، والتطرق للب الموضوع مباشرة وهو هل العراق مؤهل لثورة فعلاً؟
تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أو ضمن أجندتها الرئيسية في إعادة تشكيل وإنتاج المنطقة أن العراق شهد تغييراً فعلياً، هذا التغيير حسب المذهب الأمريكي للشرق الأوسط وللعرب تم عام 2003م عندما أطاحت طائرات الولايات المتحدة وحلفائها ومستعربيها في المنطقة بالعراق كدولة ومؤسسات منسجمة اجتماعياً وسياسياً، يسودها التمازج والتزاوج الاجتماعي، بعد حرب شرسة ومستمرة مع المؤثرات الخارجية التي حاولت الفتك في وحدانية النسيج الاجتماعي العراقي، إلاّ أن (على وعمر، وفاطمة وعائشة) قطنا نفس البيت، وارتويا من نفس النهر، واغتسلا من نفس الصنبور، وأطلقا زغرودة النصر في القادسية وفي حواري وأزقة العراق، وعانق النخيل دجلة والفرات في معارك البناء لعراق الدولة والمؤسسة.
هذه الرؤية الأمريكية تطرج سؤالنا من جديد هل العراق مهيأ لثورة؟
منذ اليوم الأول لاحتلال بغداد ولدت ثورة عراقية باسلة، واتضحت معالمها بالشقين العسكري المنظم والشعبي الرافض للاحتلال، رغم المظاهر التي حاول الإعلام نقلها بأن الشعب العراقي استقبل المُحتل، وتنفس الحرية، إلاّ أن الحقيقة مغايرة لهذه الصورة المشوهة ومعكوسة للمشهد الحقيقي لما رأيناه إعلامياً، بل أن المقاومة العراقية لم تحتاج لزمن طويل لبلورة أهدافها ورؤيتها وإستراتيجيتها بالرغم من غياب الذراع السياسي للمقاومة العراقية، وهو غياب طارئ نتيجة الظروف الموضوعية التي فرضتها حالة السقوط التراجيدي للعراق كدولة ومؤسسات، إضافة لسرعة إستدراك المحتل الأمريكي وعملائه لحجم وقوة المقاومة العراقية، فانتهجوا سياسة تشويه الوجه المشرف للمقاومة من خلال تفجير النعرة الطائفية، وتجنيد عملائها وسفهائها أمثال " مقتدى الصدر" الذي مارس إجرام بحق العراق والعراقيين ما لم يمارسه المحتل، وكذلك الحال مع عصابات " الحكيم" فمارسوا القتل على الهوية، وأصبح على يطارد عمر، وفاطمة تقتل عائشة، وفجروا المراقد المقدسة لدى الشيعة، والمساجد لدى السنة، والكنائس لدى المسيحيين، وحولوا شوارع العراق لمحارق للمفخخات والانتحاريين، وأرعبوا الرأي العام العراقي بالقاعدة وممارساتها، وكل هذا تزامن مع حرب عنيفة وشرسة وصامتة ضد المقاومة العراقية، وهو ما اتضح في معركة الفلوجة، وعمليات الإعتقال السري لأبناء ومقاتلين العراق، فجعلوا من المجتمع العراقي مجتمع يمايز بين السني، والشيعي، والكردي، والتركماني، والمسيحي، وهو الدور الذي مارسة المتساقط تاريخياً وأخلاقياً طالباني، والمالكي، وجعلوا من الطائفية معول هدم للعراق اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، وهو ما استكمل فصوله أصحاب العمم والملايات والشيوخ في إغتصاب حُرمة الماجدة العراقية، وتحويلها لسلعة من خلال إبتزاز أبناء العراق في المنافي، وتشكيل عصابات مهمتها الإتجار بالماجدات العراقيات، ممن وجدن أنفسهن بين طاحونة الموت طائفياً في العراق، والموت أخلاقياً في مفاسد الدول النفطية التي لعبت الدور الأبرز في احتلال العراق وتدميره، إدراكاً منهم أن معول الهدم الحقيقي لأي مجتمع يبدأ من هدم المرأة وإسقاطها أخلاقياً، فأعدوا العدة وفق مخطط مبرمج لإسقاط هذه الماجدة التي كانت فيما سبق ترفع قدمها عن الأرض يتساقط العشرات من هؤلاء تحت نعالها، وعندما تبصق يسجد أمثالهم للعق ما تبصقة، فأرادوا افتراسها وإسقاط العراق مستقبلاَ، وتفتيت المنظومة الأخلاقية في المجتمع العراقي، مع إفتراس الشباب العراقي المنفي بالإذلال والإهانة لكسر إرادته الوطنية كما فعلوا مع الفلسطيني سابقاً.
وبذلك فإن الثورة العراقية أو المقاومة العراقية تلاشى بريقها تحت زيف الإعلام بشمولة وعموميته، وتآمر العملاء والعرب ضد العراق ومقاومته، وتحولت لمقاومة محلية خافتة الصوت، أضف لكل هذه العوامل تسلل الفئة الإنتهازية لصفوف المقاومة العراقية، ومحاولة تحويلها لمشروع استثمار سياسي لمساومة الولايات المتحدة وإبتزاز المكاسب الشخصبة منها، وتهاون وتقاعس الساسة العراقيين ورؤوس الأموال التي هربت أو غادرت العراق، ولم تدعم المقاومة العراقية مادياً أو معنوياً وممارسة دورهم التضحوي لرفد المقاومة، خاصة أن أموالهم ومراكزهم هي من قوت الشعب العراقي، ومن خير العراق، وكانوا أول المهرولين بأسرهم وأموالهم واستثماراتهم، فلزاماً عليهم الأن رفد المقاومة العراقية، ولكن هذه الفئة افترشت النعيم والحرير، واستثمرت أموالها، وتدعى النضال عبر الحناجر في غرف النوم المغلقة، وكازينوهات المنفى على صوت الأرجيلة والقهوة الأمريكية، والحالة هنا تترسخ من الموقف السياسي لهؤلاء، حيث لم يجرؤ أحد منهم على تشكيل أي جسد عراقي سياسي أو اجتماعي أو حقوقي أو مدني يدافع عن العراق بفاعلية، أو يمثل صوت العراق، ولم نلحظ عراقي وقف محتجاً ضد إبادة شعبه، وإنتهاك حرمة ماجداته في مخيمات اللجوء الحدودية، وبلدان النفط، ولم نلحظ أي تجمع عراقي يعبر عن العراق، بل استكانوا وتجمعوا حول موائد حفلات الرقص والزفاف في صالات المنفى، واللهث خلف الموائد الاستثمارية، والجعجعة الفضفاضة في منتديات الغرف المغلقة فيما بينهم يتباكون، يتحاورون، ويخرجون سكارى أكثر مما هم عليه، بل ذهب البعض منهم لإستثمار المقاومة للتقرب من الاحتلال الأمريكي، ووضع موطئ قدم له بالحالة السياسة المستقبلية.
إذن فالحالة العراقية تختلف عن الحالة الثورية العربية، وهو ما اتضح جلياً في خروج الشباب العراقي الذي يطحن تحت نيران الفقر والمفخخات، والإعتقال والتعذيب، رافعاً شعار مطاليب إجتماعية وهي حالة سرعان ما تلاشت نتيجة محاولات البعض لإحتكارها واستثمارها لمآرب شخصية وحزبية. واستغلال الشباب الذي ترعرع بوجود الطائفية الطاحنة والاحتلال للعبور من خلالهم إلى نفوذ المنطقة الخضراء.
ورغم ذلك فالحراك الشبابي العراقي لا يُعبر عن حالة ثورية بل هو عملية استدراكية وإستكمالية لثورة قائمة بدأت إرهاصاتها تؤتي ثمارها بتحريك وتحفيز الشارع العراقي، واستنهاض قواه الشبابية التي بدأ يتبلور لديها الوعي المقاوم الوطني، والنضوج المستوحى من ضرورة وحتمية إسناد المقاومة العراقية شعبياً، وهو الإسناد الذي ميز الثورة الفلسطينية منذ إنطلاقها حتى راهن اللحظة، حيث مثل الشعب الفلسطيني بمنفاه وبأرضه قوة إسنادية متأججة ودافعة للثورة الفلسطينية بكل مراحلها.
فالعراق ليس مؤهل لثورة شبابية بل هو يخوض غمار ثورة ومقاومة منذ اليوم الأول للاحتلال، ولكنها ثورة تحتاج لعملية جراحية تجميلية يقودها الشباب العراقي، ويسير بها صوب التحرير وبناء مجتمع عراقي موحد بطوائفه وفئاته ومشاربه السياسية والفكرية، ويعيد عناق (عمر وعلي، وفاطمة وعائشة) ويحتفل بزفاف ماريا وبطرس من جديد، ليولد من رحم الثورة(عراق حر) يعيد زهاء الإنتصار، ويبنى وطن بملامح الأحرار وكرامة الماجدات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق