الرياح ونافذتي/ صالح الطائي


(تغريدة خارج السرب وتأملات في عقلائية رحلة ما بعد الستين)

بالأمس، في فورة شبابنا، وقمة غرورنا بأنفسنا، لم نكن ندرك التحدي الكبير الذي تمثله مقولة (سأفتح نافذتي لكل الرياح، ولكنني لن ادع الرياح تحطم نافذتي) فكنا نرددها بفخر وامتياز، لأننا لم نكن مدركين لحقيقة قوتها وجبروتها وشدة فعلها وتأثيرها، وما يمكن أن تحدثه من تغيير أو إعادة تشكيل وتلوين للشخصية والمصير. ثم مع تقدمنا بالعمر أدركنا، ولكن بعد فوات الأوان، بعض الحقائق المهمة التي كانت خافية علينا، وشعرنا بالصدمة والإحباط، بعد أن أيقنا أن كل تلك الإخفاقات والكبوات التي رافقت مسيرة حياتنا الأولى، إنما كانت بفعل تسلل مجرد نسيمات ضعيفة وصغيرة من هذه الرياح العاتية التي كنا نتحداها، نجحت في اختراق نافذتنا، فأوقعتنا بكل تلك المشاكل والإشكالات التي حملنا وزرها وتبعاتها، والتي أثرت على خط سيرنا الذي كنا نتمنى أن لا يكون بالشكل الذي كان عليه، وهي التي قادتنا إلى حافات الموت مرات، وعرضتنا لخطر المجابهة والمواجهة مرات ومرات.
اليوم وبعد أن غادرت عربات قطار العمر محطة الستين، وتساقطت نخلات بستانه الباسقة واحدة تلو الأخرى، وجفت أوراق شجره اليانعة، وذبلت وروده الزاهية، وغابت أغنيات عصافيره المرحة في صخب الأنات والآهات، حيث لم يبق ما نخاف من فقدانه، أو نرغب في كسبه،ثمت قوة من نوع آخر تدفعني لفتح نافذة المتبقي من حياتي على مصراعيتها، وأنادي كل الرياح، وأسمح لحارها وباردها ورطبها وجافها بالدخول إلى عريني، دونما استئذان، ولتكن محملة بكل ما يخطر ولا يخطر على البال، لأني أجدني، وأنا الآيل للسقوط، متحكما فيها وحاكما بمسيرها وأثرها وتأثيرها، أسخرها كيفما أشاء، وأوجهها أينما أحب، لا أنا مؤذيها فمنفرها، ولا خاضعا لها ومفلتا لها العنان لتجمح في خاطري جموح فرس مرعوب، ولي القدرة لأشم جميل عطرها، وأسد أنفي عن سيء ما تحمله، دونما تكلف أو عناء.
لكن بالأمس، وما أقربه من يوم رغم الستين، مع كل قوت، وغروري وفورة الشباب، وقلة وصغر وضعف ما تسلل منها إلى حياتي فأحدث ما أحدث، ماذا كان سيحدث يا ترى لو أنها تحدتني، واقتحمت بكل عنفوانها وجودي؟ هل كنت سأقدر على الصمود أمامها، والبقاء صلبا، متماسكا، موقنا بما أؤمن به وأعتقده، أم أنها كانت ستجرفني كليا إلى حيث تشاء مثل ورقة تتقاذفها الأمواج، أو ريشة تلعب بها الرياح، ثم تصبغني باللون الذي تشاءه، وتجعل مني الإنسان الذي تريده؟
من هذه التجربة الصغيرة، تبين لي أن الاعتداد بالنفس اليافعة، والانخداع بغرور الشباب الجامح، يحجبان عنا رؤية الحقيقة كما هي، فما تنضويان عليه من تهور واندفاع يجعلنا نرى الأشياء بغير صورتها الواقعية.
وأدركت حينها أن هناك في الدنيا أمورا كثيرة، لا شكل ولا لون لها، ولكنها قادرة على إحداث التغيير الكلي فينا، وقلب موازين حياتنا، بشكل لا يصدق، لذا يجب على الشباب أخذ الحذر والحيطة، من كل ما يحيط بهم من أفكار، وعقائد، ودعوات، ومدارس، ومظاهر، وسلوكيات، وثقافات، وأنواع الرياح التي تجلت للعيان في القرن الحادي والعشرين محملة بنسيم الثورات، وان لا ينخدعوا بظاهر دعواتها، وبريق شعاراتها، ويتأكدوا من صدق منهجها، ونظافة موردها، فقد يكون هناك تحت العسل سما زعافا، لا ينفع الترياق معه، وما تحت ظاهرها الجميل، هناك في الخفاء، دواهي تقود إلى الهلاك، ولات حين مندم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق