سنواتٌ أربع مضت على عملية الحسم التي اضطرت إليها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في قطاع غزة، بعد إتفاق مكة الشهير الذي انقلبت عليه الأجهزة الأمنية الفلسطينية التي كانت تنشط في قطاع غزة، وتمارس عملها بين المواطنين كقوة احتلالٍ بالأصالة والوكالة، تلاحق وتعتقل وتقتل، وتعذب وتهين وتستفز، وتتاجر وتحتكر وتصادر وترتشي وتمتلك، فكانت عملية الحسم التي لم يكن منها بد، ولا مجال لتجنبها أو تفاديها بحال، إذ لم تخطط حركة حماس للوصول إليها، ولم تكن ترغب أن تكون هي خيارها، ولكن ممارسات الأجهزة الأمنية الفلسطينية وعلى رأسها جهاز الأمن الوقائي، الذي كان يخطط بمؤسسه وقادته إلى الالتفاف على حركة حماس والانقلاب على نتائج الانتخابات التشريعية التي فازت فيها حماس بأغلبية مقاعد المجلس التشريعي، وعملت على ااستئصالها من جذورها، وضرب مؤسساتها التحتية، والقضاء على نفوذها، ومنع امتداد نشاطها إلى الضفة الغربية، وتآمرت مع الجنرال دايتون وإسرائيل بكل أجهزتها الأمنية والعسكرية والسياسية، وأجهزة أمنية عربية وأجنبية، لتوجيه ضربة أمنية قاسية وموجعة إلى الحركة التي أثبتت وجودها وقوتها وفعاليتها في كل فلسطين، وقررت أن تنقلب على الشرعية، وأن تسقط نتائج الانتخابات التشريعية، وأن تعيد سيطرتها الأحادية الغاشمة على مناطق السلطة الفلسطينية.
بعد أربع سنواتٍ على عملية الحسم التي أطلقت عليها حركة حماس اسم " عملية الفرقان"، وأطلقت عليها السلطة الفلسطينية اسم "الانقلاب"، توصل الفرقاء الفلسطينيون بعد جهودٍ مضنيةٍ، وسنواتٍ طويلة من الحوار والفشل والتعثر والخيبة والاحباط واليأس، إلى إتفاق مصالحةٍ وطنية جامعة وشاملة، تعيد الأمل إلى الشعب الفلسطيني، وتستعيد صورته المشرقة الوضاءة المقاومة التي عرفها عنها عالمنا العربي والإسلامي وكل أحرار الكون، والأمل في هذا الاتفاق أن يكون شافياً لكل الجراحات، وبلسماً لكل الآلام، ومداوياً لكل الأمراض التي عانى منها شعبنا الفلسطيني على مدى سنواتٍ طويلة من عمر السلطة الفلسطينية، يتم من خلالها وضع حلولٍ لكل المشاكل، واجتراح تصوراتٍ لكل الصعاب التي اعترضت حياة المواطنين الفلسطينيين، ورغم أن إجراءات المصالحة العملية مازالت تتعثر، وولادة حكومة الوفاق الوطني العتيدة متعسرة، إلا أن الأمل في نفوس الفلسطينيين مازال قوياً بأنها ستكون الشافية والواقية والحامية، وأننا لن نجد أنفسنا نعود إلى الوراء وإلى نقطة الصفر أو البدء، نجتر الحوارات نفسها، ونعيد طرح ثوابت وعقبات الخلاف التي حفظها شعبنا الفلسطيني عن ظهر قلب.
فهل تستفيد السلطة والحكومة الفلسطينية الجديدة، التي نأمل أن نصل إليها قريباً، من التجربة المريرة التي مر بها الشعب الفلسطيني من مأساة الحسم أو الإنقلاب، فيتجنبون أسبابه، ويبتعدون عن دوافهع، ويخلقون واقعاً مغايراً للظروف والمناخات التي أجبرت حركة حماس إلى إتخاذ قرارها الحاسم بالحسم، فتكون المرحلة التي مضت درساً وعبرة وعظة، نتعلم منها الكثير، ونستفيد من ويلاتها بما يبلسم جراحاتنا، ونضيف إلى تجاربنا الكثيرة خبرات أخرى، تكون لنا حكمة ورجاحة عقل، فلا نعود إلى التنسيق الأمني المقيت والمشين مع سلطات الاحتلال الإسرائيلي، ولا نركن إليه ونتحالف معه على حساب مصالح الشعب وقواه الوطنية، ولا نطمئن إلى وعوده وإغراءاته وعهوده المنكوثة أبداً، وأن يكون للأجهزة الأمنية الفلسطينية الجديدة عقيدة وطنية صادقة وصافية، لا تعرف الخيانة ولا التآمر ولا الغدر ولا الانقلاب على شعبها، ولا تعمل لحسابِ شخصٍ أو تننظيم، ولا تعتقل فلسطينياً مقاوماً مناهضاً للاحتلال، ولا تعرض المعتقلين في سجونها إلى التعذيب والإهانة وسوء المعاملة، بل عليها أن تتوقف عن الاعتقال كلياً، وأن تبيض سجونها من كل من فيها من الشرفاء والمقاومين، وأن يكون لدى الأجهزة الأمنية الفلسطينية الجديدة النية الصادقة لأن تكون سنداً لشعبها، وعوناً له، فلا نراها وهي تقتحم البيوت والمنازل، وتحطم الأبواب والمكاتب، وتنهب الجمعيات والمتاجر، ولا نراها وهي تحمل العصي والهراوات الثقيلة وتنهال بها على أبناء الشعب الفلسطيني في الشوارع والطرقات لتعطي صورة بشعة ومشينة عنها أمام شعبها والرأي العام العربي والإسلامي، فهذه كلها وغيرها كانت أسباب الحسم ووقوده.
نتعلم في الذكرى الرابعة للحسم الذي بدأت ملامحه في الأفول والغياب، ليحل مكانها أملٌ بالوحدة والاتفاق لما فيه خير الشعب ومصالحه، أن سلاح المقاومة خطٌ أحمر، وثابتٌ من ثوابت الشعب الفلسطيني الأساسية، فلا تخلي عنه، ولا استغناء عن وجوده وامتلاكه وتخزينه وتطويره، فلا تسعى السلطة الفلسطينية إلى جمع سلاح المقاومة وتجريد أهلها من سبل القوة والحماية، التي تحول دون تغول العدو واستمرائه قتل الشعب الفلسطيني والنيل منه، فسلاح المقاومة شرفٌ للأمة وعنوانٌ لعزتها وكرامتها، وهو الذي يحميها من غدر الإسرائيليين وخبثهم، ويضع حداً لأحلامهم وطموحاتهم، فلا ننقلب على سلاح المقاومة، ولا نتآمر مع العدو الإسرائيلي عليه، ولنبقه في أيدي المقاومين الشرفاء حصناً منيعاً، وجداراً عالياً، يحمي شعبنا من مؤامرات عدونا التي لا تنتهي، ولتكن المقاومة هي الخيار، وأن يكون لها قيادةٌ عسكرية مشتركة، تؤمن بالقوة والسلاح والمقاومة، وتعمل على تحصين الشعب الفلسطيني كله، وتمكينه بكل أسباب القوة والصمود، لئلا يكون يوماً لقمة سائغة لدى العدو الإسرائيلي، الذي يبحث دوماً عن نقاط الضعف في شعبنا، ويستغل مراحل الاختلاف فينا، لينفذ أحلامه ومخططاته، فالعدو الإسرائيلي تخيفه القوة، وترعبه الوحدة، وتقلقه المصالحة، ويربك خططه وبرامجه التوافق والإتفاق.
من لم يتعظ بالموت فلا واعظ له، ومن لم يتعلم من تجاربه فلا معلم له، والكيِّسُ الفطن من تعلم من حساب غيره لا من حسابه، والانقسام كان لدى الشعب الفلسطيني بمثابة الموت وأكثر، فقد صنع حالات موتٍ كثيرة، وتسبب في هلاك الكثير وعذابهم، منه استفاد العدو، وعلى أنقاضه بنى مستوطناته، ونفذ مخطاته، وتطاول في أحلامه، وتغطرس في شروطه وإملاءاته، فكان الانقسام وويلاته خير واعظٍ ومعلم، فلا خير فينا إن لم نتعلم منه ونتعظ، فلا نعود من جديدٍ إلى أسبابه ومبرراته، ولا نكون كالخراف التي تساق كل صباحٍ إلى المذبح ولا تتعلم، فنحن شعبٌ عزيزٌ حرٌ كريم، أتقنا المقاومة، وحملنا رايتها بشرف، فلا نلوثها بممارساتٍ معيبة، وسلوكياتٍ مشبوهة، وتحالفاتٍ خيانية، ولا ننقلب على شعبنا، ولا نتآمر عليه وعلى مقاومته، فهو عدتنا وآلتنا نحو العودة والتحرير، فلنحافظ على كرامته، ولنصن عزته، ولنكن له نصيراً ومعيناً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق