يمر عام على اعتصام نواب القدس في مقر الصليب الأحمر في القدس،احتجاجاً على القرار والقانون الإسرائيلي اللاشرعي وغير القانوني والمخالف لكل الأعراف والقوانين والمواثيق والاتفاقيات الدولية،قانون "قراقوشي" يلزم أبناء الشعب المحتل بإعلان ولائهم للدولة التي تحتلهم،قانون حتى في عهود الظلام وأشد أنواع الديكتاتوريات لم يكن له مثيل،ولكن إسرائيل ما دامت ترى في نفسها دولة فوق القانون بحكم المظلة والحماية التي توفرها لها أمريكا وأوروبا الغربية في المحافل والمؤسسات الدولية ضد أي قرارات او عقوبات قد تتخذ ضدها وبحقها على خلفية عدم احترامها وخرقها وخروجها السافر على كل قرارات وقوانين الشرعية الدولية،فالنواب المقدسيين هؤلاء جرى انتخابهم بطريقة ديمقراطية في كانون ثاني/2006 وبموافقة إسرائيل ومن خلفها أمريكا وأوروبا الغربية،ولكن عندما جاءت تلك الديمقراطية نتائجها مغايرة ولم تأتي على مقاساتهم،تنكروا لتلك الديمقراطية وشنوا حرباً شعواء على الشعب الفلسطيني،ولم نسمع من مؤسسات حقوق الإنسان ودعاة الديمقراطية والعدالة والحرية أي استنكار أو موقف جدي لا على صعيد إدانة واستنكار هذا السلوك أو المطالبة برفض عقوبات على إسرائيل بسبب ما قامت به من إجراءات وممارسات عقابية وغير شرعية بحق الشعب الفلسطيني من حصار وتجويع للقطاع واعتقال ومحاكمات للنواب المنتخبين،ولم تكتفي إسرائيل باعتقال نواب القدس من كتلة الإصلاح والتغيير ومحاكمتهم،بل أصدرت بحقهم أوامر إبعاد عن مدينتهم التي ولدوا وترعرعوا فيها،تلك المدينة المحتلة وفق القانون الدولية،وعندما رفض نواب القدس محمد ابو طير واحمد عطون ومحمد طوطح ووزير شؤون القدس السابق خالد ابو عرفة هذا القرار،جرى اعتقال النائب ابو طير لمدة خمسة شهور ومن ثم أفرج عنه وأبعد قسراً الى رام الله،أما الآخرون فقد اعتصموا في الصليب الأحمر ليس هرباً أو خوفاً من الاعتقال،بل احتجاجاً ورفضاً لهذا القرار ومحاولة اقتلاعهم من مدينتهم وإصراراً على الصمود والبقاء فيها.
إن استهداف نواب القدس بالإبعاد عن مدينتهم،يخفي ويكشف في آن واحد الكثير مما تخطط له إسرائيل بحق المدينة المقدسة،بحق نخبها وقياداتها وكفاءاتها السياسية والمجتمعية والوطنية والدينية والاجتماعية،فهي تريد من خلال طرد وإبعاد نواب القدس ان تشرعن تلك العمليات،وتهدف كذلك لتفريغ المدينة من قياداتها ونخبها أولاً ومن ثم سكانها ضمن سياسة التطهير العرقي وأسرلة وتهويد المدينة،وليس هذا فحسب،فهي تريد أن تردع الحركة الوطنية المقدسية وتمنع تبلور أي وعي وطني مقاوم.
وعملية الاستهداف لا تطال النواب المقدسيين فقط،بل هناك حرب شاملة تشن على المدينة،حرب على الوجود والهوية والثقافة والوعي والذاكرة والتاريخ والأرض وكل شبر وزقة وحارة وشارع،فالمقدسيين على مدار الساعة في اشتباك مع الاحتلال وعلى كل الصعد وفي كل المجالات والقطاعات،فهناك تواتر وتسارع في القرارات والتشريعات والقوانين التي تهدف لطمس كل معالم الوجود العربي والإسلامي في المدينة وقلب وتزوير الحقائق وتغير المعالم الجغرافية والحقائق التاريخية،فمن قانون الولاء الذي يشترط ولاء العرب المقدسيين لدولة الاحتلال إلى قانون اعتبار القدس أولية وطنية في التطوير"تهويد المدينة"،إلى قانون الاستفتاء،ربط أي انسحاب من مدينة القدس باستفتاء الجمهور الإسرائيلي عليه وبعد مصادقة 61 من أعضاء الكنيست عليه ،فقانون اعتبار القدس ليس عاصمة ل"إسرائيل"بل لكل يهود العالم ...الخ.
واليوم في ذكرى مرور عام على اعتصام نواب القدس ووزير شؤونها السابق في الصليب الأحمر بالقدس،فإنني أشدد على ان معركة النواب مع الاحتلال هي معركة سياسية بامتياز ومعركة إرادات وصبر وصمود وتحدي على الأرض والوجود أكثر منها معركة وثائق وقوانين،ورغم أن اعتصام النواب في الصليب الأحمر احدث حالة من الحراك الشعبي والجماهيري في مدينة القدس،وخلق حالة واسعة من التواصل والتفاعل ما بين النواب وأهل القدس وجماهيرها وفعاليتها ومؤسساتها،فإن هذا الحراك والتفاعل في ظل غياب الآليات والحوامل التنظيمية والسياسية والجماهيرية والتأطير والتنظيم،بدأ في الخفوت والتراجع مؤخراً،وهذا يضع القوى الوطنية والإسلامية واللجنة الوطنية لمقاومة الإبعاد ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي في مدينة القدس أمام مسؤولياتها بضرورة وضع خطة ورسم إستراتيجية جديدة،لكيفية تفعيل هذه القضية وعبر آليات وحوامل نشطة وفاعلة،فالقضية لا تهم النواب وحدهم،بل تهم كل مواطن مقدسي فالاستهداف شامل ويطال الجميع.
صحيح أن الكثير من المؤسسات الحقوقية الدولية والعديد من البرلمانيين الأوروبيين زاروا وتضامنوا مع نواب القدس وحملوا رسالتهم الى دولهم وشعوبهم ومؤسساتهم،ولكن تلك الحركة والرسائل والتقارير المعدة لم تثمر نتائج ملموسة على الأرض في ردع الاحتلال عن طرد وإبعاد النواب المقدسيين،وهذا يثبت التعاطي والكيل بمكيالين من قبل القوى النافذة في المؤسسات الدولية وبالذات أمريكا وأوروبا الغربية مع قوانين ومقررات الشرعية الدولية،ولو كان هناك تحرك دولي جاد وحقيقي ومستند لمعايير الشرعية الدولية وقوانينها وقراراتها لأجبر إسرائيل على التراجع عن خرقها وخروجها السافر على الشرعية الدولية وقراراتها وقوانينها،وأيضاً ما نسجله هنا أن حجم التعاطف والتضامن الدولي مع النواب المقدسيين كان أكبر وأوسع من التضامن العربي نفسه شعبياً ورسمياً.
وأيضاً السلطة الفلسطينية من جانبها لم تقم بدورها وواجباتها في تفعيل وطرح قضية هؤلاء النواب في الهيئات والمؤسسات والمحافل الدولية والمنظمات الحقوقية والبرلمانية،وكذلك البعثات والممثليات والسفارات الفلسطينية دورها في هذه القضية شبه غائب،إن لم يكن هناك غياب كلي،والسلطة هنا مطالبة بحراك جدي وعملي في هذا الجانب،فقضية النواب هي قضية المقدسيين جميعاً،ولا يحق لها أن تستمر في التعامل مع هذه القضية بنمطية ورتابة عاليتين،فهذه قضية فيها اختبار جدي وحقيقي للشعارات والبيانات التي نسمعها ليل نهار،بأن القدس لن تكون إلا عاصمة للدولة الفلسطينية المستقلة،فلا أحد يتصور عاصمة بدون بشر.
وفي الختام وبمرور عام على اعتصام النواب المقدسيين في الصليب الأحمر بالقدس،نقول بأن هناك حرباً شاملة تشن على المدينة المقدسة،حرباً تدور الآن على احتلال الوعي وطمس الذاكرة وإلغاء الوجود ونفيه،حرباً على الهوية والثقافة والتراث والتاريخ والجغرافيا،وعبرنة وتهويد المدينة شوارعاً وأحياءاً تجري على قدم وساق،ومستوطنات ووحدات استيطانية تزرع بالآلاف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق