"إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما"، آيةٌ في كتاب الله عز وجل، وهي قاعدة أساسية في أصول فض النزاعات والخلافات، وإنهاء التشتت والإنقسام، والقطيعة والخصام، وعلى أساسها تبنى نتائج الحوارات والمفاوضات، فهي تضع الشروط الضامنة لحل أي مشكلة، وتجاوز أي أزمة، وتنبئ المحاورين مسبقاً بنتائج الحوار، وترسم حقيقة المآلات والنهايات، وفيها تأكيدٌ من الله جلَ في علاه أن يوفق بين الفرقاء، وأن يقرب بين وجهات نظرهم، وأن يلقي في قلوبهم المحبة والسكينة والوفاق، وأن ينزع ما في قلوبهم من غلٍ وحقدٍ وشحناء، ويزيل كل أسباب القطيعة والخلاف، ولكن البارئ عز وجل يشترط في المفاوضين حسن النية، وسلامة الطوية، ونقاء الصدر، وشفافية القلب، وأن تكون مقاصدهم من الحوار نبيلةٌ وشريفة، وغاياتهم صادقةٌ وأمينة، فلا مصالح ذاتية، وغاياتٍ فردية، ولا محاولاتٍ كيدية، ومساعي تغريرية، ولا مفاوضاتٍ سرية وقنواتٍ خلفية، ولا محاولاتٍ للإلتفاف وجهودٍ للإفشال، ولا رعاة مخادعين، ووسطاء غير نزيهين، ولا أجواء شحناء ومناخات فتنة، وإنما قلوبٌ صافية، وضمائر حية، ونوايا صادقة.
فهل يدرك المحاورون الفلسطينيون في القاهرة هذه القاعدة الربانية، ويعرفون أن الله عز وجل يرقبهم ويتابعهم ويعرف خبايا نفوسهم وخفايا عقولهم، ويسجل عليهم خطواتهم وسكناتهم وكلماتهم وهمساتهم، فلا يستطيعون الكذب عليه عز وجل، ولا خداعه ونفاقه، ولا تضليله والمناورة عليه، وأن نتيجة حواراتهم ولقاءاتهم منوطة بمدى صدقهم وإخلاصهم، لذا فإن عليهم أن يكونوا صادقين مع الله أولاً ثم مع أنفسهم وتجاه أهلهم وشعبهم، وأن يكونوا لهم خير مندوبين ومفوضين، فالرائد لا يكذب أهله، ولا يخون عشيرته، ولا ينقلب على مصالحهم وشروطهم، كما ينبغي أن تكون غايتهم المصالحة، وهدفهم إنهاء الإنقسام، واستعادة الوحدة الفلسطينية، ولم شمل الشعب الفلسطيني، وجمع شتاته الذي أصابه التشتت والضياع، واستعادة صورته النقية، وسيرته البهية، ومقاومته الشريفة الأبية، عل الله يبارك في مساعيهم، ويكلل جهودهم بالنجاح والتوفيق، ويحقق لهذا الشعب المعنى آمانيه وطموحاته، ويلبي آماله وغاياته، ويستجيب إلى دعوات نساءه وأطفاله، ونداءات المخلصين من أبناءه، ويحفظ دم شهداءه، ومعاناة أسراه وجرحاه، ويعوض أهلهم على ما أصابهم خيراً، والشرط الرباني لنجاح المفاوضات والحوارات واضحٌ جلي لا لبس فيه ولا غموض، فهو النية الصادقة، والمسعى الخالص، والله هو الشاهد على ذلك والحكم عليه.
النية الصادقة والرغبة في الاتفاق تعني أن نجرد أنفسنا من حظوظ النفس، وحسابات الذات، والمصالح الخاصة، والمكاسب الفئوية، وأن نبدأ من ساعتنا في وأد كل أسباب الفتنة والخلاف، وتجاوز كل معوقات المصالحة والاتفاق، ولنتفق على رجلٍ جامعٍ، حكيمٍ صادقٍ مشهود له بالسيرة الحسنة، ونقاء الصفحة، وخلو ماضيه من التآمر والتحايل والفساد، ويكون محل إجماعٍ من كل الأطراف، ورضى من كل الأهلن والشعب الفلسطيني فيه الكثير من الشرفاء الأطهار الأنقياء، من ذوي الخبرة والكفاءة والسيرة العطرة الحسنة، ممن لهم سابقة في المقاومة والمعاناة، وقدموا تضحياتٍ بالمال والنفس والولد، ولديهم الاستعداد الصادق لأن يكونوا في خدمة شعبهم كله، وأن يرفعوا عنه المعاناة ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ممن لا يلتزمون بغير العهد مع شعبهم، والميثاق مع أهلهم، ولا يلجأون إلى عدوهم، ولا يستنصرون به على شعبهم، فهؤلاء لا نتشرف بهم، ولا نقبل أن يكونوا على سدة الحكم في أرضنا، ونخجل من طرح أسماءهم قادةً لنا، ورؤساء لحكوماتنا، وفي الشعب الفلسطيني من لا يرى في المنصب تشريفاً بل تكليفاً، ومن يعتبره أمانةً وتمحيصاً وابتلاءاً واختباراً، ومن يراه مغرماً لا مغنماً، ومضماراً للتنافس في خدمة الشعب وليس مجالاً للكسب والإثراء والمنفعة الذاتية الشخصية.
النية الصادقة تعني المباشرة الفورية في وقف كل الحملات التحريضية والدعائية ضد الآخر، والتخلص من كل الأوهام والشروط السابقة، والانعتاق من كل المرجعيات المتآمرة، والالتفات إلى مصالح الشعب الفلسطيني، الذي دفع وحده دون غيره ضريبة الانقسام، حصاراً وحرماناً وقتلاً وعدواناً، وجوعاً ومرضاً وموتاً، وتشويهاً للصورة، وحرفاً للبوصلة، وتشتتاً للجهود، وضياعاً للفرص، ولتكن وقف حملات التحريض هي الخطوة الأولى في مسيرة الوفاق، فلا أبواق فضائية تتهم وتخون وتشحن وتحرض، ولا أقلام وصحافة تجدف وتشوه وتسعر نار الفتنة، ولا قادة ومسؤولين يخربون ويفسدون حرصاً على مصالحهم، وخوفاً على مناصبهم، وأملاً في بقاء الحال على ما هو ليكون لهم دور ووظيفة، إذ لا قيمة لوجودهم في ظل معافاة الوطن وسلامة صفه واتفاق أهله.
النية الصادقة تعني توفير العيش الكريم لكل أبناء الشعب الفلسطيني، وعودة جميع العاملين والموظفين إلى أعمالهم وظائفهم، وإعادة رواتبهم ومستحقاتهم، والتوقف عن إجراءات الفصل التعسفي، والحرمان الوظيفي على قاعدة الانتماء الحزبي والتنظيمي، فلا محاربة لأبناء الشعب في لقمة عيشهم، وفي قوت أسرهم وحليب أطفالهم، فهؤلاء جميعاً هم أبناء الشعب الفلسطيني، وكرامتهم كرامة لنا جميعاً، وعزتهم عزة للوطن كله، ومهانتهم ضعفٌ للشعب وكسرٌ لشوكته، وإضعافٌ لصموده وإرادته، ولعل عودة جميع العاملين من كل القوى والفصائل إلى أعمالهم، يعيد رسم الصورة الجميلة للشعب الفلسطيني، الصورة القائمة على الوحدة والتفاهم والالتقاء، في ظل التنوع والتميز والاختلاف، التي تعني القوة والتحدي والإرادة.
النية الصادقة تعني تبييض السجون كلها، والإفراج عن المعتقلين جميعاً، فلا شئ يؤلم النفس ويدمي القلب ويوخز الضمير أكثر من المعتقلين في السجون الفلسطينية، ولا شئ يرضي أهلنا ويدخل الفرحة والمسرة في قلوبهم سوى رؤية أبنائهم أحراراً طلقاء، فلا أمن يلاحقهم، ولا محققين يجلسون معهم، ولا سجانين يعذبونهم ويسيؤون إليهم، ولا ملاحقات واستدعاءات أمنية لهم، ولا شهادات سلامة تبرؤهم، وأخرى تدينهم، ولا معلومات أمنية تقدم إلى العدو عنهم، فلا مكان في ظل المصالحة لمكاتب التنسيق الأمني، وتبادل المعلومات المشتركة، وإنما لجانٌ وطنية مشتركة، تضم كل القوى الفلسطينية، وأطياف الشعب كله، ممن يحرصون على الوطن، ويؤمنون بوحدة الأرض والشعب، ويسعون إلى التحرير والانعتاق وبناء الدولة والاستقلال.
كلام الله الخالد هو الحق الفاصل المبين، وهو الصدق والعدل واليقين، فإن كانت النوايا صادقة، كانت النتائج مرضية، وسيباركها الله، وإن كانت النفوس خبيثةٌ مريضة، تسعى لمصالحها، وتخدع شعبها وأهلها، فإن النتيجة ستكون انقساماً أعمق، وخلافاً أشد، وفرقةً أبعد، وسينزع الله البركة منهم، ولن تكون فيهم الخيرية، وسيأتي من بعدهم من ينقلب عليهم ويرفضهم ويستبدلهم، لأنهم يكذبون ولا يصدقون، ويتآمرون ولا يخلصون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق