شباب فلسطين، أو شباب ائتلاف 15آذار كما يسمون أنفسهم الآن، هم الذين قادوا اليوم المشهود في ساحة الكتيبة يوم 15آذار الفارط ، وكان شعارهم الرئيسي "الشعب يريد إنهاء الانقسام" مستوحى من الانتفاضات العربية التي نادت بـ "الشعب يريد إسقاط النظام"، فهاهم طرفي الانقسام في الصف الفلسطيني قد وقعوا اتفاق مصالحة فيما بينهم بحضور حملة المباخر من الأطراف الفلسطينية الأخرى، ومضى شهر على الاتفاق دون تحقيق أي شيء على الأرض سوى بعض التصريحات المطمئنة من بعض القيادات، وكان من المفترض أن تتشكل في خلال الشهر حكومة التكنوقراط المنشودة، وبدأت تطفو على السطح عراقيل تشكيل تلك الحكومة ممثلة برئيس وزرائها المفقود حتى الآن! سواء شكلت الحكومة خلال الأيام القليلة القادمة أم لم تشكل؟ يتصدر مهام الحكومة القادمة مشكلات الشباب الفلسطيني خصوصا في غزة وحاجاتهم المشروعة في توفير الظروف الملائمة لهم كي يعيشوا باطمئنان في وطنهم، ومن ثم يحملوا الوطن على سواعدهم ويسهموا في البناء والانجازات الحضارية والوطنية التي تبنى عليها الأهداف المرجوة لشعبنا، فهل ينجح السياسيون في حل هذه المعضلة؟ خصوصا أن وظيفة حكومة التكنوقراط القادمة هي البناء وتوحيد شطري الانقسام؟؟
تصنف المجتمعات أو الدول إلى هرمة، وفتية.. فالمجتمعات الهرمة هي: التي تفتقر نسبيا إلى عنصر الشباب، أما المجتمعات الفتية تكون نسبة الشباب فيها كبيرة، ولعل المجتمعات الهرمة هي الدول القوية والمتقدمة والغنية ولديها فائضا كبيرا في الإنتاج، لكنها خائفة من استمرار هرمها؛ فتحاول جاهدة في تشجيع مجتمعاتها على زيادة النسل للحفاظ على بنية مجتمعاتها قوية بزيادة فئة الشباب التي يعتمد عليها في الإنتاج، ومن بين الخطط التي تعتمدها خوفا من أن تنتقل إلى الشيخوخة هي: استيعاب منتقى للمهاجرين الشباب من الدول النامية أو الفقيرة التي لا تهتم بتفعيل دور الشباب واستغلالهم في بناء أوطانهم، ولو فحصنا هؤلاء المهاجرين وطالبي اللجوء في تلك الدول لوجدنا غالبهم من دول دكتاتورية تستبد فيها طبقة أوليغارشيا حاكمة كما معظم الدول العربية على حساب فئات الشعب الأخرى، تفتقر إلى النزاهة والشفافية والعدالة الاجتماعية.. ومما يؤسف أن هذه الدول بأغلبها هي دول فتية فيها نسبة الخصوبة عالية، وها هو قطاع غزة يحتل المراتب الأولى عالميا في نسبة الخصوبة، ولو أتيحت لشبابنا الفرص السهلة للهجرة لوجدنا قطاع غزة يخلو من الشباب وسنحتل المرتبة الأولى في تصدير أبنائنا، تهاجر لتبني مجتمعات أخرى.. وفي الغالب أن الشباب الناجح والمبدع منهم يهاجر بلا عودة، وهذا يدعونا للتساؤل؟ لماذا لا يعود هؤلاء الشباب لأوطانهم حتى ولو زيارة؟؟ نعتقد بأن هؤلاء إما أن تكون المعاناة التي عايشها في وطنه قد جعلته يكفر بقيم الوطن خصوصا إذا ما قارنها بوطنه الجديد الذي وجد فيه تحقيق ذاته، ونال فيه حريته وكرامته وضمان مستقبله في العيش الكريم، أو تكون لمهنته الجديدة خصوصية تكاد لا تعطه فرصة العودة وزيارة وطنه الأم..! كثير من الحالات التي عملت في دول الخليج والسعودية بجنسيات غربية وبرواتب عالية جدا، وعندما انكشفت جنسياتهم الأم تدنت رواتبهم أو طردوا من تلك الدول.. ماذا نسمي هذه السياسة وهذه المعاملة؟؟
شباب غزة لا يهمهم شكل الحكومة القادمة بقدرما يهمهم برنامج البناء الذي ستتبناه الحكومة، وهل سيحمل برنامجها ما يستوعب هؤلاء الشباب والاهتمام بهم، وكذلك ينتظرون مستقبلا كريما تتحقق فيه القيم الإنسانية العليا التي تشكل جوهر الديمقراطية، ومن بين تلك القيم: احترام مبدأ تداول السلطة طبقا لإرادة الشعب، وكفالة حرية تأسيس وإقامة تنظيمات واتحادات سياسية وغير سياسية لتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم، واحترام سيادة القانون، وحماية حقوق وحريات المواطنين، وضمان تعدد الإرادات المشاركة في صنع القرار وعدم الاستفراد به سواء من فتح أو من حماس أو منهما معا، ولعل الحكومة القادمة ليس لديها الوقت الكافي لتحقيق كل قيم الديمقراطية والمجتمع المدني، لكن خصوصيتها المستقلة تعطيها الفرصة للبدء في تحويل المجتمع إلى مجتمع مدني من خلال العمل السليم والشفاف والنزيه وعدم تسييس وزارات الدولة ومؤسساتها، قد تكون فرصة نادرة لا تتكرر مرة أخرى إذا منحت هذه الحكومة كامل الصلاحية في البناء، والبناء هنا ليس بمعناه الحجري.. إن بناء الإنسان الفلسطيني بمؤسساته الإنتاجية والثقافية هي التي ستقودنا إلى البناء الأقوى والأجمل، وإن ذلك لا ينهض إلا على شكيمة ووعي للأفراد المنغمسين في ديناميكية المجتمع بكل تنوعاته واختلافاته وعلى كافة الصعد، السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.. من هنا تأتي ضرورة اندماج الشباب في الفعاليات المدنية المتاحة، وفتح المجال أمامهم لخلق أشكال جديدة من الفعاليات الحرة والمنبثقة من مشاكلهم، ومن همومهم المعاشة ثقافيا ووطنيا، ومن تصوراتهم للحلول المناسبة لهذه المشاكل. إن العمل المدني هو الفضاء التأهيلي الأمثل لاكتساب قيم الديمقراطية والتدرب على سبل وأشكال ممارستها، وغياب هذا الفضاء يشكل خطورة، تتمثل في: أولا: حرمان الشباب من التعامل مع الآخر حضاريا واحترام اختلافه واختلاف رأيه، وهذا يؤدي إلى أخطار جسيمة منها: بناء جيل عدواني بقناعاته، قمعي، عنيف، لا يسمح بحرية الاختلاف، ولا يؤمن بنسبية الحقائق والقناعات الموروثة من القبيلة والعائلة والطائفة أو تلك المكتسبة من أجهزة تلقين الأيديولوجية الحاكمة. ثانيا: دفع الشباب الذين لم يتح لهم استثمار حيويتهم وطاقاتهم وإمكاناتهم في مجالات العمل المدني المتمثل للقانون والمفيد اجتماعيا إلى التحول نحو تجمعات تزدري القانون وتتحايل على السلطات وتساهم في الفساد، ولا غاية لها سوى الهروب من المسئوليات وتحقيق مكاسب شخصية بأسرع وقت ممكن، تمثل في عصابات الأنفاق ومهربي ومروجي المخدرات، وكذلك تحت ستار المقاومة ظهر أشخاص أو مجموعات تمتلك أموالا هائلة أثرت وتؤثر في القرارات السياسية وغيرها، يضاف إليهم عصابات الـ NGOs. ثالثا: ظهور جيل من المتملقين المرائين الحاملين لثقافتهم الخاصة سواء في فتح أو حماس قطبي السلطة التي احتكرت الفضاء المدني وتقاليد التعددية، وكأن المجتمع والوطن بمؤسساته ملك لهما فقط !. كنت أراقب عن كثب نشاطات الشباب الأخيرة والتي أدت إلى فعاليات 15آذار ومن ثم التحضير لمؤتمر الشباب الذي منعت إقامته حكومة غزة مؤخرا لاحظت الفجوة الكبيرة بين الشباب والجيل الأكبر، وحتى جيل ما بعد 35سنة، حيث جاء في مواد شروط العضوية بأن المنتسب لهم ومن يريد الالتحاق بهم يجب أن لا يتعدى عمره 35سنة!! هذا معناه أنهم يريدون استثناء الشباب الأكثر خبرة، وقد يعتبرون من هم فوق هذا العمر يكونوا قد تعدت اهتماماتهم التي قد ترتكز في محورها الشباب العاطل عن العمل، هذه الرؤية تؤكد الخوف من استيعاب قادة هؤلاء الشباب وتوظيفهم، كما حصل لنقابات العمال في السابق..؟ لنعود من جديد في حراك شبابي آخر وهكذا...
من هنا، يمكننا القول: بأن العمل المدني مدرسة للديمقراطية، وفضاء للتدرب على المشاركة الفعالة في بناء المجتمع، وفي التنمية الوطنية، ومما لاشك فيه أن قيادة عملية التنمية والمشاركة الاجتماعية والسياسية بحاجة إلى خبرة ومراس يتوفران في من أتيح لهم شحذ هممهم على محك الحياة والممارسة أو من شكلت لهم ظروف حياتهم الخاصة مدرسة يومية يعتصرون خبراتها ويحرقون فيها مراحل التأهيل المدنية، غير أن السواد الأعظم من شبابنا لا تتوفر لهم هذه الإمكانات ولا سبيل أمامهم لتعلم أخذ المبادرة وتحمل المسئولية واجتراح الحلول واتخاذ الخيارات والمواقف المناسبة لسلامة المجتمع وتطوره. وهذا ما قد توفره المنظمات والتجمعات المدنية التي كلما ازدادت وتعمقت فعاليتها، ازدادت وتعمقت إمكانية جسر الهوة بين أجيال الخبرة والتجربة وأجيال الحماسة والاندفاع، بما يسمح بنقل أمثل للخبرات وبانسجام مستمر بين الحاجات المتجددة للمجتمع وديناميكية الإبداع والتنمية والتقدم.. والعمل المدني أخيراً هو بوتقة لصياغة الوحدة الوطنية المتينة؛ فالانتماء الإرادي الطوعي المتجرّد عن المصلحة الفردية الضيقة إلى المنتديات والجمعيات والتنظيمات ذات الأهداف الاجتماعية والثقافية والسياسية العامة يوجّه طاقات الشباب نحو تشبيك علاقات المواطنة وتمتين التراص الأفقي للمجتمع، في حين يقود غياب هذا الشكل من الترابط إلى انكفاء الأفراد إلى عصبياتهم وإلى توجههم إلى روابط جماعية أو عضوية تقوي الترابط العمودي بين أعضاء نفس الجماعة العضوية (الطائفية، العشيرة، القبيلة بل والعائلة) مما يكرّس الشروخ في لحمة المجتمع ويؤسس لإمكانية تصدّعه وانكساره، كذلك إن هيمنة الأحادية التنظيمية والفكرية على عمل الشباب وقولبته وتأطيره على مقاسات الأيديولوجية المتسلطة أو الحزب القائد تعكس بشكل محزن ضعفاً حقيقياً في السلطة، وعجزاً في قدرتها على التعامل مع الاختلاف والتعدد، وتعكس أيضاً القناعة، المقنّعة، لدى السلطة بأنها ليست سلطة كل الشعب بل سلطة جزء منه.. وهذا ما يعني أن هذه السلطة تصعّد معرفتها بعجزها وبقصورها عبر نشاطها القمعي وعبر سياستها الشمولية إلى تغليب جزئيتها على كليّة المجتمع؛ لذلك تبدو حركية المجتمع المدني وانغماس الشباب فيها واستثمار حميتهم واندفاعهم ووطنيتهم في إذكاء هذه الحركية دليل على صحة المجتمع ودليل، قبل كل شيء على قوة الدولة وعلى كونها دولة لكل المواطنين.. هذا ما نطمح أن نراه ونلمسه في برنامج وعمل الحكومة القادمة لأن الشباب هم مستقبلنا ولا مناص من تفعيل دورهم في بناء هذا المستقبل الذي لا يختلف اثنان في تمني أن يكون مستقبلا كريما تتحقق فيه القيم الإنسانية العليا التي تشكل جوهر الديمقراطية.. حينها فقط ! سنكون أقوياء في بناء دولة المستقبل، وسنقف في مواجهة كل التحديات بثقة عالية.. وأخيرا إن لم نستوعب التجارب السابقة؛ فالمستقبل سيكون غامضا ومشروعنا الوطني سيبقى بين قوسين أو أدنى، وشعار الشباب الجديد سيتغير من إنهاء الانقسام الذي لم يكن في محله إلى الفوضى وإسقاط النظام!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق