محمد أمين دوغان: إنها ليست الحقيقة التي رأيتها/ صالح الطائي

(من وحي ذكرى ثورة 14 تموز 1958 التحررية)

في مكتبة صديقي الأستاذ رائد عبد الحسين السوداني كتاب طالما حدثني عنه وعن إعجابه به حتى انه رغم ضيق الحال يتمنى لو اهتدى إلى ورثة المؤلف الذي توفي في 10 شباط 2006 (*) في بيروت ليستأذنهم بإعادة طباعة الكتاب على نفقته الخاصة ليوزعه على السياسيين العراقيين الذين يقودون المسيرة اليوم من سيء إلى أسوأ عسى أن يستفيقوا من غفوتهم ويصحوا من غفلتهم.
عنوان الكتاب هو (الحقيقة كما رأيتها في العراق) والمؤلف هو الكاتب اللبناني محمد أمين دوغان رئيس تحرير صحيفة الشعب اللبنانية، والكتاب يتحدث عن حقبة أواخر خمسينات القرن الماضي ابتداء من 14 تموز 1958 تاريخ ثورة التحرير ولغاية عام 1962 تاريخ زيارته الثانية للعراق.
وقد بدأ الأستاذ السوداني بكتابة رؤاه وتصوراته عن موضوع الكتاب على شكل قراءة من حلقات نشر القسم الأول منها الذي ما إنْ قرأته حتى شدتني فقرة نقلها السوداني من الكتاب يتحدث المؤلف فيها عن انطباعاته التي كونها خلال زيارته الثانية للعراق عام 1962 بعد سنتين من زيارته الأولى قائلا: (لا أكتم القاريء أنني شعرت بعد سنتين من زيارتي الأولى للعراق بالفرق الهائل الذي حققته الثورة في الحقل العمراني، فالصرائف كانت تملأ الطرقات، وكانت الطرقات تعج بالغبار (والطوز) وكان الذباب يأكل الوجوه والأبدان، وكانت الأقذار تفوح من كل مكان، هكذا رأيت بغداد منذ سنتين، رغم ما كان بها من شوارع فخمة، ولكن الانطباعة الأشد بروزا وقوة كانت تأتي من الصرائف والأقذار. أما اليوم فقد انقلب الموقف في بغداد، وأصبحت الشوارع والأبنية، والمساكن التي بنيت بالآلاف، والتي نبتت كما ينبت الفطر في الأرض، قد قلبت وجه العراق، وجعلته حديقة غناء، أو طرقا مستقيمة كأنها ألواح زجاج . حقائق عشتها بنفسي، ولا بد للأعمى وحده أن لا يراها، ولكنه ولا شك يحس بها عن طريق الشم والسير والهواء !)
ومن يعرف ما تعرضت له ثورة الرابع عشر من تموز التحررية من مؤامرات ودسائس، فضلا عن العوارض الأخرى مثل مقدار الخزينة العامة للدولة، ونوع الخبرة التي كان يمتلكها العراقيون يومذاك، ومقدار الرغبة بالتجديد والتحديث عند العراقيين، ونوع الكوادر المتقدمة والوسطية من الخبراء والمصممين والإداريين، يعرف أن جل ما تقدر الثورة على تقديمه للشعب لا يتجاوز مجرد وعود مخدرة وآمال بالبناء، وحديث عن التطور والتقدم المرتقب. ولكن الكاتب وهو يتحدث عن سنتين فقط من عمر الثورة وصف الانقلاب الجذري الذي أحدثه الإخلاص والنزاهة والشرف بحيث تمكن قادة الثورة من إلباس بغداد ثوبا عصريا واعدا فاختفت الصرائف التي كانت تنتشر في العاصمة، وتخلص الناس من غبار الطرقات غير المعبدة وأوحالها وأطيانها، وانتشرت المعامل الإنتاجية العصرية واندمج ألوف العاطلين عن العمل في عملية الإنتاج، وتحركت الأسواق نتيجة تحرك عجلة الاقتصاد، وبدأ الناس يترقبون قادم الأيام الأسعد بلهفة وشوق يحدوهم الأمل بأن لا يعاني أبناؤهم مما عانوه هم.
سنتان من عمر الزمن، وخزينة العراق كانت لا تتجاوز بضعة ملايين، وسعر برميل النفط لا يتجاوز الدولارين، فضلا عن المعرقلات التي ذكرناها آنفا، ومع ذلك بثبات مسيرة الثورة وإخلاص رجال الثورة، ونزاهة العاملين تحقق للعراقيين كثيرا مما كانوا يحلمون به، وتحقق للعراق كثيرا مما كان يحتاجه. وأصبح الدينار العراقي يساوي 3,3 دولار أمريكي ويساوي 21 درهما كويتيا وأكثر من جنيهين مصريين وعشر ليرات لبنانية وأربعين ليرة سورية وجنيهين إسترلينيين.
وربما لهذا السبب فضلا عن مواقف الثوار المناهضة للتسلط الاستعماري، والرافضة للمشاريع الوحدوية الطوباوية غير المدروسة والمتسرعة والتي قال عنها الزعيم قاسم في خطابه يوم 27 تموز 1958 أي بعد الثورة بأيام: (ليست الوَحدةُ شيئاً يقرِّره إنسان بمفرده، بل يجب أن تُـقرِّرَه شعوب الدول العربية) قام أعداء الثورة بوأدها وقتل رجالها بدأ من القائد الزعيم عبد الكريم قاسم ببث مباشر من على شاشة تلفزيون العراق لتشاهد ذلك كل أطياف الشعب العراقي بما فيهم الجماهير الغفيرة التي انتشلتها الثورة من عالم الحرمان والعوز والفاقة والبؤس.
ومع كل مساعي الانقلابيين المجرمين أصحاب انقلابات القطار الإنكلو/أمريكي الذي مر بالعراق عام 1963 وخرج ثم عاد في عام 1968 لطمر وطمس وإخفاء منجزات ثورة تموز الظافرة وهو المشروع التثقيفي الذي صرفوا عليه ملايين الدولارات واستمر لأكثر من أربعين عاما، مع كل مساعيهم لم ينجحوا في تضليل رأي المواطن النزيه أو تزييف الحقائق التي يعرفها ويؤمن بها، ولذا تجد الجماهير المخلصة نفسها تقف يوم 9/4/2003 لتذرف الدموع الساخنة على عراق تدوسه أقدام المحتلين، وتضحك في ذات الوقت شماتة بمن أرادوا تزييف التاريخ وأذلوا شعب العراق وأعادوا العراق إلى عصور ما قبل البترول حتى أصبح الدولار الأمريكي يساوي 3000 دينار عراقي والدينار الكويتي يساوي 4300 دينار عراقي والجنيه الإسترليني يساوي 5600 دينار عراقي، تضحك عليهم مع أن القلوب يعتصرها الحزن وهي تراهم يلوذون بالجحور مثل الفئران.
وقد توقعنا لهذا التناقض الغريب أن لا يدوم كثيرا، بل كنا نأمل أن المستعمر سوف يترك العراق ويعود إلى بلاده، وان الذين امسكوا بزمان أمور البلد سوف يتشبهون برجال ثورة تموز 1958 ويحققون للعراق والعراقيين أحلامهم وأمانيهم ويسدون احتياجاتهم ويغرقونهم بنعيم البترول الذي أصبحت أسعاره تتراوح ما بين 60و120 دولار أمريكي، إلا أننا وبعد ثمان سنين مرة من عمر التغيير نجد أنفسنا لما نزل نراوح في مكاننا حتى أنهكنا الحراك الفارغ غير المثمر، ونجد وضعنا كما هو عليه في أيام الحصار الجائر بل أكثر سوء ومرارة.
فماذا كان سيقول الأستاذ محمد أمين دوغان لو طلب منه اليوم الكتابة عن الحقيقة في العراق كما يراها أكثر من قوله: أنه يرى السياسيين الجدد قد حطموا كل ما سبق وان شاهده في زيارته الأخيرة عام 1962 فعاد العراق إلى الوراء، إلى أجواء ما قبل الثورة، واختفت كل ملامحه الجميلة التي تذكر الناس بأيام ثورة تموز.
فيا أسفا على عمر ضاع بالانتظار وعلى أحلام كأحلام العصافير تأبى أن تتحقق لأن رجال التغيير شغلهم الفساد المالي والإداري عن مشاركة العراقيين همومهم الكبيرة والصغيرة.

(*) ولد محمد أمين دوغان في بيروت العام 1926، وتلقى دراسته في المقاصد الإسلامية في ثانوية عثمان ذي النورين ودرس الحقوق في كلية الحقوق الفرنسية.
بدأ بالعمل الصحافي منذ العام 1950 بكتابة مقالات في مجلة الصياد بتوقيع (لبناني عربي) وعمل محرراً في جريدة بيروت حتى 1957، رأس تحرير جريدة السياسة التي أصدرها الرئيس عبد الله اليافي من سنة 1958 حتى العام 1960.
وأصدر جريدة الشعب العام 1962 ورأس تحريرها حتى وفاته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق