ليس دفاعاً عن استحقاق أيلول/ د. مصطفى يوسف اللداوي

رغم أنني أشعر بأن قرار السلطة الفلسطينية بالتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة للاعتراف بالدولة الفلسطينية ليست خطوةً حكيمة، ولن تخدم الشعب الفلسطيني كثيراً، ولن تغير من واقع الحال شيئاً، بل قد تؤسس لمرحلة جديدة، يكون المجتمع الدولي شاهداً عليها، وراعياً لها، إذ أنه في الوقت الذي قد يعترف فيه بالدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران، ويشهد أنها تخضع للاحتلال من قبل دولةٍ أخرى عضو في الأمم المتحدة، فإنه في الوقت نفسه يؤكد على اعتراف الشعب الفلسطيني بلسان سلطته الوطنية بالدولة الإسرائيلية على حدود خطوط الهدنة لحرب عام 1948، وهو ما لا يجمع عليه الفلسطينيون، وما لا يقبلون به، كما أنه لا تستطيع الأمم المتحدة أن تجبر إسرائيل على الانسحاب مما تسميه أرضاً محتلة، ومما ستعترف به بأنه دولة فلسطينية، وسيضاف هذا الاعتراف الفلسطيني الجديد إلى سلسلة الاعترافات الأخرى بشرعية الكيان الصهيوني على أرضنا الفلسطينية، والتي لم تبدأ برسائل الاعتراف الشهيرة بين منظمة التحرير الفلسطينية والحكومة السورية قبل عقدين من الزمان، بل تواصلت لتزيد في حجم الأغلال والقيود التي تكبل الفلسطينيين أمام المجتمع الدولي.

ألا ترون أنه على الرغم من أن هذه الخطوة ليست في صالح الشعب الفلسطيني، وأنها ستزيد في تمزقه وتشتته، وستعمق خلافاته وتناقضاته، وستورث أبناءه اختلافاً جديداً، وتناقضاً أشد، وأنها ستخدم الكيان الإسرائيلي كثيراً، وستجمل صورته أمام المجتمع الدولي، وستحقق له بعض الاستقرار والهدوء، وستؤمنه في الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا الغربية يرفضون تأييد هذه الخطوة، ويضغطون على السلطة الفلسطينية ورئيسها للتراجع عنها، وعدم الإقدام عليها، ويخيرونه بين التراجع أو استخدام حق النقض ضدها، للحيلولة دون التصويت الإيجابي عليها، وقد بدأوا أكبر حملة دبلوماسية للحيلولة دون حصول مجموعة الدول العربية والسلطة الفلسطينية على الأغلبية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم يقينهم بأنها محض خيال حالم، وسراب ظمآن.

ألا يثير الموقف الأمريكي والأوروبي الرافض لهذه الخطوة الاستغراب والاستهجان، ويدفعنا لمزيدٍ من التساؤل الغريب، أهم حريصون على المصالح الوطنية الفلسطينية، وهل يخافون من ضياع الحقوق الفلسطينية، ويخشون على الشعب الفلسطيني التفريط في ثوابته، أم أنهم يدركون أن اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية يعني تأكيد اعترافها بالدولة العبرية، والمصادقة رسمياً على صك التنازل عن الجزء الأكبر من أرض فلسطين التاريخية، ولكن هذه المرة بلسان بعض أهلها، وتوقيع سلطتها الوطنية، أم أنهم يعتقدون أن تصويت الأمم المتحدة الإيجابي على الدولة الفلسطينية سيكون تصويتاً على دولة وهمية صورية ليس لها وجود على الأرض، ولا مكان على الخارطة، ولا اسم في أطلس الدول، ومن هذا المنطلق فإنهم يتوسلون إلى رئيس السلطة الفلسطينية تجميد خطوته آنياً، وتأجيلها إلى وقتٍ أفضل، تكون فيه المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية قد انطلقت من جديد واستعادت عافيتها، وتغلبت على بعض العقبات والصعاب التي تعترضها، وتكون فيه الحكومة الإسرائيلية جاهزة وقادرة على منح الفلسطينيين ما يريدون، وما يعتقدون أنه يتناسب وأحلامهم وطموحاتهم، إنهم يرفضون تأييد هذه الخطوة البئيسة لأن الحكومة الإسرائيلية ترفضها، وتعتقد أن بإمكانها تحقيق المزيد من المكاسب، وتجريد السلطة الفلسطينية من المزيد من الأحلام والآمال، فلماذا يقبلون بما لا يقوى الفلسطينيون والعرب جميعاً على تحقيقه أو نيله على طاولة المفاوضات.

ليس دفاعاً عن استحقاق أيلول ولكن ألا ترون أن الإدارة الأمريكية ودول أوروبا الغربية الذين يتباكون على الشعب الفلسطيني، ويدعون أنهم يؤيدون حقوقه، ويقفون إلى جانبه، ويساندونه في حقه ضد الإسرائيليين، ويسعون للنهوض باقتصاد سلطتهم، وتوفير الدعم المالي لهم، أنهم في الحقيقة لا يسعون إلا لصالح الكيان الصهيوني، ولا يخفون إلا لمساعدته، ولا ينهضون من أماكنهم إلا إذا كان الإسرائيليون في حاجةٍ إلى المساعدة والنصرة، فهم دوماً ينتظرون التعليمات من حكومة الكيان الإسرائيلي ليحددوا وجهتهم السياسية، ويوحدوا خطابهم الإعلامي، ويعرفوا كيف يتعاملون مع السلطة الفلسطينية والحكومات العربية، ألا ترون أن المصالحة الوطنية الفلسطينية التي هي خيار الشعب الفلسطيني وفي صالحه قد أخرجتهم عن طورهم، وأثارت حفيظتهم وسعرت غضبهم، ووصفت التوافق الفلسطيني بأنه خطر، والمصالحة الفلسطينية بأنها إرهاب، وخيرت رئيس السلطة الفلسطينية بين شريك السلام وبين حركة حماس.

مخطئ من يعتمد على الإدارة الأمريكية وحلفائها الغربيين، ويعتقد أنهم سينتصرون للشعب الفلسطيني، وسيؤيدونه في حقه، وسيقفون في مواجهة إسرائيل لمنعها من الاعتداء على الفلسطينيين والتغول عليهم، وسرقة المزيد من أرضهم، وحرمانهم من حقوقهم في ممتلكاتهم ومقدساتهم ومياههم، فإنني وإن كنت رافضاً لمسعى السلطة الفلسطينية بالتوجه إلى الأمم المتحدة لاستجداء وهمي لحقٍ في الخيال، لا رصيد له على الأرض والواقع، إلا أنني أرى أن هذا الحدث يكشف بوضوحٍ تام عن حقيقة المواقف الأمريكية والغربية تجاه القضية الفلسطينية، وزيف وعودها، وسراب ضماناتها، فهم ليسوا معنا وإنما هم مع إسرائيل، وهم لا يتبنون مواقفنا وإنما يتبنون المواقف الإسرائيلية، وهم لا يسعون لنيل حقوقنا، بل يحرصون على تمكين إسرائيل من السيطرة على المزيد من الحقوق الفلسطينية.

استحقاق أيلول الذي لا نؤيده ونعتقد أن مخاطره على الشعب الفلسطيني ومستقبله أكثر بكثير مما نأمل من منافعٍ ومكاسب، إلا أنه يكشف مرةً أخرى حقيقة المواقف الأمريكية والغربية، وينزع عنهم ورقة التوت التي يحاولون أن يتستروا بها، وأن يغطوا بها عوراتهم، ويوهموا الفلسطينيين أنهم معهم يناصرونهم ويؤيدونهم، ويقفون معهم وإلى جانبهم، ألم يعدوا الفلسطينيين منذ عهد ما قبل جورج بوش بدولةٍ فلسطينية، ألم يؤكد أوباما على خيار الدولتين، فلماذا تنكفئ الإدارة الأمريكية ومعها دول أوروبا الغربية عن مواقفها، وتبلع وعودها وتتراجع، وتتنكر لتعهداتها والتزاماتها، وتبدأ من جديد تغزل أثواباً سياسية لكن وفق المقاييس والمعايير الإسرائيلية، بما لا يستجيب ولا يلبي الحقوق والمصالح الفلسطينية، أليس في هذا دليلٌ وبرهان على أن الإدارة الأمريكية ودول أوروبا الغربية تبعٌ لإسرائيل، ورهن لإشارتها، يعملون لأجلها، يؤيدون مواقفها، ويعارضون ما يرون أنه لا يخدم مصالحها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق