تثير زيارة خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إلى الأردن في هذا الوقت بالذات التساؤل بقوة، وتطرح أكثر من سؤال، وتترك المجال رحباً للفكر والخيال ليحلق في الأسباب الحقيقية لزيارته إلى عمان، أهي فعلاً لعيادة أمه المريضة، والاطمئنان على صحتها وسلامتها، والوقوف إلى جانبها في محنتها ومرضها، والإشراف على علاجها، وتقبيل يديها والتماس البركة منها، فيصح وصفها بأنها زيارة إنسانية، ولفتة ملكية كريمة تجاه مواطنٍ أردني يرغب في أن يكون إلى جانب أمه المريضة، فهذا حقه الطبيعي والإنساني الذي لا يجوز أن يحرمه منه أحد، فنحن إذ نطالب سلطات الاحتلال الإسرائيلية أن تسمح لأمهات وأبناء بعض الأسرى ممن يعانون من أمراضٍ مزمنة، ويخشى عليهم من الموت بعيداً عن أبنائهم الأسرى، فإنه يكون من الأولى أن تسمح سلطاتٌ عربية لمواطنٍ عربي أن يكون إلى جانب أمه المريضة، وألا يحرم من الاهتمام بها ورعايتها، أو توديعها إن كانت حالتها الصحية حرجة، وغير ذلك يكون ظلماً وتعدياً على الحقوق، وسلوكاً وممارسة تتشابه مع سلوكيات سلطات الاحتلال وتتفوق عليه، وتتناقض مع أبسط القيم الإنسانية والدينية والأخلاقية.
ولكن الظروف التي تمت بها الزيارة الشخصية وتوقيتها والموافقة الأردنية عليها تثير التساؤل، وتخرجها عن إطارها الإنساني، وتنفي اقتصارها على دواعي العيادة فقط، وتجعلها تختلف كلياً عن الزيارة التي سبقتها والتي كانت أسبابها ودوافعها فعلاً إنسانية، وهي المشاركة في تقبل واجب العزاء في عمان بوفاة والد مشعل قبل عامين، فلم تثر الزيارة السابقة أي تساؤل، ولم يتوقع منها أحد أي نتائج أو تطورات، وانتهت بالالتزام بالأيام الثلاثة المحددة، وغادر مشعل بعدها عمان وانتهت مفاعيل زيارته، ولم يتحدث عنها أحد، ولم يعلق عليها أحد أي آمال، كما لم يترتب عليها نتائج كبيرة.
ولكن هذه الزيارة مختلفة لجهة الظروف والتوقيت التي تمر بها المنطقة، خاصة في ظل أحاديث كثيرة وتسريباتٍ إخبارية مختلفة عن خروج قيادة حركة حماس من دمشق، وسعيها المستمر للبحث عن ساحةٍ أخرى تقيم فيها، وتواصل عملها من خلالها، رغم أنها وغيرها يدركون أنه لا عاصمة تشبه دمشق في احتضانها للمقاومة الفلسطينية، وفي حجم الامتيازات والعطايا التي تقدمها للفصائل الفلسطينية، وما تمتعت به قيادة حركة حماس في دمشق وخاصةً رئيس مكتبها السياسي من امتيازاتٍ وحقوقٍ وتسهيلاتٍ لا يمكنها أن تحظى بمثلها أو بجزءٍ منها في أي عاصمة عربية أخرى، ولم يتمتع بمثلها أمناء عامون سابقون وحاليون، فقد تمكنت قيادة حركة حماس في دمشق من لم شعثها وجمع شتاتها، ومنحتها استقراراً وثباتاً ساعدها على تخطي الكثير من الصعاب والتحديات التي واجهتها، وانطلاقاً منها نجحت في بناء أكبر شبكة علاقاتٍ دولية ومجتمعية تخطت المنطقة العربية لتشمل مختلف العواصم الدولية.
ولكن الظروف التي تمر بها منطقتنا العربية تجعل من الإشاعات التي تتناقلها وسائل الإعلام المختلفة تلامس الحقيقة، وتعبر عن الواقع بدرجةٍ كبيرة، وتضع الزيارة في موضعها الصحيح، فحركة حماس في حاجةٍ إلى قاعدةٍ مستقرة، وظروفٍ سياسية ملائمة لاحتضانها وتمكينها من مواصلة مقاومتها، وتمكينها من الاستفادة من انجازاتها الميدانية في الداخل، وتوظيفها لما حققته المقاومة في خدمة الشعب الفلسطيني، ولكن قيادتها في الخارج تبحث عن ساحةٍ وقاعدة تعوضها عن دمشق، وتضمن فيها الحصول على بعض الامتيازات التي تتمتع بها في سوريا، فلا تشعر بقيودٍ على سفرها، وحدودٍ وضوابط على حركتها، وتكون حرية في النشاط بين شعبها وأهلها والعمل لقضيتها، فلا تكون رهناً بأيدي الأنظمة، وورقة في أيدي الحكام.
وفي ظل هذه الظروف كثر الحديث عن عواصم عربية وإسلامية لاستضافة قيادة حركة حماس، فمن قائلٍ أنها ستنتقل إلى قطر التي استضافت أعضاء قيادة الحركة الذين أبعدوا من الأردن عام 1999، بينما يقول غيرهم أن القاهرة هي المكان الأنسب لقيادة حركة حماس، إذ أنها الأقرب إلى قطاع غزة المحرر، وتستطيع قيادتها انطلاقا من القاهرة التواصل مع قواعدها التنظيمية في قطاع غزة، ولكن خيار مصر هو خيار غزة، فمن ارتضى الإقامة في مصر فلماذا لا يعود إلى غزة ويقيم فيها، ومنها ينطلق بحرية إلى القاهرة وإلى بقية الساحات العربية والإسلامية، وهذا ما لا يستسيغه بعض قادة حركة حماس، ويرون فيه مقتلاً لهم، وقيداً يكبل حريتهم، ويدخلهم في غيتو يصعب الخروج منه ومغادرته، ويرهن قرارهم بالموافقات الأمنية المصرية، فضلاً عن أنه لا يمنح الهيئات القيادية أي امتيازاتٍ أو حقوقٍ كتلك التي يتمتعون بها في دمشق، والتي منحتهم تميزاً وتفوقاً على غيرهم، وجعلت من مركزهم القيادي قوة نافذة يصعب تجاوزها أو تحدي قراراتها.
زيارة خالد مشعل إلى عمان تفتح الطريق الذي عبده مئات العائدين إليها من كوادر الحركة إلى العودة إلى الأردن، والإقامة فيها من جديد، وإعادة فتح مكاتب الحركة وتنظيم العلاقة معها وفق معايير جديدة قد تكون الثورات العربية قد ساعدت في إنضاجها، ولعل الأردن التي سهلت العودة للعديد من الكوادر والعناصر العاملة في حركة حماس، والتي أجبرت على البقاء خارجها لقرابة عقدٍ من الزمن، حريصة في هذا الوقت على أن ترسل بعض الإشارات الضمنية والرسائل الصريحة إلى قيادة حركة حماس وإلى حركة الإخوان المسلمين، مفادها أنها على استعداد لإعادة الحركة إلى أرضها من جديد، والسماح لقيادتها بالإقامة وحرية العمل فيها، ولكنها تتطلع في المقابل إلى أثمانٍ سياسية وأمنية أخرى، فهي تريد أن تنهي شبح الاحتجاجات الشعبية، وتتطلع إلى التزام الشارع الأردني الهدوء والسكينة مقابل عودة حركة حماس إلى عمان، والتي من شأنها أن تجبر قوى الشارع الأردني الفاعل على الصمت والتخلي عن بعض مطالبهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية مقابل قيام الحكومة الأردنية بتسهيل عودة قيادة حماس إليها.
وبالمقابل فإن قيادة حركة حماس التي كانت تقيم في الأردن تتطلع إلى العودة إليها والإقامة فيها، ففيها أهلهم وذووهم، وفيها بيوتهم ومساكنهم، وفيها أكبر تجمعٍ فلسطيني، وهي التي تطل على أكبر حدودٍ عربية فلسطينية، وهي الأرض التي يطلق عليها أرض الحشد، وبالعودة إليها يتخلص بعض قادتها من شبح التيه والضياع والشتات الجديد الذي يتهددهم، ويبعد عنهم بعض الخيارات البديلة التي لا تقبل بها، ولا تجد أنها قادرة على الالتزام بها، إذ أنها تساويهم بالآخرين وتدخلهم في منافسه مع غيرهم، ولكن العودة إلى الأردن تمنحهم قوةً جديدة، قد لا ترتقي إلى حجم القوة والامتيازات التي تتمتع بها اليوم في دمشق، ولكنها تؤهلها لأن تعوض بعضها، وتحافظ على بقايا نفوذها، وتجعل منها قوة حاضرة وفاعلة مؤثرة، وإلا فإن غزة هي المكان الأنسب والأرحب والأكثر عزة وكرامة، وما وسع الغزيين، مواطنين وقادة مقاومة، فإنه يسع غيرهم ممن يحملون ذات الراية ويسيرون على ذات طريق الشوكة، ولتكن حينها العودة عودةً إلى الوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق