النظام السوري، كما يعرف جميعكم، نظام اشتراكي، تقدّمي، وحدوي، إصلاحي. أليست الوحدة والحريّة والاشتراكية شعار حزب البعث العربي الاشتراكي، من أيام عفلق حتى أيام بشار؟ لكنّ الغايات الكبرى لا يمكن تحقيقها في يوم وليلة، ولا في أربعين سنة؛ منذ "الثورة التصحيحية" التي فجّرها الزعيم الرفيق حافظ الأسد. المهمّ أن هذه الغايات السامية ظلّت نصب عيني النظام البعثي دائما، وفي عهد الرئيس العصري، الشاب بشار الأسد، بوجه خاصّ. فمنذ ورث الأسد بشار أباه الأسد حافظ، كان الهدف الأول للعهد الجديد القيام بالإصلاحات وإشاعة الديمقراطية والحرّيات. ألم يبشّر الرئيس بشّار بالربيع السوري؟! إلا أن الظروف المحلية والإقليمية والدولية، لا ننسَ أيضا الجولان الرازح تحت الاحتلال الصهيوني، حالت جميعها دون الإصلاحات الموعودة، فظلّ عهد بشار الميمون ينتظر الفرصة المواتية، على أحرّ من الجمر، للقيام بهذه الخطوات المباركة.
ثمّ إنّ الحركات الشعبية المضلَّلة، بتحريض من أميركا والاتحاد الأوروبي والدول العربية الرجعية والفضائيات العميلة وجمعيات حقوق الإنسان، خرجت في مظاهراتها رافعة المطالب ذاتها التي ينوي النظام تنفيذها منذ تنصيب الدكتور المفدّى بشار الأسد. باختصار، بصلة الجماهير محروقة؛ لم ينتظروا المراسيم الرئاسية التي ستصدر عن السيد الرئيس إن عاجلا أو آجلا، والفضائيات لم تكفّ عن تحريضها وتزييفها الواقع، ولو انتظر جميع هؤلاء بعض الوقت لتحققت الإصلاحات كلّها دون إراقة قطرة دم واحدة!!
لكن كيف يمكن إجراء التغييرات وتحقيق الإصلاحات، والناس يتظاهرون بألوفهم فيسدّون الطرقات، رافعين شعار إسقاط النظام، حائلين دون تمرير الإصلاحات؟ كيف يلغي النظام قانون الطوارئ ويشيع الحرّيات، والعصابات المسلحة تعيث في المدن السورية خرابا وإرهابا، فتشغل القوات المسلّحة عن مهمّاتها الأساسية في الحفاظ على الأمن والهدوء وسلامة المواطنين، والإعداد لتحرير الجولان السليب؟ كلّ أسبوع، يوم الجمعة وبعد الجمعة، تخرج المظاهرات من جديد وتملأ الشوارع، بحيث لم يجد الرئيس متّسعا من الوقت لإعداد مراسيم الإصلاح وتنفيذها. لا بدّ أيضا، قبل الإصلاحات، من القضاء على المعارضين والمشاغبين والعملاء والفوضويين والطائفيين والإرهابيين والصحافيين والمحرّضين والتنسيقيين في المحافظات كلّها. وإلا يكون النظام في خطواته الإصلاحية الهامّة كمن يبني عمارة من عدّة طوابق وأساسها على الرمل!
قبل أسبوعين كان النظام على وشك الانطلاق بمشاريع الإصلاح. فجأة خرج الشابّ المتهوّر إبراهيم قاشوش على رأس المظاهرات في حماة الحاقدة، منشدا دونما خوف أو وجل "يلا اِرحل يا بشار"، وجماهير الرعاع تردّد النشيد وراءه. فهل يمكن في هذا الظرف الدقيق تحقيق الإصلاحات المنشودة؟ اضطرّ النظام طبعا إلى القبض على هذا المشاغب واستئصال حنجرته، بعد قتله طبعا لتجنيبه الآلام، لئلا يواصل نشيده المذكور، فيفسد الخطط المرسومة للإصلاح.
في الأسبوع الماضي انشقّ أيضا القاضي عدنان بكّور، وأدلى بتصريحات لا أساس لها عن تعذيب النظام للمعتقلين حتى الموت، ودفن الضحايا في مقابر جماعية، إلى غير ذلك من التحريض. فهل يمكن للنظام الانشغال بالإصلاح والبكّور المذكور حرّ طليق، يحرّض ويزوّر ويختلق؟ لا بدّ، قبل كلّ شيء، من تجنيد رفاق الحزب وقوات الأمن والشبيحة للقبض على المنشقّ المذكور ليستتبّ الأمن ويسود الهدوء وينصرف أولو الأمر إلى مهماتهم الإصلاحية، ولكلّ حادث حديث!
في هذا الأسبوع أيضا، لم يكفّ الشابّ المدسوس غياث مطر، ورفيقه يحيى الشربجي، عن التحريض على النظام، مردّدا ما تبثه الفضائيات العربية والغربية من أراجيف حول نظام المقاومة والممانعة الوطني. إلا أن عين الأمن الساهرة أفلحت في القبض على غياث المذكور، واعتقاله، والتحقيق معه. لم يكشف الشاب المذكور المعلومات التي كانت في حوزته، ولا المصادر التي يستقي منها. هكذا جنى غياث مطر على نفسه حين أصرّ على التكتّم، فمات أثناء التحقيق، نتيجة تكتمه، لا نتيجة تعذيبه كما يزعمون، ولو كشف كلّ ما كان معه لعاد إلى أهله سالما غانما. على كلّ حال، قامت السلطات، مشكورة، بتسليم جثته إلى أهله. وهو عمل إنساني تُحمد عليه السلطات فعلا. كان بمقدورها، مثلا، إخفاء الجثة واعتباره في عداد المفقودين، مثله مثل الآلاف من المفقودين في هذه الاضطرابات الدموية التي تشعلها عصابات المسلّحين في طول البلاد وعرضها.
الأمين العامّ للجامعة العربية، نبيل العربي، زار دمشق أيضا يوم السبت، وطلب من النظام تهدئة الأوضاع والشروع في الإصلاحات. السيد العربي لا يعرف، في أغلب الظنّ، أن النظام يتلهّف فعلا لتحقيق الإصلاحات وإشاعة الحريات. قبل زيارة العربي، وقبل انتخابه أمينا للجامعة العربية أيضا. لا يحتاج النظام، البعثي القومي الوطني المقاوم الممانع، إلى نصائح العربي، ولا أردوغان، ولا هيلاري كاينتون، ولا جوبيه، ولا غيرهم، للقيام بالإصلاحات. فالسيد الرئيس يتعهّد، أمام الله والوطن، أن يقوم بكل الإصلاحات التي ستجعل من سورية دولة في مصافّ أرقى الدول؛ دولة حرية، وديمقراطية، وحقوق إنسان، وعدالة اجتماعية. إلا أن ذلك كلّه لن يتحقّق طبعا إلا حين تستقر الأحوال وتنعم بالأمن البلاد؛ بالقضاء على العصابات المسلّحة، والإرهابيين، والمحرّضين، والعملاء، والفوضويين، والمشاغبين، والطائفيين، والتنسيقيين، والمعارضين أجمعين، وإن غدا لناظره قريب!!
- بروفسور ، رئيس سابق لكرسي اللغة العربية بجامعة تل ابيب، باحث لغوي وناقد ادبي
jubrans3@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق