كيف يتمكن كاتب في هذه الايام العربية الدامية ان يختار موضوعاً واحداً يكتب عنه داخل غابة من برك الدماء حيث يسيطر الضياع وتختلط احلام الربيع العربي مع تمنيات اوباما ونتنياهو وساركوزي مع تخوّف من توغل بداوة جديدة متوحشة توصل العرب الى متاهات اين منها زمن الاحكام الفردية.
اننا نعبر فوق تلال الجثث وركام المدن التي كانت عمراناً لنتذكر مآسي المسيحيين المصريين بعيداً عن اي شعور ديني او مذهبي بعد ان دفن الاحياء شهداءهم بانتظار ما يخبئه لهم المجهول.
لقد كتبت اول مقال عن مأساة اقباط مصر عام 1976 اي قبل 35 عاماً وقلت فيه معظم ما سأقوله في هذه المقالة.
كان اول قانون واضح عن علاقة الاقباط بالدولة صدر عام 1840 في عهد محد علي وابنه ابراهيم باشا. وقبل ذلك التاريخ كانت العلاقة مزاجية كما يريدها الحكام حيث استغل معظمهم الاقباط ونكّلوا بهم رغم حاجتهم اليهم دائماً لادارة مالية الدولة وشؤونها الدقيقة.
لقد حدّ ذلك القانون من حرية الاقباط الدينية ثم جرى تعديله بعد ذلك بما يعرف بالخط الهمايوني الذي حرّم بناء وترميم الكنائس والمدارس الدينية الاّ بعد موافقة رأس الدولة اي الملك او رئيس الجمهورية. وهذا القانون ما زال معمولاً به حتى الساعة.
لقد استغلّ المتطرفون هذا القانون الذي سبّب عشرات المجازر وخاصة طوال العقود الاربعة المنصرمة التي تلت غياب عبد الناصر. كان ملوك مصر في القرن العشرين ومثلهم جمال عبد الناصر من المتهاونين والمتسامحين مع المسيحيين في موضوع حرية العبادة وبناء الكنائس والمدارس ولكنهم لم يقدموا على تعديل قانون عام 1840 او الغاء الخط الهمايوني.
بدأت الاحداث الخطيرة في عهد السادات الذي اعاد الى الواجهة المتطرفين الاسلاميين الذين اغتالوه فيما بعد، ومنذ تلك الفترة والاحداث متشابهة والاسباب هي ذاتها حيث رفضت او جبنت العهود المتلاحقة عن تغيير او تعديل قانون الحدّ من بنآء دور العبادة للاقباط والسماح للمسلمين ليشيّدوا ما شاؤوا من المساجد.
وكانت فترة حكم الرئيس مبارك هي الأسوأ حيث عمد المتطرفون او المتأسلمون كما يسمّيهم الدكتور رفعت السعيد الى اسلوب ابتزازي جديد وذلك بالتسلل الى الدوائر الحكومية المسؤولة عن اعطاء تراخيص لبناء الكنائس، والحصول على الرخصة يستغرق حوالي 5 سنوات بينما كانت رخصة بناء المسجد تستغرق اسبوعاً واحداً بعد اعداد الخرائط.
وقد استغل المتطرفون فقرة في ذلك القانون تقول ان بناء اي كنيسة يجب ان يكون بعيداً 500 متر او اكثر من اقرب مسجد. وكان هؤلاء يهرعون الى شراء قطعة قريبة من المكان المقترح لبناء الكنيسة ويحصلون على رخصة بناء مسجد لمنع قيام الكنيسة وهنا تبدأ المشكلة او المشاكل.
لا يعرف احد اسباب تلكؤ الحكومات المصرية المتعاقبة عن تغيير هذا القانون المجحف واصدار قانون يساوي بين جميع ابناء مصر.. حتى الرئيس عبد الناصر نفسه الذي كان بطل اول دستور عربي علماني للجمهورية العربية المتحدة عجز عن تغيير القانون السيء.. فخلال سنّ دستور الوحدة المصرية السورية عام 1958 وافق عبد الناصر على ان لا يكون الاسلام دين الدولة او مصدر تشريعها او دين رئيس الدولة.
هل اسباب عدم تغيير القانون المذكور هو الخوف من المتطرفين؟... هل هو تصرف متعمد لترك هذا الموضوع للابتزاز والاستغلال؟ .. لم يكن الرئيس مبارك طائفياً وكذلك السادات وعبد الناصر، لماذا اذن تجاهلوا هذا الموضوع الذي وصل الى حدود ارتكاب بعض رجالهم الجرائم الفظيعة مثل حبيب العادلي وزير داخلية مبارك الذي تأكد انه كان وراء مجزرة عيد الميلاد الماضي 2010.. لماذا يفسح المجال لبعض المتطرفين الاقباط ليشوهوا سمعة مصر في الخارج وليطلق بعضهم الاستغاثات السخيفة مثل طلب حماية خارجية لمسيحيي مصر؟
لقد قدّر لمصر ان يكون على رأس الكنيسة القبطية رجل قمّة الحكمة والاعتدال خلال العقود المنصرمة الا وهو قداسة البابا شنوده الثالث. ورغم تقدمه في السن فما زال صمّام الأمان والسلم الاهلي في مصر. وحسناً فعل المجلس العسكري الحاكم غير الدستوري او الشرعي بتجاوبه مع توجهات شنوده واصداره المرسوم الذي يساوي بين جميع المواطنين المصريين.
ويأمل الجميع ان تكون مصر الجديدة القادمة اكثر واقعية وعدالة وجرأة في المساواة بين جميع ابنائها مستفيدة من اخطاء مضى على ممارساتها اكثر من 170 عاماً دون ان نتطرق الى الحقبات الأكثر ظلاماً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق