اليوم الدولي للتسامح 16 تشرين الثاني وموقف الدول الأعضاء منه/ صالح الطائي


منذ أن تم الإعلان عن تأسيس منظمة الأمم المتحدة على أنقاض عصبة الأمم التي لم تفلح في تجنيب المجتمع الدولي شرور حربين كونيتين مدمرتين وهي تسهم في تطوير رؤى وطرائق التعامل بين البشر أو مع البيئة المحيطة بهم وباقي المخلوقات التي تقاسمهم السكن، ومع إنها لا تملك جيشا مسلحا ولا تمتلك سلطة الجبر والإقسار إلا أنها نجحت في تمرير مئات المشاريع الكبيرة التي نظمت حياتنا في هذا الكوكب.
صحيح أن الكثير من مشاريعها لم تؤدي غاياتها بسبب التدخلات والسياسات والتاثيرات المحتملة على رسم المشروع، إلا أن ذلك لا يعد تقاعسا أو تقصيرا يحسب عليها. ومع إن بعض قراراتها بدت متأثرة بهيمنة وسياسة الدول الكبرى إلا أن أعظم مشاريعها وأكثرها أهمية جاءت متحررة من أي تأثير، فبدت على مستوى كبير من المسؤولية الدولية.
كما إنها لم تسهم في منع النزاعات الدولية فحسب وإنما أسهمت وبشكل فاعل في تخفيف التوتر الحاصل بين البشر بسبب اللون والجنس والدين والمعتقد، ونجحت بتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة متقدمة أخرى وهي دعوتها لبث ثقافة التسامح والقبول بالآخر، فبعد حالات الفصل الإكراهية التي وقعت في أجزاء من العالم وجدت المنظمة نفسها معنية ببث ثقافة التسامح فأعلنت جمعيتها العامة في عام 1993 بأن عام 1995 سيكون سنة الأمم المتحدة للتسامح (القرار 48/126) وفي16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 بادرت منظمة اليونسكو للطلب من الدول الأعضاء اعتماد إعلان المبادئ المتعلقة بالتسامح وخطة عمل متابعة سنة الأمم المتحدة للتسامح تلا ذلك دعوة الجمعية العامة الدول الأعضاء عام 1996إلى الاحتفال باليوم الدولي للتسامح في 16 تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام من خلال القيام بأنشطة ملائمة توجه نحو كل من المؤسسات التعليمية وعامة الجمهور (القرار 51/95 المؤرخ 12 كانون الأول/ ديسمبر)
إن الإخفاق الكبير الذي سببه توالي الحروب العالمية كان الحافز الأكبر لولادة المنظمة الدولية التي أكدت في ديباجة ميثاقها الذي صدر في 26 حزيران/يونيه 1945 في سان فرانسيسكو عزمها على تجنيب الأرض ويلات الحروب والمعاناة بقولها: "نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبين الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدما، وأن نرفع مستوى الحياة في جو من الحرية أفسح." عازمة بالتعاون بين الجميع على: "أن نأخذ أنفسنا بالتسامح، وأن نعيش معا في سلام وحسن جوار، وأن نضم قوانا كي نحتفظ بالسلم والأمن الدولي، وأن نكفل بقبولنا مبادئ معينة ورسم الخطط اللازمة لها ألا تستخدم القوة المسلحة في غير المصلحة المشتركة، وأن نستخدم الأداة الدولية في ترقية الشؤون الاقتصادية والاجتماعية للشعوب"
هذا وقد جاء في الفصل السادس من الميثاق في باب: (حل المنازعات حلا سلميا) عدة مواد غاية في الأهمية منها (المادة 33) التي نصت على:
1. يجب على أطراف أي نزاع من شأن استمراره أن يعرض حفظ السلم والأمن الدولي للخطر أن يلتمسوا حله بادئ ذي بدء بطريق المفاوضة والتحقيق والوساطة والتوفيق والتحكيم والتسوية القضائية، أو أن يلجأوا إلى الوكالات والتنظيمات الإقليمية أو غيرها من الوسائل السلمية التي يقع عليها اختيارها.
2. ويدعو مجلس الأمن أطراف النزاع إلى أن يسووا ما بينهم من النزاع بتلك الطرق إذا رأى ضرورة ذلك.
أما الميثاق التأسيسي لليونسكو المعتمد في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1945 فنص في ديباجته علي أن "من المحتم أن يقوم السلم عي أساس من التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر".
كما أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أكد في(المادة 18): أن "لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين" وأضاف في(المادة 26): "حرية الرأي والتعبير" وفي (المادة 19): "أن التربية يجب أن تهدف إلي ... تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية".

فضلا عن الوثائق التقنينية الدولية الأخرى مثل:
- العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
- العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
- الاتفاقية الدولية للقضاء علي جميع أشكال التمييز العنصري.
- الاتفاقية الخاصة بمنع جريمة إبادة الجنس والمعاقبة عليها.
- اتفاقية حقوق الطفل.
- اتفاقية عام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين وبروتوكولها لعام 1967 والوثائق التقنينية الإقليمية المتعلقة بها.
- اتفاقية القضاء علي جميع أشكال التمييز ضد المرأة،
- اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة.
- الإعلان الخاص بالقضاء علي جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين علي أساس الدين أو المعتقد.
- الإعلان الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلي الأقليات الوطنية أو الاثنية والدينية واللغوية.
- إعلان وبرنامج عمل فينا الصادران عن المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان.
- إعلان وخطة عمل كوبنهاكن اللذان اعتمدتهما القمة العالمية للتنمية الاجتماعية.
- إعلان اليونسكو بشأن العنصر والتحيز العنصري.
- اتفاقية وتوصية اليونسكو الخاصتان بمناهضة التمييز في مجال التربية.

ويعني هذا أن المنظمة أولت مسألة التسامح وحل الزاعات سلميا أهمية قصوى ولاسيما بعد أن رصدت " تزايد مظاهر عدم التسامح، وأعمال العنف والإرهاب، وكراهية الأجانب والنزاعات القومية العدوانية والعنصرية ومعادة السامية، والاستبعاد والتهميش والتمييز ضد الأقليات الوطنية والاثنية والدينية واللغوية واللاجئين والعمال المهاجرين والمهاجرين والفئات الضعيفة في المجتمعات وتزايد أعمال العنف والترهيب التي ترتكب ضد أشخاص يمارسون حقهم في حرية الرأي والتعبير"
فبدأت أولا في توضيح معنى التسامح الذي عرّفته بأنه: "يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب"
وبأنه "لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل، بل التسامح هو قبل كل شيء اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا."
وبأن ممارسة التسامح: "لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيش بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير."
ولهذا السبب أصدرت اليونسكو إعلان المبادئ بشأن التسامح في 16 تشرين الثاني/نوفمبر 1995 وحثت الدول الأعضاء للاحتفال بهذا التاريخ من كل سنة كيوم دولي للتسامح عن طريق تنظيم أنشطة وبرامج خاصة لنشر رسالة التسامح بين مواطنيها، بالتعاون مع المؤسسات التربوية والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية ووسائل الإعلام في كل منطقة.
والملاحظ أن كثيرا من الدول الأعضاء تهتم بهذا اليوم اهتماما مميزا رغم كونها مستقرة ولا تعيش شعوبها في نزاع إثني او عرقي أو ديني، أما نحن في العراق ورغم تفشي روح الكراهية وعدم الاعتراف بالآخر ووجود النزاع الفعلي والشرس والدموي بين مكونات المجتمع العراقي، وحاجتنا الماسة لتوضيح مباديء التسامح التي أقرتها منظمة الأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو وباقي المنظمات الدولية، إلا أن حكومتنا تكتفي عادة بالتذكير بهذا اليوم تذكيرا ساذجا لا يلفت انتباه المواطنين ولا يدفعهم للعودة إلى منابع ثقافة التسامح التي يتميز بها ديننا الإسلامي، كما إن منظمات المجتمع المدني المعنية بالأمر لا تعطي الموضوع تلك الأهمية التي يستوجبها، فضلا عن أن المؤسسة الدينية والمثقفين والتربويين والأكاديميين لا يلتفتون إلى أهمية هذا اليوم، وكذلك القنوات الفضائية والمواقع الالكترونية والصحف والمجلات الورقية، بما يبدو وكأنه تعتيم ممنهج ومقصود أو مع ـ الاعتقاد بتوافر حسن النية ـ عملا ساذجا نابعا من عدم فهم أهمية هذا الموضوع، أو أنها تفهم الموضوع على أنه بعيد عن الواقع العملي للشعب العراقي ولا يخدم أو لا يمكن أن يسهم في حل مشاكله.
إن الحاجة الملحة لنشر ثقافة التسامح بين أبناء المجتمع العراقي تستوجب منا جميعا الإسهام في نشر ثقافة القبول بالآخر وثقافة التسامح من خلال استغلال يوم المناسبة الدولية والحديث المتكرر عنه في كل الوسائل المتاحة لأن الحديث عن التسامح سواء في المساجد أو الجامعات والمدارس أو الندوات والاجتماعات يرفع الموضوع ليضعه أمام أعين الناس فيلتفتون إليه ويفهمون معناه وقد قال رائد الصهيونية "تيودور هرتزل": "كل ما يهمني هو أن تتكلم، حتى لو تكلمت ضد الصهيونية .. لكن لا تصمت إزاء الموضوع .. الحديث عن الشيء ولو بتفاهة ، يعرضه على أنظار الناس"
أعود واذكر أن إسهام الجميع في بث ثقافة التسامح وقبول الآخر لا يبدو أمرا يسيرا بسبب التعقيدات الكبيرة التي رافقت السلوك الذي أوجد التوحشية والإقصاء والكراهية، كما لا يمكن لشخص ما أن ينهض بمثل هذا المسعى إلا إذا كان نبيا مرسلا أو هو بدرجة الأنبياء. أما وقد انتهى زمن الرسالات برسالة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم. فلم يعد أمامنا سوى الانفتاح على الخزين الفكري للمنظمات الدولية وللرسالات التي نعترف بصحتها وقدسيتها ومنها الرسالات السماوية الثلاث الآخيرة (اليهودية والمسيحية والإسلامية) لننهل من معارفها الصحيحة غير المحرفة ما يمكن أن نسترشد به لبناء حياتنا وإنساننا ومجتمعاتنا. ففي داخل كل منا سواء بالفطرة أو بالتعلم جزء من هذا الخزين ما أيسر أن يكتشف ويفعل ويتفاعل ليشع نوره على النفوس التي أنهكها التيه والابتعاد عن طريق الله الذي ارتضاه سبيلا لبني البشر.
وإذا كان الفهم بهذا المستوى السامي فمن الواضح أنه سينجح في بث ثقافة القبول وتسقيط ثقافة الإبعاد بين أتباع هذه الديانات كلها. أما إذا كان مقصورا على التحرك داخل كل رسالة لوحدها فإنه سيحفز المشتركات بين الأتباع ويجلي عنها الصدأ ويخرجها من عالم النسيان إلى دنيا الحقيقة حيث يجد كل منا ـ نحن أتباع الرسالة المحمدية ـ أن المسلم المحمدي الآخر قريب منه بشكل لا يصدق لدرجة أنهما يقفان على نفس الخط في مواضع كثيرة لا تحصى ولا تعد ولا يحتاج الأمر أكثر من جلسات حوار تطرح فيها الأفكار والتصورات والرؤى والأمنيات وتدار بالكلام الموزون وليس بالسيف كما تعودنا، لأن استخدام السيف والقوة بأنواعها متاح للحيوان والإنسان، أما استخدام الكلمة والحوار لفض النزاعات فقد خص الله سبحانه به الإنسان وحده، ليميزه عن بقية خلقه، ويسيده عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق