أرجو أن أكون مخطئاً في تحليلي، لكن أرى الآن جملة عناصر تجعلني أرجِّح حصول الضربة العسكرية الإسرائيلية لإيران، خلال الأسابيع القادمة. ربما يرجع سبب تأخير هذه الضربة حالياً إلى محاولة إنضاج قرار التدخّل العسكري لحلف الناتو في سوريا، حيث أنّ توقيت الضربة العسكرية الإسرائيلية لإيران يحتاج إلى مثل هذا التطوّر في المشرق العربي، أي أن تكون سوريا ولبنان ومنطقة المشرق كلّها منهمكة، أمنياً وسياسياً، بتداعيات الأزمة السورية. وعندما تصل الأمور إلى حدّ تدخل "الناتو" في سوريا، فإنّ ذلك يعني أنّ تطوراً سلبياً كبيراً قد حدث في العلاقات بين دمشق ودول عربية عديدة، ويعني فشل مبادرات الجامعة العربية ونجاح الدعوات المطالبة ب"الحماية الدولية للمدنيين السوريين"، والتي ستكون مقدّمتها التنفيذية من خلال تركيا العضو في "حلف الناتو".
فهناك الآن مصلحة غربية وإسرائيلية كبيرة في تأزّم الأمور بين سوريا وجامعة الدول العربية، بل في دفع هذا التأزّم إلى حدّ القطيعة، لإعطاء المبرّرات اللازمة لتدويل الأزمة السورية ولفتح أبواب التدخّل العسكري الأجنبي فيها، على غرار ما حدث في ليبيا.
إنّ الاتفاق الذي أعلنته الجامعة العربية يوم الثاني من نوفمبر، ووافقت عليه الحكومة السورية، وضع الأزمة السورية تحت مظلّة عربية، كما رسم خطوات إجرائية لوقف العنف، وللبدء في حلٍّ وطني سوري تشترك فيه أطراف المعارضة. لذلك كان هذا الاتفاق موضع نقد ورفض من واشنطن ودول غربية، ومن أطراف معارضة سورية تراهن على التدويل. ولذلك أيضاً حدث العكس بعد قرارات مجلس الجامعة العربية يوم 12 نوفمبر، حيث جرى الترحيب الأميركي والغربي عموماً بالتطوّر السلبي الذي حدث بين دمشق ودول عربية عديدة.
ولا يجب أن يصدّق أحدٌ ما تنشره وسائل الإعلام عن إمكانية استفراد إسرائيل بقرار الضربة العسكرية لإيران، فأمرٌ بهذا الحجم من الخطورة على المصالح الأميركية والغربية، لا يمكن أن تقرّره إسرائيل وحدها.
هناك، خلال الشهرين القادمين، جملة أهداف مطلوبة في وقتٍ واحد، وهي أهداف تمتدّ جغرافياً من طهران إلى غزّة، مروراً بلبنان وسوريا والعراق. فهذه المواقع الجغرافية كانت العائق أمام تنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الكبير"، الذي دعت له الإدارة الأميركية السابقة وعملت من أجله، لكنّها فشلت في تحقيقه، رغم الحروب التي حصلت على العراق (2003) وعلى لبنان (2006) وعلى غزة (2008).
الآن، وبعدما سادت خلال هذا العام في المنطقة العربية أولويّة "الديمقراطية" على "التحرّر الوطني"، وبعدما أصبح التدخّل العسكري الأجنبي (مطلباً عربياً)، وبعدما تردّدت هتافات في شوارع عربية ضدّ إيران وروسيا، وبعدما تهمّش الصراع العربي مع إسرائيل، فإنّ الظروف أصبحت ناضجةً ل"قلب الطاولة على الجميع" في منطقة المشرق العربي، ولعزلها عن إيران، التي سيتمّ أيضاً إضعافها اقتصادياً وعسكرياً، من خلال الضربات الصاروخية وتشديد العقوبات عليها.
وأجد أنّ هناك عدّة أسباب وظروف ترجّح الآن الضربة العسكرية لإيران:
1- انشغال سوريا (وهي الحليف الأكبر لإيران في المنطقة) عسكرياً وأمنياً وسياسياً بأوضاعها الداخلية وبمخاطر تداعيات هذه الأوضاع.
2- انتقال تركيا من موقع الشريك الموقِّع مع إيران والبرازيل على صيغة اتفاق لحل قضية الملف النووي الإيراني، ومن حال الصديق الحميم لدمشق، إلى موقع المواجهة مع سوريا والموافِق على استضافة "الدرع الصاروخي" الأميركي (الموجَّه أصلاً ضدّ إيران)، والذي رفضت دول أوروبية شرقية استضافته.
3- استحقاق موعد الانسحاب العسكري الأميركي من العراق، ورفض الحكومة العراقية السماح ببقاء قوات أميركية بعد موعد هذا الانسحاب. وقد جرت حملة سياسية وإعلامية في الولايات المتحدة حول مخاطر هذا الانسحاب الشامل، وبأنّه سيترك العراق بشكل كامل للنفوذ الإيراني. لكن الجانب "الإيجابي" في ذلك، أميركياً، هو عدم وجود قوات أميركية داخل العراق يمكن استهدافها إيرانياً، في حال حدوث ضربات عسكرية لمواقع إيرانية.
4- تصاعد الدعوات والتيارات السياسية الدينية في المنطقة التي تكفّر "الآخر"، مما يُشجع على انقسامات طائفية ومذهبية تجعل "العدو" هو في "الطائفة أو المذهب الآخر"، وفي ذلك مصلحة كبيرة لدى من يريدون إشعال الصراع العربي/الإيراني على أساس مذهبي، ولإقامة خرائط كيانات جديدة في المنطقة.
5- انشغال المقاومتين اللبنانية والفلسطينية بأوضاع وطنية داخلية تحاول، إمّا العزل (كما يحدث مع "حزب الله" في لبنان)، أو الأغراء بفكّ العزل (كما يحدث مع "حركة حماس" في غزّة).
6- سوء الأوضاع الاقتصادية في أميركا وأوروبا، والتي قد تتطلّب حروباً لتحسينها، كما حدث للولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وبعد حرب الخليج في العام 1991، خاصّةً أنّ كلَّ دول المنطقة، التي تعرّضت وتتعرّض لحروب، تتعاقد لاحقاً مع شركات أميركية وأوروبية لإعادة إعمار ما تهدَّم!.
7- مخاوف "حلف الناتو" من احتمالات عودة المنافس الروسي للواجهة، ومن سعي موسكو للتمايز عن واشنطن والغرب، خاصّةً بعد العودة المتوقَّعة لبوتين كرئيس للاتحاد الروسي. كذلك الحاجة للتحكّم بالطاقة النفطية، التي هي عصب الاقتصاد الصيني، بعدما سعت الصين لمنافسة الغرب في دول نفطية إفريقية (ومن ضمنها ليبيا)، والتي تربطها مع إيران علاقات نفطية جيدة. وقد كان "الفيتو" الروسي- الصيني المشترَك، في جلسة مجلس الأمن حول سوريا، مؤشراً خطيراً لدول "حلف الناتو" عن مستقبل التوازنات الدولية القادمة.
8- زيادة حدّة التوتّر بين إيران وعددٍ من دول مجلس التعاون الخليجي، وفي هذا التوتّر ما يمكن البناء عليه لتوريط دول مجلس التعاون في حرب مباشرة مع إيران، تستنفذ خلال الحرب ثروات المنطقة وأموالها، وكذلك بعدها في إعادة الإعمار.
***
نعم، "المسألة الإيرانية" هي أمر مهمٌّ التوقف عنده لدى بعض الحكومات العربية، في ظلّ وجود ممارسات إيرانية تبعث الخوف والقلق لدى بلدان الخليج العربي، لكن العامل الإسرائيلي هو المهمّ جداً في هذا "السيناريو" القادم بين الغرب عموماً، وخصوصاً واشنطن، وبين طهران، والذي سينعكس على دول الخليج العربي، وعلى المنطقة كلّها.
فمنطقة المشرق ستنهمك في تداعيات الأزمة السورية، وفي امتداد شرارتها العسكرية والسياسية إلى لبنان وفلسطين والعراق. أمّا منطقة الخليج العربي، فستكون ساحة الوغى بين إيران وخصومها، بينما ستكون إسرائيل وتركيا مع "الناتو"، في الساحتين المشرقية والخليجية.
العامل الإسرائيلي يضغط الآن لتحقيق مواجهة عسكرية مع إيران، لأنّ حدوث هذه المواجهة سيسمح لإسرائيل باستكمال ما حقّقته حتى الآن من "إنجازات"، بعد 11 سبتمبر 2001، تحت شعار "الحرب على الإرهاب الإسلامي". فإسرائيل تحصد دائماً نتيجة أي صراع يحدث بين "الغرب" و"الشرق"، وبما يُعزّز دور إسرائيل بالنسبة للدول الغربية الكبرى، وفي مقدّمتها الولايات المتحدة، والحاجة الأمنية لها.
إنّ المواجهة العسكرية بين الغرب وإيران ستؤدّي إلى تدميرٍ كبير لدى الطرفين معاً، وستكون ساحاتها ممتدّة أيضاً إلى العديد من المدن العربية، وستطال كوارثها الثروات النفطية والمالية العربية، وربّما تدفع نتائجها إلى اضطرار القوات الأميركية لمغادرة المنطقة، وإلى حصر الاعتماد الأميركي من ثمّ على القوة العسكرية الإسرائيلية.
إنّ الصراع الأميركي مع إيران استقطب، في المرحلة السابقة، الأطراف العربية بشكلٍ حادّ، وفي هذا الصراع حصلت استباحةٌ لكلّ الأساليب، بما فيها أسلوب التعبئة الطائفية والمذهبية، واستخدام وسائل الإعلام وتجييش الأقلام، لصالح هذا الطرف أو ذاك.
لذلك، فإنّ من شأن تصعيد الأزمة مع إيران، والمواجهة العسكرية لها، أن يوجد في عدّة بلدان عربية مناخاً من الصراعات الداخلية، ممّا يُشعل حروباً أهلية عربية وإسلامية تفكّك أوطاناً، وتدعم المشروع الإسرائيلي للمنطقة العامل على إقامة دويلات طائفية وعرقية، تحكمها الأمبراطورية الإسرائيلية اليهودية.
أيضاً، في الحسابات الإسرائيلية أنّ إسرائيل ستتعرّض إلى ضربات عسكرية من إيران وحلفائها بالمنطقة، لكن ستكون إسرائيل الأقلّ تضرّراً عسكرياً واقتصادياً ومالياً، والأكثر فائدة سياسياً واستراتيجياً، مع بقاء الكيان الإسرائيلي موحّداً، بل أكثر قدرةً على تعزيز الاستيطان في الأراضي المحتلة وممارسة التهجير القصري للفلسطينيين، من داخل إسرائيل ومن الضفة، وربّما للضفة الشرقية من نهر الأردن، حيث هو مشروع التحالف الحاكم في إسرائيل الآن للوطن الفلسطيني البديل.
في منطقة الشرق الأوسط، تقف إسرائيل وحدها على ترسانة أسلحة نووية كبيرة، ترسانة لا يعير الغرب أيّ اهتمام لمخاطرها في المنطقة، بينما يمنع الغرب أي امتلاك للسلاح النووي عند أي دولة عربية أو إسلامية في المنطقة. ولا قيمة أصلاً للحجّة التي يقوم عليها هذا الموقف الغربي، بأنّ إسرائيل هي دولة ديمقراطية حليفة يمكن الوثوق بها. فكثيرٌ من بلدان الشرق الأوسط يرتبط بعلاقات خاصة مع أوروبا والولايات المتحدة، ولا يُسمَح لهذه البلدان بامتلاك السلاح النووي. ولعلّ خير مثال على ذلك هو تركيا، التي ترتبط بحلف الناتو، وفيها نظام علماني ديمقراطي، لكن يمنعها الغرب، بالرغم من ذلك، من دخول عضوية "النادي النووي"!.
هناك علاقة جدلية واضحة في المنطقة العربية بين سوء الحكم في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج. كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها، بحيث لا تميّز هذه المعارضات بين إسقاط أنظمة وتهديم كيانات. لكن الخطر الأكبر الذي يواجه العرب حالياً، ومنذ احتلال العراق في العام 2003، هو تساقط الأوطان العربية واحدها بعد الآخر، وانشغال شعوب المنطقة بصراعاتها الداخلية. ولو لم يكن حال الأمّة العربية بهذا المستوى من الوهن والانقسام، لما كان ممكناً أصلاً استباحة بلاد العرب، من الجهات الأربع كلّها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق