كنتُ في بغداد (11)/ د. عدنان الظاهر

ماذا حلَّ بالعراقيين ؟
ما الذي غيّرَ العراقيين حتى جعل البعض منهم يفقد أصالته ويتنكر لأصيل معدنه فيهبط أسفل سافلين سلوكاً ودناءةً ؟ ما الذي جعل البعض من موظفي الحكومة في هذه الدائرة أو تلك ... ما الذي جعلهم ينتظرون من المراجعين تقديم رشاوى مقابل تمشية معاملة بسيطة لا تستحق تمشيتها أية رشى ؟ إبتزاز للمراجع المسكين غير المسنود بوساطة أحد المتنفذين في الدولة أو المحسوبين عليهم . ثم تدنٍ خُلُقي فالرِشوة سرقة من جهة وخيانة لأمانة الموظف وشرف إلتزامه بحدود وظيفته وخيانة أكبر للدولة التي ائتمنته وسمحت له أنْ يمارسَ مسؤوليات معينة في حقل معين من حقول الوظائف الحكومية . ماذا أسمّي سارقاً ومُبتّزاً وخائناً لشرف المسؤولية التي أُنيطت به ؟ هل فيه بقية أو أثر من ضمير أو شرف شخصي وآخر إجتماعي وهل يحترم نفسه أمام نفسه وعائلته ومعارفه ؟ أهي ظاهرة متبقية من عهود الدكتاتورية التي أطاح الأمريكان بها في نيسان عام 2003 أم أنها وليدة وإفراز الوضع السياسي الراهن والمهيمن حيث الفساد الإداري والمالي والإثراء الخيالي غير المشروع وسرقة وتهريب المليارات تجري على قدم وساق ؟ الإنسان إبن وإفراز بيئته ومحيطه والناس على دين ملوكهم كما قال القدماءُ ، لذا يحذو الأدنى حذو الأعلى والبسيط حذو الأكثر تعقيداً في السُلّم الوظيفي ولا مّنْ يلومُ فالسافلُ إستعلى والمعدمُ إستغنى وجمع المال وهرّبه ثم إبتاع العقارات داخل وخارج العراق والناس يبقون أبداً ... على دين وديدن وسلوك من يملك زمام أمورهم .
تحيّرني هذه الظاهرة فلقد علمتُ وأنا في بغداد أنَّ الموظفين يتلقون مرتباتٍ عالية تكفيهم وتزيد فما تفسيرُ جشع البعض منهم وانحدارهم الخُلقي إلى مستويات الإبتزاز وإستجداء الرِشوة ؟ هل هو في الأساس نقص وخلل في نفوسهم أو في تربيتهم العائلية أو الوقوع تحت تأثير ما يرون أمام أعينهم من فساد ورشاوى وغسيل أموال وصفقات مشبوهة وقومسيونات وبيع وشراء المناصب الدنيا والعليا ؟ أعزو هذه الظاهرة بالدرجة الأولى للسبب الأخير . إنحراف وخراب الحكومة هو السبب الرئيس وليس السبب الوحيد !
أتذكّرُ ما كان يجري في العراق زمان الحكم الملكي حيث الرشاوى كانت حديث القاصي والداني وفساد دوائر الشرطة بوجه خاص كان حديث الجميع. وكانت الحكومات الملكية تُجري بين حين وآخر عمليات فصل لبعض موظفي الدولة وبعض ضباط ومفوظي الشرطة تحت إسم تنظيف أو تطهير الدولة من الفساد والمفسدين وأنا أعرف شخصياً ثلاثة أمثلة لهذا التطهير كان ضحيتها معاون شرطة وإثنان من مفوظي الشرطة فضلاً عن مدير ناحية. كان في حينها يُقال لقد تمَّ اختيار هؤلاء الضحايا للتغطية على كبار السرّاق المعروفين المسنودين من قبل بعض رجالات الحكم أو رؤوساء العشائر . كانوا مجرد أكباش فداء . يبدو أنَّ هذا الأمر نفسه يعيد نفسه في عراق اليوم ولكن على نطاق أوسع بكثير والسرقات اليوم بالملايين والمليارات وبعملة الدولار الصعبة لا بالدينار العراقي ! كنا نُسمّي شرطي المرور زمان الحكم الملكي ( أبو الواشر ) والواشر هو درهم ذلك العهد أي خمسون فلساً ملكياً . كان راتب شرطي المرور وغيره من الشرطة سبعة دنانير لا غيرلا تكفي ثمناً لسجائره فكيف يُعيل عائلة فيها عددٌ من الأطفال ؟ ولكن ما بال بعض وزراء ونواب اليوم يشفطون الملايين ويهربونها إلى بنوك سويسرا [ حادثة النائب علي الشلاه ] وغير سويسرا من البلدان الرأسمالية والعربية ؟ هؤلاء ليسوا شرطة نوري السعيد ويتقاضون مرتبات ومخصصات خيالية متعددة الأسماء والتوصيفات والرئاسات الثلاث ليست مستثناة .
يا سادة يا موظفي دولة وحكومة العراق : ناشدتكم بضمائركم الشخصية وشرفكم وشرف أهلكم وآبائكم ثم بالشرف الوظيفي والإنساني العام ... لا تتدنوا وتأبّوا من الإبتزاز وطلب الرشاوى من المراجعيين إخوانكم العراقيين فأنتم مأجورون تتقاضون مرتبات مقابل ما تقدمون من خدمات وظيفية لبني جلدتكم العراقيين. أنصفونا وارحموا أنفسكم ولا تتعالوا علينا كمراجعين ولا تصعّروا الخدود فللصَعَرِ حدودٌ وعاقبة المُصعّر خده عاقبة وخيمة مهما طال الزمن. الرشوة عار ونار يفضحان المرتشي كما الخيانة تماماً وسواء بسواء... سيماؤهم على وجوههم .
ما السبيل للقضاء على ظاهرة الرشوة ؟ هل معالجتها والقضاء عليها هي مسؤولية المجتمع أو الدولة أو كليهما ؟ كيف السبيلُ لعلاج وتطهير نفس مريضة متدنيّة أصلاً وتربية ونهجاً ؟
الجشع هو الجشعُ والجشعون يظلون جشعين. فإذا ضاعفت الحكومة راتب الموظف الجشِع المريض المنحرف يبقى يتطلع للمزيد ثم المزيد فالمزيد. لا أعفي المُراجعَ من مسؤولية المساهمة في هذا الفساد وسوء الخلق والتصرف. الموظف المرتشي يعرف جيداً من خلال ممارسته لوظيفته واحتكاكه بالكثير من المراجعين أنَّ الإنسانَ عجولٌ يسعى لتمشية معاملته بأقصى ما يُمكن من سرعة. مقابل ذلك يقدّم الرشوة للموظف المسؤول من أجل تسريع تمشية معاملته. هذه هي الحالة الغالبة لكنها ليست الحالة الوحيدة. الحالات الأكثر خطورة هي في تزوير الوثائق أو الإلتفاف على القوانين والتعليمات أو في تبرئة جانٍ أو متهمٍ أو سارق.
الحالة الأولى مسألة شخصية بين طرفين فقط ، أما الحالة الثانية ففيها ثلاثة أطراف هي الطرفان الأول والثاني ثم الدولة والحق العام.
معلومٌ ما يجري في العالم الآخر لمسؤول حكومي حين يُتّهمُ بإستلام رِشوة ثم يحاكم فيُدان ؟ يُنشرُ الخبرُ في العديد من وسائل الإعلام ثم تُنشر وقائع جلسات محاكمته ثم تُنشر نتيجة المحاكمة حيثُ لا رأفةَ بسارقٍ أو مُستغلِّ نفوذٍ أو خائنٍ لأمانة.
لماذا تتسترُ حكومات العرب على مثل هذه السرقات والمخالفات والحكومة العراقية اليوم ليست إستثناءً ؟ كان يحصلُ مثل هذا التستر في مصر زمانَ حكم حسني مبارك لأنه هو نفسه كان متورطاً أو شريكاً في هذه المخالفات والسرقات وإذا لم يكنْ هو نفسه فزوجه أو أحد ولديه . كذلك كان الأمر في تونس واليمن. أهذه حكوماتٌ إذاً أم عصابات مافيا مُصممة للسرقة وخيانة الوطن والشعب والتغاضي عن هيبة القانون بل وتزويره وتغييره لكي يلائم إرادة ومصالح الحاكمين ؟ أحمّل حكّام العرب حصة الأسد أما البواقي فهي حصّة الثعالب وبنات آوى !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق