غاب نسيب لحود وكثرت الكتابات عنه وحوله، وتدفقت الذكريات والاحاديث من كل حدب وصوب، وذُرفت عليه دموع التماسيح من قبل الذين أهملوه وساوموا عليه، فرد عليهم قبل انتخابات ٩٠٠٢ بالانسحاب ورفض انزال اسمه في لوائح المزادات والرشاوى، وكان في تصرفه هذا أسمى من نائب اجرة او وزير بمنّة وتبعية.
هناك قصة جرت فصولها بعيداً عن رجال السياسة والاعلام وسفراء الدول ومعدّي الصفقات والطبخات غير المنتظرة.
في العام ٣٠٠٢ وفي شهر ايلول تحديداً، قمت بزيارة للولايات المتحدة حيث كانت الحركات ناشطة لاصدار قانون محاسبة سوريا. وكان العماد عون حينذاك في واشنطن وقد رفض رسميو الادارة مقابلته فاكتفى بلقاء النواب واعضاء مجلس الشيوخ وألقى خطابه الشهير في الكونغرس الذي تضمن معظم نقاط القرار ٩٥٥١ الذي تم إقراره بعد عام من ذلك التاريخ. وحذر عون في خطابه من رفع شعارات العداء لسوريا لان الهدف هو انهاء هيمنتها العسكرية والسياسية وفتح صفحة جديدة معها.
في تلك الفترة كان الهم اللبناني الاول سياسياً اختيار رئيس جديد يخلف اميل لحود في العام ٤٠٠٢. وكان الكثيرون يرغبون برئيس جديد يمتلك القدرة والمرونة الكافية لاخراج لبنان من محنته وبناء دولة جديدة على اسس وحدة وطنية ومقاربة الوجود السوري في لبنان بمفاهيم مقنعة تحفظ كرامة الفريقين اللبناني والسوري.
وقد أخبرني أكثر من صديق آنذاك ان مجموعة من اللبنانيين تقوم بنشاط حثيث وباتصالات شبه دائمة مع وزارة الخارجية الاميركية وغيرها من مسؤولين مؤثرين لاقناعهم بمفاتحة الحكم السوري ليقبل بترشيح النائب نسيب لحود للرئاسة.
وكان اختيار اسم نسيب لحود حصل بعد دراسات ومراجعات وحوار مطول بين افراد المجموعة اللبنانية التي أجمعت على اعتباره شخصية مستقلة يتمتع باحترام الجميع وعلاقاته العربية جيدة ولم يسبق له ان رفع شعار العداء لاحد او استعمل الخطاب الجارح ضد اي فريق. كان البعض يرى في وجود نسيب لحود مع مجموعة قرنة شهوان عائقاً لا يرضي الجانب السوري، ولكن الاكثرية مالت الى الاعتقاد بان واشنطن قادرة على إقناع دمشق وتليين موقفها للقبول برئيس توافقي.
وقد استغربت عندما علمت ان جميع افراد مجموعة اللوبي لا تعرف نسيب لحود شخصياً كما انها لم تستشره في الموضوع باستثناء البروفسور فيليب سالم الذي كان على صداقة مع نسيب لحود... كانت المهمة صعبة من وجهة نظر الاكثرية وكان السفير الاميركي السابق لدى سوريا واسرائيل ادوارد جيرجيان المكلف باجراء الاتصالات مع مسؤولي الخارجية. وكان جيرجيان في حينه يشغل منصب مدير مركز جيمسن بايكر للدراسات الاستراتيجية في هيوستن، وهو ابن عائلة ارمنية هاجرت من سوريا.
تواصلت الاتصالات والمساعي وكان الجانب الاميركي ثابتاً على رد واحد هو حرصه على عدم التدخل وتأييد انتخاب رئيس جديد للبنان بحسب الاصول الدستورية.
مرت الشهور دون اي تبديل في المواقف. وفي شهر تموز ٤٠٠٢ كنت في لبنان حيث التقيت هناك الدكتور سالم وسألته عن المساعي من قبل واشنطن لاجل اقناع دمشق بتأييد نسيب لحود. فهز برأسه وقال كلاماً فهمت منه ان واشنطن لا تريد اغضاب سوريا التي ستختار الرئيس اللبناني او تمدد للرئيس اميل لحود لانها بحاجة الى الدور السوري في عملية السلام مع اسرائيل كما انها مرتاحة للوضع اللبناني كما هو تحت سيطرة التوجهات السورية أمنياً وسياسياً.
وبحلول شهر آب من ذلك العام، بات من شبه المؤكد ان دمشق قررت التمديد للرئيس لحود ثلاث سنوات بعد تعديل الدستور، كما حصل عام ٥٩٩١ مع الرئيس الهراوي.
ولكن بعد شهر واحد او اقل وفي مطلع ايلول تبدلت الاجواء في واشنطن وباريس وجاءت صدمة القرار ٩٥٥١ التي خلقت اجواء جديدة واثارت التساؤلات حول التبدل المفاجىء في مواقف واشنطن وباريس. وكان الصقور الصهاينة المحيطون ببوش بزعامة ابرامس وراء الصفقة الاميركية - الفرنسية.
وعلم فيما بعد ان سبب تبدل الموقف الاميركي هو إقدام شيراك رئيس فرنسا على دعم الدور الاميركي في العراق مقابل التحرك لاخراج سوريا من لبنان. وكانت اميركا أقدمت على اجتياح العراق دون تفويض من مجلس الامن وخلافاً للقوانين الدولية وقد عارضت فرنسا ذلك بضراوة.
لا شك ان واشنطن كانت قادرة على اقناع دمشق بايصال نسيب لحود الى الرئاسة، ولكنها لم تقتنع. وها هي اليوم تتباكى عبر موفدها جيفري فيلتمان على نسسيب لحود، وكان فيلتمان نفسه سخر من لحود عندما رشح نفسه للرئاسة عام ٧٠٠٢ بحسب وثائق ويكيليكس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق