تبادل الأدوار بين بكين وموسكو/ محمد فاروق الإمام

لقد أخذت الوقاحة مداها في مواقف كل من موسكو وبكين حتى وصلت إلى درجة الإسفاف الذي لا يمكن لإنسان مهما بلغ من الوضاعة أن يقبلها، فما بالك أن يكون من يراد بهذا الإسفاف وهذه الوقاحة شعب أصيل كالشعب السوري الذي صبر على الضيم وتحمل الظلم من حكامه لنحو نصف قرن، ثم انتفض ثائراً يريد انتزاع حريته بصدور أبنائه العارية، منطلقاً بعنفوان وثبات في مواجهة آلة الحرب الجهنمية التي جابهه بها النظام السادي الذي يحكمه، غير آبه بما يقدم من تضحيات ثمناً لهذه الحرية التي أقسم على نيلها ولن يتراجع.. فإما الشهادة أو النصر!!
اليوم وبعد شعور موسكو بأنها تعجلت في موقفها المنحاز إلى العصابة الحاكمة في دمشق وأرادت تصحيح ذلك ببعض التراجع عن مواقفها المتصلبة إلى جانب النظام السوري، بعد المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الروسي ميدفيدف مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وقد سمع منه كلاماً يرقى إلى درجة التوبيخ، عندما قال له: "كان على موسكو أن تستشير العرب قبل استخدام الفيتو في مجلس الأمن" ضد قرار كان يطالب النظام السوري وقف العنف ضد شعبه والقبول بالمبادرة العربية التي قدمتها الجامعة العربية لوضع حد للأحداث الدامية في سورية.
لتخرج علينا بكين بتصريحات نارية تؤكد فيها رفضها لأي تدخل في الشؤون السورية الداخلية "بذريعة قضايا إنسانية"، وفق ما نقلت وكالة أنباء الصين الجديدة عن وزارة الخارجية الصينية، وكأنها بذلك تريد تبادل الأدوار مع موسكو، ليجد المجتمع الدولي نفسه أمام حالة فريدة بين مد وجزر، والشعب السوري يدفع الثمن بحصد أرواح أبنائه التي باتت منظمة حقوق الإنسان عاجزة عن إحصائها أو إعطاء آخر عدد صحيح لأرقامها.
المجتمع الدولي الذي لا زال يشجب ويندد بالقمع الذي يمارسه النظام السوري بحق شعبه منذ سنة تقريباً، وقد صبغت دماء أبنائه كل شارع وساحة وزقاق وحي وميدان مجمل المدن والبلدات والقرى السورية في طول البلاد وعرضها، وطوى الركام وحطام البيوت المدمرة جثث وأطراف الآلاف من قاطنيها، ويرفع من عقيرة غضبه عبر تصريحات قادته ومسؤوليه على مجرمي النظام السوري وقتلته وسفاحيه، دون أن يبخلوا بوصفه بأقذع مفردات اللغات والأبجديات الهابطة التي يمكن أن تحتويها لغاتهم، معلنين عجزهم عن فعل أي شيء لأجل هذا الشعب الذي يذبح من الوريد إلى الوريد في واضحة النهار، معلنين عن أساهم وحزنهم عما يجري في سورية ولا يملكون الحيلة التي تساعدهم في وقفها، محتجين بموقف موسكو وبكين والفيتو الذي تلوحان به.
المجتمع الدولي المنافق والكاذب هذا يعلن عن عجز من لا يريد وليس عجز من لا يستطيع، فكيف لنا ان نصدق عجزه وهو الذي بالأمس القريب لم يلتفت إلى مجلس الأمن ولا إلى من يملكون الفيتو عندما قرر غزو العراق وأفغانستان، وعندما أراد ان يضع حداً لمأساة البوسنة والهرسك وإقليم كوسوفو!!
السؤال ليس صعباً الإجابة عليه فعند ايهود باراك وزير الدفاع الصهيوني الخبر اليقين، الذي طلب من الإدارة الأمريكية في زيارته الأخيرة إلى واشنطن بالعبري الفصيح إلى عدم الضغط على "بشار الأسد"، وهذا يجعلنا نؤكد، وعلى قناعة، أن مواقف الغرب وأمريكا في موضوع الأزمة السورية تخضع لإرادة تل أبيب واملاءاتها وما يتوافق مع مصالحها، وليس مع الأخلاق والقيم والشعارات الإنسانية والديمقراطية التي تنادي بها، ودليلنا انخفاض حرارة التيرمومتر الأوروبي والأمريكي تجاه الأزمة السورية، ورضوخهما لمطالب الوزير الصهيوني في التوقف عن الضغط على بشار الأسد، الذي اهتبل هذه الفرصة وشن حملته الهمجية على حمص وحماة والرستن ودير الزور وإدلب وجبل الزاوية ودرعا وريف حلب وريف دمشق وأزهق أرواح الآلاف فيها وهجر الآلاف منها، ومع كل هذا التصعيد الدموي الرهيب لم يغير الرئيس الأمريكي أوباما من سياسته التي اتبعها منذ فترة وتوقف عندها حيال ما يجري في سورية التزاماً برغبات تل أبيب، فما يزال مصراً على التمسك بسياسة "الضغط الاقتصادي والدبلوماسي، كأفضل وسيلة، في تقديره، لدفع الرئيس السوري بشار الأسد للتنحي".
سنة أليمة وحزينة مخضبة بدماء الأحرار وعبق أرواح الشهداء ونواح الثكالى وعويل الأرامل وبكاء اليتامى، ودعاء الشيوخ الركع وصراخ الأطفال الرضع، وحفيف نعال النساء والأطفال والعجز الهاربين من الموت والفارين من القتل نحو الجبال والوهاد والدول المجاورة على غير هدى، طلباً للنجاة من فوهة دبابة أو قذيفة مدفع أو رصاصة بندقية قناص فاجر أحمق أو ساطور شبيح باع نفسه للشيطان، والعالم، ولست مغالياً، عرباً وعجماً على هذه التراجيديا يتفرج، ويشاهد ما تبثه القنوات الفضائية على شاشاتها من صور أليمة ومفزعة ومرعبة عما يجري في سورية، بلد أول من قدم للبشرية أول أبجدية للتفاهم والتخاطب فيما بينها، ولم تحرك هذه الصور المفزعة في هذا العالم إلا بعض عبارات الألم والحزن وبعض بيانات الشجب والتنديد، التي كانت حقن مورفين تقوي من إصرار النظام السوري السادي وتشد من أزره للتغول في قمع الشعب وذبح الأطفال وهتك أعراض النساء وتكسير عظام الشيوخ والتمثيل بجثث القتلى من الرجال، في مجازر بشعة لم ترو كتب التاريخ مثيلاً لها.
ليس لكم يا أحرار سورية إلا الله.. فقد تخلى عنكم العالم كله بعربه وعجمه فتمسكوا بحبله المتين.. فلا ناصر لكم إلا الله وسواعدكم وصبركم وجلدكم وتصميمكم وإرادتكم وقد رحتم في الشوط بعيداً، وما النصر إلا صبر ساعة وينبلج ضوء النهار ويخبو ظلام الليل ويتبدد سواده ويندحر أهله إلى مزابل التاريخ حيث جنة الطغاة والمستبدين ونعيمهم إلى جانب خنفساء الأرض التي لن تضيق بهم وستجد معهم حسن الصحبة والجوار!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق