مولاي عقلي/ جواد بولس

في كل مرة تصطحبني المحبة لعزاء صديق فقدَ لتوِّه عزيزًا، أعود حائرًا وأحيانًا حتى الغضب. بيوت العزاء، التي غالبًا تقام كما يليق بالشرف والجرح المعتّق، مفصولة نظيفة من نجاسة وعورات، فالرجال إخوة للرجال وكفانا الله شر إغواء صحبتهن، فأينما حللن تربص بنا الشيطان.
الصمت في هذه البيوت، كما دائمًا، حكمة وفرصة للتفكر. صمت لا ينتصر عليه إلا قلة ممَّن أتقنوا الوصاية وائتمنوا سفراء الرب على الأرض، فتلقينُ العباد وصايا وهدايتُهم فريضة، سيّان إن أقنعوا مصغيًا أم لا، فكرازتهم تذكرتُهم للنعيم وللجنّة بلا ريب.
لطالما تساءلت لماذا علينا أن نقبل بصمت مصطنع وبرفض مكتوم، ما يهذي به بعضهم وكأنهم أصحاب علم لا يجارون وسبَّاقون لخير لا يبارى ونثّارو حلم وأخلاق لا تدانى ولا تساءَل؟ حرية المؤمن بعقيدة لا تعرف حدودًا في مجتمعنا. حريته لا تجاريها حريّة ولا حتى تساويها. حريتهم محصَّنة لا حق لعاقل أو مرتاب أو مسترشد أن يقترب منها أو أن يحدَّها لتفسح لحريات غيرها نطاقًا وأفق عيش.
هنالك حالة من الهلع الاجتماعي الطاغي الذي أحل الغيبَ في دواويننا ومجالسنا وغيّب العقلَ والمنطق. البعض يحسبها ظاهرة هامشية لا تؤثر ولا تطبّع عقول مستمعين. والبعض يعرف أنها أخطر من ذلك ولكن يلتزم الصمت تقيَّةً وتسهيلًا لعيش يريده سالمًا.
عجيبة أحوالنا، تصوّروا بيت عزاء مليءٍ بعشرات الأكاديميين المتخرجين من كلّيات وجامعات مرموقة، حملة درجات علمية عالية ومتميِّزة في الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والطب والرياضيات والتاريخ والجغرافيا، وبعضهم تخصص وشهدت له البرايا من كل فج ومختبر وقاعة تدريس، تخيلوا أن جميع هؤلاء يجبرون على الإصغاء لخطبة رجل تسربل الدين نهجًا ومهنةً، وكل زاده تأهيل أوّلي في مدرسة ابتدائية أو مدرسة لاهوت عادية أو كلية دين أو شريعة. رجل دين يؤمن، كما آمن أهل أوروبا طيلة ستة قرون، حين أقنعهم بابا، مبعوثُ الربِّ المعصوم عن خطأ ومنزّه من خطيئة، (اسمه لوتسيوس الثالث عام ١١٨٤) أن من لا يؤمن كما يؤمن هو وكنيسته، يكون كافرًا، مصير جسده المحروق أن يضيء طرقات أوروبا الجهل والفقر والإيمان المطلق.
ستة قرون قاد فيها رجال دين أمة كاملة بالتخويف والتنكيل والتعذيب. محاكم التفتيش أنشأها بابوات أوروبا وكرادلتها وباسم الرب اتهموا كل معارض بالشعوذة والزندقة والكفر، عذّبوا وقتلوا فامتلأت أوروبا بالساحرات والكفرة "والسبب الوحيد الذي لم يؤدِّ إلى عدم اعتراف جميع أبناء الأمة بهذه التهم هو أنّهم لم يستطيعوا تعذيب جميعنا" هكذا جاءت شهادات من نجا ووثّق.
قبل أسمائهم تلألأت صفاتهم، بها دعتهم العامة التي تبعتهم من خوف ومن ملق ومن أمل، فدائمًا كان الإيمان ظلا لأمل الإنسان بحياة أحسن بعد القبر أو ليس أكثر من تزاوج يائس بين الأمل والجهل. فنيافة كاردينال مدينة طولوز حاول في أحد أيام عام ١٢٣٤أن يقنع من كانت تنازع ساعتَها الأخيرة بأن تعترف به وأن تترك إيمانها بتعاليم فرقة أخرى. رفضت العجوز، فهي مؤمنة بمن وعدها بالنعيم والجنة، مؤمنة حتى التعصب وحتى الرماد. حدّثوها باسم الرب والإيمان القويم وخير الأمة والعباد، لكنّها ما عرفت أنّ التعصب يكون حيث يكون الإيمان مطلقًا واليقين قاتل. فشيخ الكهنة، حاول وفشل فنفَّذ ما على المؤمنين الأوصياء، العالمين بكل حقيقة وصواب، وعاد مع جنده ومريديه، إلى غرفة الطعام، شكروا الرب وغسلوا أيديهم واستلذوا بوجبة طعام أعد خصيصًا للمناسبة، فلقد شهدوا واطمأنوا أن الكافرة وسريرها أمسيا رمادًا وعبرة.
ستة قرون تبعت أمم أوروبا شيوخها وعلّاماتها الذين قُدَّسوا ونُزّهوا ورَوّعوا من تخلوا عن يقينهم المطلق ولحقوا علماءهم ليعرفوا أن للعواصف مسبّبات وكذلك للبرد والمطر والرياح، وأن هذه كلَّها لا تسببها عجائز شمطاوات أو غضب الآلهة هناك على الأولمب. أولئك أكلوا مما يزرعونه لأنهم فقهوا أن الجفاف لن تداويه صلاة استسقاء إذا لم يسعفهم علماء المناخ والأرض، ولبسوا من نسيجهم لأنهم ما خافوا من بخار ولا من حبر ولا صرخة عاشقة شقت ثيابها لتسقي ساحة الباستيل حليب الصبح والكلام المباح.
ستة قرون بطشت بها ظلمة القبر وعذابه فعطَّلت البصر وشوَّهت البصيرة وستة قرون جال بها من بصولجانات العرش وناصيات كلام الرب أمسكوا فكانوا سلاطين لا يجوز لابن انس أن يسائلهم ولا يجوز لآدمي أن ينتقدهم أو يحاورهم أو، لا قدر طيش وغباء، أن يخطِّئَهم.
أوروبا، وبثمن دماء أبنائها الأبرياء، تعلمت أنّه لا يمكن لأمة أن تعيش برغد وكرامة وحرية وسلام إن كانت حرية العقيدة والإيمان حرية طاغية مطلقة لا تقبل بجانبها أية حرية أخرى. أوروبا عرفت أن التسامح المنشود لن ينمو إلا إذا تخلص الإيمان المطلق من يقينه المطلق ولذا وبعد ستة قرون دامية توقفت أوروبا عن قتل أبنائها، من جميع الديانات، بتهمة الكفر.
فالتسامح لا يقتصر على مسيحي يعايد على مسلم بعيده، ويعاضده في شدة ورزية وفي قلبه يعدُّه كافرًا غيرَ مرغوب به، والتسامح لن يكون فقط إذا جلس المسيحي في ذلك العزاء ساكنًا صاغرًا متقبلًا دعوات شيخ يدعو للمسلمين بالنصر والغلبة على "اليهود والنصارى" ويترحَّم على أموات المسلمين وكأن الرحمة لا تليق بمرقس أو باندراوس.
مولاي عقلي، حصن حريّتي، وغيره لا مولى. ومعذرة يا قلبي، فلا تعتذر عن قولك كلمة حق، حتى وان كانت في وجه سلطان وشيخ جائرين، ولا تخف عذابَ قبر إن بالطريق قاومتَ من يحاول قطع عنقك برزقك. فالحياة علَّمت من وصل ولم يكتف بالحلم وبالقمر أن اليقين قاتل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق