......لا أعرف لماذا دائماً نحن العرب نلجأ إلى خلق الذرائع والتبريرات لمصائبنا وهزائمنا،وكأن المسؤول عنها دائماً هي قوى خارجية وليس من فعل أيدينا وأنفسنا،والأنكى من ذلك أننا نوغل في الكذب والتبرير والتضليل والخداع،حتى أننا نحول هزائمنا ونكباتنا ومصائبنا إلى انتصارات عظيمة،ويبدو أن عقليتنا من الجاهلية الأولى والتي تعودت على عبادة الأصنام وتقديسها،لم تجدي معها نفعاً الرسالات السماوية في ضرورة التخلي عن تلك الأصنام وعبادتها،فقد بقيت الشعوب العربية تقدس وتعبد أصنامها إلى فترة قريبة جداً،حيث تربع على عروش قيادتها ملوك ورؤوساء وأمراء لمدد تزيد عن ربع قرن أو حتى تصل الى نصف قرن،وهذه الأصنام لم تعمل لشعوبها سوى نهب خيراتها وثرواتها وزيادة فقرها وتجهيلها وتكميم أفواهها وقمع حرياتها وتهميش دورها وتحويل جغرافيتها إلى أرض مستباحة للأعداء يستخدمونها متى وكيف يشاؤون في تقويض الأمن القومي العربي والأعداء أو احتلال أي بلد عربي يتعارض أو لا يتفق مع أهدافهم ومصالحهم في المنطقة.
وبالعودة إلى ما نطلق عليه بنكسة حزيران،والتي استكملت فيها إسرائيل ما تبقى من فلسطين التاريخية،واحتلت هضبة الجولان السورية وصحراء سيناء المصرية وجزء من الأراضي الأردنية،وبمعنى أدق كانت هزيمة ساحقة وماحقة فاقت تأثيراتها وتداعياتها ما ترتب على النكبة الفلسطينية،والتي كانت تأثيراتها وتداعياتها مقتصرة على الشعب الفلسطيني،حيث طرد وشرد الشعب الفلسطيني من أرضه بفعل ما ارتكبته العصابات الصهيونية بحقه من جرائم وفظائع،وليتم الاستيلاء على 78% من مساحة فلسطين التاريخية،وليسلم الفلسطينيين قدرهم للأمة العربية من أجل استرجاع أرضهم،ولكن النتيجة كانت شعارات كبيرة "وجعجعات" على غرار "جعجعات" المذيع المصير الشهير المرحوم احمد سعيد "تجوع يا سمك" وبأسنانكم وبأظافركم"...الخ،وبدون أية استعدادات أو تعبأة أو اعداد أو توعية لا على المستوى السياسي ولا العسكري ولا الجماهيري،لتكون ما نسميه بنكسة حزيران بالهزيمة الساحقة والماحقة،ولتهزم معها البرجوازية الوطنية العربية وبرامجها،تلك الهزيمة أحدثت صحوة فلسطينية،صحوة تشدد على أهمية العامل الذاتي الفلسطيني في استعادة الأرض والعودة،دون التخلي عن ضرورة وجود بعد قومي للصراع وحواضن عربية للثورة الفلسطينية،وقد نجحت فصائل المقاومة الفلسطينية التي توحدت في جبهة وطنية في إطار منظمة التحرير الفلسطينية في المحافظة على الهوية والكيانية الفلسطينية،وأن تبقي القضية الفلسطينية وحقوق شعبنا الفلسطيني حاضرة بقوة عربيا واقليميا ودوليا،رغم أنها لم تستطع أن تحرر الأرض الفلسطينية أو تعيد لاجئي شعبنا إلى أرضهم ووطنهم،ليس فقط بفعل حجم وكبر المؤامرة والقوى الاستعمارية الكبيرة فقط الواقفة خلف المشروع الصهيوني،وانهيار النظام الرسمي العربي،بل أيضاً القيادة الفلسطينية كان لا أخطاؤها التي لا يستهان فيها في هذا الجانب وخصوصا أنها المسؤول الأول عن الشعب الفلسطيني.
المهم ما بعد هزيمة حزيران ومروراً بحرب اكتوبر 1973 التحريكية،والتي تبعتها حالة من تمترس وتشبث قيادات عربية بالزعامة،قيادات تستدخل الهزيمة وتصورها على أنها انتصارات،وما استتبع ذلك من تغير في بنية ودور ووظيفة النظام الرسمي العربي،نتيجة البترودولار الخليجي،ولتصل الأمور الى ذروتها بعقد القيادة الرسمية المصرية لاتفاقية "كامب ديفيد"،وما عنته تلك الاتفاقية من خروج لمصر بثقلها العسكري والسياسي والبشري من الصراع مع الاحتلال الصهيوني،وما ترتب عليها من تصدعات في الجسم العربي وتقسيمه الى معسكرات،وتهميش للقضية الفلسطينية،هذا الانهيار العربي الرسمي العربي،المترتب عليه تحويل الاهتمام بالقضية الفلسطينية من قضية مركزية ومحورية للأمة العربية الى قضية ثانوية.
هذا دفع وقاد إلى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى - انتفاضة الحجر كانون أول/1987،والتي أعادت القضية الفلسطينية إلى الصدارة عربيا ودوليا،ولكن أيضا دون أن تتمكن من نقل مشروع الدولة الفلسطينية من الإمكانية التاريخية إلى الإمكانية الواقعية،حيث أن التطورات الموضوعية والعوامل الخارجية كانت مجافية جداً،انهيار دول المنظومة الاشتراكية وفي المقدمة منها الاتحاد السوفياتي سابقاً،وتدمير العراق ومن ثم احتلاله لاحقاً من قبل أمريكا والقوى الاستعمارية الغربية.
هذه العوامل مضاف اليها ضعف الحالة العربية الرسمية وانهيارها ،وتنامي قوة الاحتلال العسكرية،كلها قادت إلى اختلال كبير جدا في ميزان القوى،وبالتالي عقد مؤتمر لما يسمى بالسلام في مدريد 1991 فرضت فيه إسرائيل وأمريكا كامل شروطها على العرب والفلسطينيين،بحيث كان عقده ونتائجه وقراراته تتويجاً لهزيمة عربية شاملة.
ولتكرس تلك الهزيمة بعقد اتفاق أوسلو،هذا الاتفاق الذي قاد الى نصر ثاني للحركة الصهيونية،نصر يوازي في نتائجه وتداعياته،ما حققته الحركة الصهيونية في انتصارها الأول،بإقامتها دولتها فوق 78% من أراضي فلسطين التاريخية (النكبة الفلسطينية)،فأوسلو قسم الأراضي الفلسطينية الى معازل (أ و ب وج )،كذلك قسم الشعب الفلسطيني سياسيا ومجتمعياً.
وشعبنا ما زال حتى اللحظة الراهنة يدفع الثمن لهذا الاتفاق،الذي رحل قضايا جوهرية وهامة مثل القدس واللاجئين والاستيطان والحدود إلى المراحل النهائية،لكي تستغله إسرائيل في تنفيذ خططها وبرامجها،وتصعد من وتيرة استيطانها في الضفة الغربية،وتحكم سيطرتها على مدينة القدس عبر مشروعها للتطهير العرقي من خلال الأسرلة والتهويد،لكي تخرجها من أية مفاوضات أو حلول تعيد تقسيمها كعاصمة لدولتين فلسطينية وإسرائيلية،وتفرض على الطرف الفلسطيني استمرار خوض مفاوضات عبثية وعقيمة لمدة 18 عاماً دون أن تلتزم بتقديم أية تنازلات جوهرية للطرف الفلسطيني،بل على العكس المفاوضات كانت غطاء للاستيطان المستمر والمتواصل وبموافقة ضمنية فلسطينية،ودون ان ينجح الطرف الفلسطيني في بناء إستراتيجية جديدة تقوم على الصمود والمقاومة والخروج من مجرى المفاوضات ومغادرته كنهج وخيار وثقافة،ولتزيد الأمور ضعفا للعامل الذاتي الفلسطيني بانقسام الجسد الفلسطيني بين غزة والضفة الغربية،ولكي يجد الشعب الفلسطيني نفسه أمام واقع جديد حكومتين في غزة والضفة الغربية،لم تنفع كل الحلول والاتفاقيات والمبادرات والضغوط الفلسطينية والعربية شعبية وفصائلية ورسمية عربية في وضع حد لهذا الانقسام المدمر،حيث أن غياب الإرادة السياسية عند طرفي الانقسام (فتح وحماس) وتغليب المصالح الفئوية والحزبية على المصلحة الوطنية العليا،ووجود شرائح قيادية عند الطرفين مستفيدة من بقاء الانقسام واستدامته وكذلك التدخلات العربية والاقليمية والدولية الحاضرة في الشأن والقرار الفلسطيني بقوة،تجعل من قوى الدفع الواقفة خلف الانقسام واستدامته قوية وكبيرة،وبدون أن تكون هناك إرادة وقناعة عند حملة ودعاة الانقسام بأن المطلوب هو اتفاق وطني شامل ينهي هذا الانقسام المدمر،وليس اتفاقيات محاصصة لم تصمد على ارض الواقع كسابقاتها،وهذا يعني بأن هزائمنا ستستمر وسنواصل في أن نخترع لها الأسماء والمسميات على انها نكسات ووكسات بسيطة لا على أنها هزائم كبيرة كهزيمة حزيران التي أسميناها بالنكسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق